شؤون مكافحة الاٍرهاب

عبدالله سليمان علي يكتب – تساؤلات حول داعش: الولاء الصلب وعدم التّفكك برغم الهزائم

عبدالله سليمان علي *- 27/12/2020

تلقّى تنظيم “داعش” آخر هزائمه العسكرية في شهر آذار (مارس) من العام 2019، وفي تشرين الأول (أكتوبر) من العام نفسه خرج زعيمه أبو بكر البغدادي من المشهد إثر عملية كوماندوس أميركية انتهت بمقتله في بلدة باريشا في ريف إدلب الشمالي.

 وكان من المفترض أن تؤدي الهزيمة العسكرية الأخيرة، بما انطوت عليه من خسارة آخر بقعة جغرافية يسيطر عليها داعش، معطوفة على اغتيال زعيمه الذي أخرج التنظيم من تحت أنقاض هزائمه على يد الصحوات في العراق بين عامي 2007 و2009، إلى جملة من التداعيات التي تمسّ البنية الهيكلية للتنظيم وطبيعة علاقته بفروعه المنتشرة في عدد من البلدان حول العالم.

 ولكن بعد انقضاء عام ونيف على مقتل البغدادي، لا تزال علامات استفهام كثيرة تدور حول حقيقة ما جرى وتأثيراته الفعلية في بنية التنظيم وامتدادته الإقليمية. وبعض التساؤلات التي تشغل بال الباحثين والمختصين لا تقتصر على التشكيك بـ”الهزيمة” ومفهومها ودلالاتها وفق ما استخدمته بعض العواصم لإعلان انتصارها على “داعش”، وفي مقدمها واشنطن وموسكو وبغداد، بل تتعدى ذلك إلى الوقوع في فخ العجز عن تفسير بعض الظواهر التي أعقبت “الهزيمة”، ومن أبرزها ما أثبته التنظيم من خلال تعاطيه مع أزمة اغتيال زعيمه والتي نجح من خلالها في اختبار تعيين قيادة جديدة وضمان انتقال سلسل للزعامة من دون أي مشاحنات داخلية، وما يدل عليه ذلك من صلابة البنية الداخلية للتنظيم وعدم تعلقها بشخص أو مجموعة أشخاص، أخذاً في الاعتبار العدد الكبير من قيادات الصف الأول والثاني التي تعرضت للاغتيال خلال السنوات السابقة.

 وتتمثل الظاهرة الثانية التي لا تزال تشكل لغزاً حقيقاً يستعصي على الحل، في استمرار وحدة التنظيم بعد مقتل زعيمه برغم التباعد الجغرافي بين الولايات التي تنتمي إليه، وما تعرّض له المركز في سوريا والعراق من هزائم وضربات عسكرية مدمرة. 

 فمنذ هزيمة الباغوز في ريف دير الزور وانتهاء عهد السيطرة الجغرافية للتنظيم الذي كان يتخذ من التمكين ركيزة أساسية لقيام خلافته، ومنذ مقتل زعيمه البغدادي الذي كان له الفضل في التمدد والتوسع وإلحاق عشرات الولايات في دول مختلفة لتصبح جزءاً من بنية تنظيمه وخاضعة لسلطانه المطلق، منذ ذلك الحين لم تُسجّل هزة واحدة تعرضت لها الهيكلية التنظيمية ل”داعش” تؤثر في صلابة بنيته أو تؤدي إلى تشققها، كما لم تسجل محاولة واحدة من أي فرع خارجي أو ولاية من الولايات التي بايعت التنظيم في عهد تمدده وتوسعه، للتملص من ولائها للتنظيم والتحلل من ارتباطها التنظيمي معه بعد تعرضه للهزيمة وفقدانه ركيزة التمكين. 

 في الواقع، طغى الحديث عن هزيمة “داعش” العسكرية واحتمال عودته إلى المشهد على الجوانب الأخرى التي كان من المفترض أن تشغل الباحثين والخبراء والمسؤولين عن حملات مكافحته، والتي من شأنها أن تلقي بظلال من الريبة على الإنجاز العسكري ومدى عمق التداعيات والآثار الناتجة منه، لا سيما في ما يتعلق بالبنية التنظيمية لداعش وسبب تماسكها برغم الهزائم، ولماذا تصر ولايات ومجموعات جهادية بعيدة جغرافياً عن معقل التنظيم في العراق وسوريا على ارتباطها التنظيمي به وعدم سعيها للتنصل من بيعة الولاء لتنظيم أخفق في حماية مكتسباته في المركز.

وقد يصبح التساؤل أكثر من ضروري في ظل ما وقع به تنظيم” القاعدة”، الجناح الجهادي المنافس لتنظيم “داعش”، من تشرذم واختلاف على البيعات أدى إلى تفككه ونأي بعض الفروع عن علاقتها بالقيادة المركزية. وتمثل العلاقة بين القاعدة وفرعها في سوريا خير مثال على ما تعرّض له تنظيم القاعدة من نكسات تنظيمية بالغة التأثير في وحدته وتماسكه، في حين أنه لم يتعرض لمثل الحملة العسكرية المركزة والمكثفة التي تعرض لها تنظيم داعش خلال الأعوام الفائتة. وتكفي الإشارة إلى تلاعب أبي محمد الجولاني بعلاقته بتنظيم القاعدة، إذ كانت بيعته العلنية للظواهري عام 2013 بمثابة القشة الأخيرة التي اعتقد أن بإمكانها حمايته من الغرق نتيجة خلافه مع أبي بكر البغدادي حول دمج تنظيمي “جبهة النصرة” و”دولة العراق الإسلامية” في تنظيم واحد أطلق عليه “دولة الإسلام في العراق والشام”. وقد حافظ الجولاني على علاقته بالظواهري حتى عام 2016 حينما سارع الى مغادرة قارب القاعدة عندما استشعر أن الأجواء الإقليمية والدولية بدأت تتلبد بغيوم المواجهة كإنذار أخير لفك الارتباط بين الجولاني والظواهري، وهو ما عبّرت عنه اجتماعات لافروف – كيري وتحذيراتهما العلنية لفرع القاعدة في سوريا في ذلك الحين. ووجد الجولاني أن ثمن نكثه بالبيعة لزعيمه الظواهري سيكون أخف وطأة عليه من التعرض لموجة غضب مشتركة روسية – أميركية، فآثر الانشقاق وخرج ليعلن فك ارتباطه بتنظيم “القاعدة”.

 مثل هذا المشهد لم يحدث في تنظيم “داعش” برغم المنعطفات الكثيرة التي مر بها، إذ لم نر قائداً محلياً واحداً أو فرعاً خارجياً قريباً أو بعيداً يرضخ للضغوط السياسية والعسكرية من أجل التحلل من بيعة قيادته والابتعاد عنها تنظيمياً. 

 ولا شك في أن عدم حصول ذلك لا ينبغي أن يمر من دون أن يخضع لدراسة معمقة لمعرفة أسبابه الحقيقية والخلفيات التي تدفع بعض قادة الجهاد المحليين وبعض الجماعات الجهادية الصغيرة المتناثرة في دول مختلفة للتمسك بولائها لتنظيم مهزوم ومن غير الممكن التكهن بمدى قدرته على النهوض من جديد.

 فعلى سبيل المثال، ما الذي يدفع جماعة جهادية في أفريقيا تحرز تقدماً عسكرياً ملحوظاً في بعض الجبهات كما في موزامبيق، الى المحافظة على الروابط الولائية التي تجمعها مع تنظيم داعش في العراق وسوريا الذي خسر معظم أراضيه ويكافح بمرارة من أجل إثبات وجوده فقط؟ 

 لا حاجز اللغة ولا المسافات الجغرافية ولا الفوارق العرقية والاجتماعية استطاعت أن تلعب دوراً في التأثير في العلاقة بين فروع “داعش” في أفريقيا وبين مركزه في سوريا والعراق. إن هذه الحقيقة الراسخة بقدر ما تطرح من تساؤلات وترسم علامات استفهام قد تحتاج إلى عقود قبل الإجابة عنها، تثبت مدى اتساع الجوانب المظلمة التي لا نعرف عنها شيئاً في بنية داعش وتكوينه وطبيعة العلاقات الداخلية التي تجمع بين عناصره وقيادته من جهة، وبين الولايات البعيدة ومركز القيادة من جهة أخرى.

هذان العنصران، أي الولاء الصلب الذي لا يتحلل بفعل الهزائم العسكرية واغتيال القادة، والترابط التنظيمي الذي لا يتأثر بعوامل التفرقة العرقية واللغوية والاجتماعية، قد يكونان من أخطر العناصر التي تدخل في تكوين تنظيم “داعش” وتمنحه السمة الموجودة في طيّ شعاره “باقية وتتمدد”، فضلاً عن كونهما بمثابة الحصانة التي تحميه من خطر التشقق والتفكك الذي طالما أصاب الجماعات الجهادية من قبله.

 وفي الوقت الذي يتصاعد فيه الجدل حول عودة نشاط “داعش” في بعض المناطق العراقية والسورية ودلالات ذلك وأسبابه العسكرية والسياسية، فإن ثبات التنظيم وتماسك بنيته الهيكلية بعد انقضاء عام ونصف على هزيمته الأخيرة، يتطلبان إجراء دراسات جدية حول هذه الظاهرة، وكيف استطاع تنظيم مهزوم خسر مشروعه وكل الجغرافيا التي كان يتمدد عليها أن يحافظ على لحمته الداخلية ويقنع فروعه البعيدة بالبقاء على قيد البيعة والطاعة؟ ويستدعي ذلك التساؤل عن مفهوم البيعة والولاء لدى التنظيم  ، وما إذا كان هذا المفهوم قد بلغ مراحل تطوره الأخيرة بحيث يغدو من الصعب التأثير فيه، ما سينعكس من دون شك على بنية التنظيمات التي تستلهم استنساخ تجربة “داعش” في المستقبل، وتجعل محاربتها والقضاء عليها شبه مستحيلة، لا سيما في ظل قوة الروابط الداخلية. 

 فهل سنشهد مع قدوم العام 2021 الآثار المباشرة لبروز هاتين الظاهرتين في بنية “داعش”؟ وهل سيلعب الولاء الصلب والترابط التنظيمي دوراً في إعادة إحياء التنظيم وعودته إلى مشهد الحوادث من جديد، أم أن الحرب التي يتعرض لها التنظيم ستكون أقوى من كل ميزاته البنيوية والتنظيمية، وأن نيران المعارك ستكون قادرة على تفكيك روابطه في نهاية المطاف مهما بلغت قوتها؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى