أقلام وأراء

عبدالله السناوي يكتب – نظريّة الأمن الإسرائيليّ… ما الذي تغيّر؟

عبدالله السناوي – 15/10/2020

«ماذا لو هُزمت إسرائيل؟»… كان ذلك سؤالاً افتراضياً في كتاب أميركي نشأت فكرته حين التقى في نيويورك ثلاثة صحافيين من مجلّة «نيوزويك» على غداء عمل، وهم: ريتشارد تشيزنوف، إدوارد كلاين وروبرت ليتل، الذين غطّوا أحداث حرب 1967، من الجانب الإسرائيلي. رغم الطابع التخيّلي لما جاء في الكتاب، الذي صدر في شباط / فبراير ١٩٦٩، إلّا أنّه اعتمد بالأساس على أحداث واقعية. وكان هدفه المباشر التأثير في صانع القرار الأميركي طلباً لمزيد من الدعم لإسرائيل، رغم كلّ ما حازته من سلاح ومال، وما حصدته من نتائج عسكرية فاقت كلّ توقّع وحساب.

«إسرائيل دائماً مهدّدة، وأميركا مقصّرة، والعرب يتحيّنون فرص الانتقام». كان ذلك تلخيصاً لجوهر نظرية الأمن الإسرائيلي بالمبالغة في الخوف والتخويف. بأثر النشوة الإسرائيلية ممّا حدث في عام 1967، أعادت صياغة نظرية أمنها بمفارقة مثيرة، فإسرائيل المحاصرة من جيرانها والمهدّدة في وجودها هزيمتها غير ممكنة.

في حرب الاستنزاف، اهتزّت نظرية الأمن الإسرائيلي قبل أن تتعرّض للكسر في تشرين الأول / أكتوبر 1973. وقبل أن تعبر القوات المصرية الجسور بقوة السلاح، انطوى «التوجيه الاستراتيجي»، الذي صدر إليها، على مقاربة لافتة لأهداف العمليات العسكرية، التي على وشك الاندلاع. كان نص «التوجيه الاستراتيجي»: «تحدّي نظرية الأمن الإسرائيلي، وذلك عن طريق عمل عسكري يكون هدفه إلحاق أكبر قدر من الخسائر بالعدو، وإقناعه بأنّ مواصلة احتلاله لأراضينا تفرض عليه ثمناً لا يستطيع دفعه… وبالتالي، فإنّ نظريته في الأمن ـــــــ على أساس التخويف النفسي والسياسي والعسكري ـــــــ ليست درعاً من الفولاذ تحميه الآن، أو في المستقبل». بدا النص مقتضَباً، صياغاته واضحة والتزاماته محدّدة، كتبه الأستاذ محمد حسنين هيكل، قبل أن يضيف إليه الرئيس أنور السادات بخطّ يده: «بحسب إمكانيات القوّات المسلّحة».

لم تكن مبالغة، بالإنشاء السياسي، ما قيل في الأيام الأولى لـ«حرب أكتوبر»، عن أنها كسرت نظرية الأمن الإسرائيلي، غير أنّ الإدارة السياسية أفضت إلى ترميم ما كسر، وإضافة عناصر قوة غير مستحقة على نظرية الأمن الإسرائيلي، حين حصلت بالسياسة على ما لم تحصل عليه بالسلاح.

راجعت إسرائيل تجربة الحرب، أعدّت تقريراً مسهباً عن «التقصير» فيها، اعترفت بهزيمتها في الأيام الأولى، لكنّها حاولت تالياً أن تلخّص النتائج في ما أطلقت عليه «لا نصر ولا هزيمة». كان ذلك تأكيداً جديداً على أنّ هزيمتها غير ممكنة. ثمّ تبدّى، بالوقت، استعراض مختلف لما جرى، ذهب إلى أنّ المصريين قد هُزموا، والإسرائيليين انتصروا. شاعت تلك الرواية الإسرائيلية في أنحاء العالم، ويكفي أن تطلّ على ما يُكتب ويُنشر على الشبكة العنكبوتية، من دون أن تنهض رواية مصرية ترد وتفحم بالوثائق الثابتة، وتؤكّد الحقائق في ذاكرة الزمن، حتى لا تنتصر إسرائيل بأثر رجعي وتتوارى تضحيات الرجال التي بُذلت في ميادين القتال، حين عبروا بشجاعة وقاتلوا بضراوة، وبذلوا فواتير الدم عن اقتناع أنّهم يحاربون من أجل مستقبل بلادهم، قبل أن تخذلهم السياسة.

«رغم الموقف الضعيف في بداية الحرب الذي بدت عليه إسرائيل، قلبنا الموازين رأساً على عقب وحقّقنا النصر». لم تكن تلك صياغة متفلّتة من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بقدر ما كانت تعبيراً عن الأدبيات العسكرية والسياسية الإسرائيلية لنتائج «حرب أكتوبر». اعترافه بما تعرّضت له القوات الإسرائيلية من هزيمة ساحقة، في الأيام الأولى من الحرب، نصف الحقيقة التي لا يمكن إخفاؤها، لكنّه أنكر نصف الحقيقة الآخر، وهو أنّ التدخّل الأميركي بإمدادات السلاح وتخاذل السياسة في مصر، سمحا لإسرائيل الاّدعاء بأنّها الطرف المنتصر!

القضية ليست ماذا يقول نتنياهو، ولا ما يقول غيره من القيادات الإسرائيلية، بقدر ما هي ماذا نقول نحن، ومدى استعدادنا لمخاطر محدقة تنذر بتهميش الدور المصري، إذا ما قُدّر للحقبة الإسرائيلية أن تتمدّد بالتطبيع المجاني، أو بالتقسيم القسري لدول عربية، أو بالاستثمار في أزمات وجودية تعترض البلد كأزمة «سدّ النهضة».

“في حرب الاستنزاف اهتزّت نظرية الأمن الإسرائيلي قبل أن تتعرّض للكسر في تشرين الأول / أكتوبر 1973 “.

هناك موجة تطبيع تشمل أعداداً متزايدة من الدول العربية، ترى بالمغالطة أنّ مصالحها وأمنها ووجودها نفسه في الاعتراف المجاني بإسرائيل.

إنّه التخويف النفسي والسياسي والعسكري، الذي صوّر لنظم عديدة أنّ نظرية الأمن الإسرائيلي لا يمكن كسرها بالحرب أو بغير الحرب، وأنّ الهزيمة قدر لا يمكن ردّه، وأنّ ذلك التخويف درع من فولاذ، تحمي الدولة العبرية الآن وفي المستقبل، كما تحمي أية دولة أخرى في المنطقة تطلب الحماية والأمن باسم التعاون الاقتصادي وتبادل المنافع والمعلومات الاستخبارية. هذه هزيمة استراتيجية أمام نظرية الأمن الإسرائيلي، تناقض تضحيات وبطولات «أكتوبر».

هكذا، تندفع دولة مثل السودان إلى اتفاقية تطبيع، باسم واقعية سياسية ترى أنّ الشرط الأميركي الرئيس لرفع اسمها من على قائمة الإرهاب، أن تتّخذ مثل هذه الخطوة، وأن يكون أقصى ما تطالب به بعض المعونات الاقتصادية! السعودية تقف على الخط نفسه، متأهّبة لعقد اتفاقية تطبيع قريباً.

لم تكن التصريحات التلفزيونية، التي أطلقها الأمير السعودي بندر بن سلطان، سفير السعودية الأسبق في واشنطن، محض ردٍّ على ما اعتبره جحوداً ونكراناً لأدوار المملكة في نصرة القضية الفلسطينية، بقدر ما كانت تمهيداً لقرب عقد اتفاقية تطبيع مع إسرائيل.

بالتاريخ، هو رجل على علاقات تاريخية وثيقة مع إدارة جورج دبليو بوش، أثناء غزو العراق عام 2003، وله صلات قديمة مع الإسرائيليين. وبحكم عمله لسنوات رئيساً للاستخبارات السعودية، فهو يعرف أهدافه ممّا يقول. هكذا تصبّ السياسات والتحوّلات مجانياً في طاحونة نظرية الأمن الإسرائيلي.

تقوى بغير استحقاق، تفرض إرادتها من دون ممانعة، تطمح إلى قيادة الإقليم من دون أن تتنازل عن مشروعها الاستيطاني وطبيعتها التوسّعية.

نحن أمام نوع من المبايعة المجانية لـ«الحقبة الإسرائيلية»، أو إعادة تعريف للدولة العبرية، التي لم تعيّن أبداً منذ إعلان دولتها في 15 أيار / مايو 1948 حدودها، ولا صاغت نظرية أمن وفق مصالح مشروعة، أو يمكن تقبلها وفق القوانين الدولية. بالتماهي مع ما أسماه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بـ«سلام القوة»، فإنّ كلّ شيء يتحرّك باعتبارات الخوف والتخويف، وكلّ سياسة تستند إلى أدوات العملين العسكري والسري.

إذا ما مضى سيناريو التطبيع إلى آخره، دولة عربية بعد أخرى، فإنّ طبيعة الصراع لن تتغيّر، ولا إسرائيل بوارد تعديل نظرية أمنها. مفتاح الموقف في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وكلّ شيء قابل للانهيار إذا ما مضت القوة الإسرائيلية إلى نهاياتها والتخاذل العربي إلى آخره. طالما أنّ العرب قد جاؤوا إلى أعتاب الدولة العبرية خشية قوتها وطلباً لحمايتها، فإنّ ما يحفظ مستقبل إسرائيل، هو المضي قدماً في تأكيد نظرية أمنها من رفع منسوب قوتها واستخدامها بقدر ما هو ممكن ومتاح في أعمال عسكرية واستخبارية ضد مواقع في سوريا ولبنان والعراق، لأهداف سياسية بالمقام الأول، ولإثبات حضورها بإرهاب الآخرين.

أيّاً تكن درجات التعاون الاقتصادي وأحاديث السلام المخاتل، يكاد يستحيل تماماً أن تتخلّى إسرائيل عن نظرية أمنها ودواعيها لامتلاك القوة ووسائلها في التخويف. على أبواب الحقبة المخيفة، يكاد الدور المصري أن يكون مطلوباً إجهاضه بالتهميش حتى يكون ممكناً إفساح المجال للدور الإسرائيلي أن يكون مركز التفاعلات السياسية والاستراتيجية والاقتصادية. بقدر التخاذل، تكاد المنظومة العربية كلّها أن تنهار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى