أقلام وأراء

عبد الحليم قنديل يكتب –  رد اعتبار منظمة التحرير

 عبد الحليم قنديل *- 12/6/2021

قبل أيام من بدء حوار الفصائل الفلسطينية، الذي كان مقررا، وصل وفد كبير من قيادة حركة حماس برئاسة إسماعيل هنية إلى القاهرة، ربما لإدارة حوار منفصل مع جهات مصرية معنية، ينصرف غالبا لتفاصيل التفاصيل في الجهد المصري غير المسبوق لإعادة إعمار قطاع غزة، وربما إلى صفقة تبادل أسرى جديدة، قد تماثل في حجمها صفقة «وفاء الأحرار» التي جرت قبل عشر سنوات، وكان يحيى السنوار قائد حماس في غزة اليوم، أحد العائدين للحرية بمقتضى شروطها، وكانت الوساطة المصرية فيها العنصر الأكثر فاعلية وحسما.

وخارج دائرة علاقات حماس بالسلطات المصرية، تبدو القاهرة مهتمة أكثر بقضية «المصالحة الفلسطينية» القديمة الجديدة، وقد بدأت كما هو معروف من نحو 14 سنة، إثر انتخابات تشريعية فلسطينية، جرت عام 2006، وتقدمت فيها حركة حماس على حركة فتح، وتشكلت بعدها حكومة برئاسة هنية، سرعان ما آلت إلى انفراط بسبب خلافات سياسية، وتطور الموقف سريعا إلى الأسوأ، ودارت اشتباكات دموية أواسط 2007 بين فتح وحماس، انتهت بسيطرة «حماس» واقعيا على الوضع في غزة، التي تشكلت فيها سلطة موازية لسلطة الرئيس محمود عباس في رام الله.

ومن وقتها، انعقدت مئات الاجتماعات تحت عنوان المصالحة، وكانت القاهرة هي القبلة الطبيعية لأهم هذه الاجتماعات، التي دار أحدثها على جولتين في فبراير ومارس من العام الجاري 2021، وضمت إلى جوار فتح وحماس كل الفصائل الفلسطينية كبيرها وصغيرها، وصدرت عنها وثائق وبيانات، واتفاقات تفصيلية مسهبة، وبجداول زمنية محددة، نظمت عملية إجراء انتخابات ثلاثية متعاقبة، تشمل البرلمان فالرئاسة ثم المجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية، تعثرت كلها في التنفيذ مع أول خطوة، ومع قرار سلطة الرئيس عباس وقفها أو تعليقها، وإلى حين سماح إسرائيل بإجراء انتخابات في القدس كما قيل، وهو ما أعاد الأوضاع إلى نقطة الصفر ذاتها، وإلى اتصال الانقسام ذاته، مع انشقاقات مضافة في حركة فتح نفسها، وبما تعذر معه التوصل إلى اتفاق مبدئي سريع بين فتح وحماس، على ملامح عملية لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، ما قد يدفع القاهرة لبعض التريث في الخطى قبل فتح الحوارات العامة.

والمثير في الوضع الفلسطيني الراهن، أننا بصدد مفارقة تبدو صادمة، بين وحدة الشعب الفلسطيني الكفاحية، التي ظهرت بأكمل وأجلى معانيها مع قيامة القدس الأخيرة، التي أعادت القضية إلى صباها وفتوتها وحرارتها وشمولها الأول، بينما تبدو الأوضاع القيادية الفلسطينية في مكان آخر تماما، من حيث الانقسام والتنازع وتبادل الاتهامات، ومضغ الهواء الفاسد المتقادم، والصراع حول سلطة افتراضية، أو «سلطة بلديات» كما كان يصفها الفلسطيني العظيم الراحل إدوارد سعيد، فهي لا تزيد عن كونها سلطة حكم ذاتي محدود الصلاحيات بمقتضى «اتفاق أوسلو» سيئ الذكر، الذي لم يلتزم به أبدا جيش الاحتلال الإسرائيلي، ولم ينسحب من «غزة» عام 2005، إلا تحت ضغط رصاص الانتفاضة الفلسطينية الثانية، بينما تدهورت الأوضاع أكثر في الضفة الغربية، التي يطلق عليها الاحتلال تسمية «يهودا والسامرة « التوراتية، ومنحته توابع «أوسلو» المهينة، بما فيها «التنسيق الأمني» لمطاردة خلايا الفدائيين، فسحة هدوء طويلة، امتدت لنحو ثلاثين سنة إلى اليوم، توحش فيها الاستيطان والتهويد، وبأضعاف أضعاف ما كان يجري قبلها، وزحف حضور الاحتلال اليومي المباشر من مناطق «ب» و»ج» في الضفة الغربية، إلى مناطق «أ» التي يفترض أنها تابعة للسلطة الفلسطينية، وهو ما جعل الرئيس عباس نفسه يسخر من وضع السلطة، ويتبرم من الحالة «الوظيفية» في خدمة الاحتلال، التي أرادتها إسرائيل، ويعلن مرارا في السنوات الأخيرة، وعبر اجتماعات عديدة للقيادة الفلسطينية بمختلف هيئاتها، أنه يتجه لإلغاء الالتزام باتفاقات أوسلو وأخواتها، ولم يترجم الإعلان للأسف إلى واقع ملموس، بل جرى العدول عن الإعلان نفسه، وبما زاد من دواعي الانقسام، رغم أن حركة حماس نفسها، قبلت عمليا الالتزام بمقتضيات أوسلو، منذ قررت المشاركة في انتخابات مؤسسات السلطة، وهو ما قد يتطلب اليوم اتفاقا جامعا على الخروج، وإعلان التبرؤ من التزامات أوسلو، فقد صارت قصة أوسلو كلها تحت الأقدام، بعد القيامة الفلسطينية الأخيرة، واستعادة وحدة كفاح الشعب الفلسطيني، من القدس إلى غزة والضفة الغربية، وإلى مدن وقرى الداخل الفلسطيني المحتل في نكبة 1948، وإلى التجمعات الفلسطينية على خرائط اللجوء والشتات، التي لعبت الدور القيادي الباهر في غضبة أحرار العالم المساندة للحق الفلسطيني. وقد لا تكون العودة إلى فكرة الانتخابات حلا، بل أقرب إلى مصيدة تفاقم التخبط والانقسامات، فلا قيمة وطنية جامعة لإجراء انتخابات تحت الاحتلال، والبديل ظاهر ومعروف في كل تجارب التحرير الوطني، وفي تجربة الشعب الفلسطيني نفسه، الذي بلور هويته الوطنية الجامعة في تجربة منظمة التحرير الفلسطينية، وكانت القيادة الفلسطينية قبلها مفرقة ممزقة، واستمرت التجربة صامدة على مدى نحو ثلاثة عقود، من أواسط ستينيات القرن العشرين إلى قرب أواسط التسعينيات، ثم زحفت عليها أمراض التآكل والضمور بعد اتفاق «أوسلو» وسلطاتها، وصارت أشبه بورقة ميتة معلقة على جدار باهت، وفي كل حوارات الفصائل الفلسطينية التي سبقت، وأبرزها حوارات القاهرة، كان الاتفاق الورقي يبدو ظاهرا على استعادة حيوية منظمة التحرير، وضم حركتي «حماس» و»الجهاد الإسلامي» إليها، وجعل عصمة القيادة في يدها، لا في الأيادي المفرقة لكيانات وسلطات ما بعد أوسلو، ونتصور أن حوار القاهرة المقرر، عليه أن يخرج من غابة التفاصيل المسكونة بالشياطين، وأن ينصرف إلى نقطة واحدة تتقدم ما عداها، هي إحياء منظمة التحرير على نحو جامع، مع التخلي الطوعي لقيادات هرمت على كراسيها، وبغير جدال كثير على توزيع القسمة القيادية، ولو باللجوء إلى «مثالثة» المقاعد بين فتح وحماس والفصائل الأخرى مع المستقلين، وإلى أن تتهيأ ظروف إجراء انتخابات جامعة للمجلس الوطني، الذي هو برلمان منظمة التحرير، ولو حدث شيء من ذلك في اجتماعات القاهرة الجديدة والمقبلة، لكان ذلك إنجازا ينتظره الشعب الفلسطيني، الذي يواصل بطولاته وتضحياته على كل الأراضي الفلسطينية من النهر إلى البحر، ويمكن لمنظمة التحرير الموسعة، مع تجديد صفتها كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، أن تتولى وحدها مهمة تشكيل قيادة وطنية موحدة للعمل الميداني الهادف لإنهاك الاحتلال، تضبط إيقاع الهبات الشعبية، ونوبات المقاومة المسلحة، وتنشئ ما يلزم من إدارات رعاية الشؤون اليومية الحياتية للشعب الفلسطيني، وتتولى التنسيق مع الهيئات القيادية للفلسطينيين في أراضي 1948، وتردع اتجاهات خطرة في الداخل الفلسطيني، تعاكس الروح الجديدة الموحدة لقيامة الشعب الفلسطيني، وتحاول تذويب الفلسطينيين في حمض كبريتيك الاحتلال، وتعود إلى فكرة «أسرلة» الفلسطينيين من جديد، على نحو ما يفعل حزب منصور عباس الإخواني، الذي يقدم خدمة مشينة لحكومات الكيان الصهيوني المتعثرة، ويتسابق إلى المشاركة فيها، ويعرض خدماته على نتنياهو ومنافسيه في الوقت ذاته، وعلى طريقة ترويج ملصق «كلنا معك يا أبو يائير» في إشارة محبة عائلية لنتنياهو ونجله يائير، عشية الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، ثم القفز إلى مراكب منافسي نتنياهو، من نوع بينيت وساعر وليبرمان ولابيد في الحكومة الإسرائيلية المحتملة، وكلهم أسوأ من نتنياهو في إنكار حقوق الشعب الفلسطيني، وإنكار وجوده القومي المستقل من أصله، ودعم الاستيطان اليهودي في الضفة والقدس، إضافة لخطايا الخضوع المباشر لسيطرة الحركة الصهيونية العنصرية، وتمزيق منصور عباس لوحدة «القائمة العربية المشركة» التي كانت حصلت على 15 مقعدا في انتخابات الكنيست قبل الأخيرة، وتراجع نصيبها بعد التمزق في آخر انتخابات إلى ستة مقاعد لا غير، يداوم أصحابها على رفض الاحتلال والعنصرية و»الأبارتايد» الإسرائيلي، ويتعرضون لمطاردات واتهامات بخيانة إسرائيل، في ما يحظى أمثال منصور عباس بمحبة الإسرائيليين وأحزابهم، فهو لا يطلب سوى منافع صغيرة له ولنفوذ جماعته غالبا، مقابل التسليم بشرعية أبدية زائفة لكيان وتحكم العنصرية الصهيونية.

رد اعتبار منظمة التحرير هو واجب الوقت الفلسطيني، وليس العودة للدوران في حلقات مفرغة، والانسياق وراء اقتراحات تأليف «حكومة وفاق وطني» لترميم «أوسلو» لن تدوم طويلا، فنقطة البدء الصحيحة فيما نظن، هي الخروج من «أوسلو» ومصائد التكالب على حكوماتها الموهومة، والاتفاق على برنامج عمل سياسي وميداني وعربي وعالمي، تقوده منظمة تحرير جامعة، تواكب الحيوية المستعادة لكفاح الشعب الفلسطيني المنتصر بإذن الله.

 *كاتب مصري .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى