عبدالله السناوي يكتب – صفقة القرن المعدّلة
عبدالله السناوي *- 4/10/2018
الكلام الأميركي الجديد من أن «صفقة القرن» جاهزة ومكتوبة، واقعية ومنصفة وقابلة للتطبيق، يعوزه أي دليل مقنع. بالكلام نفسه منسوباً إلى فريق دونالد ترامب، فإن توقيت الإعلان عن الخطة الأميركية للسلام الفلسطيني ــــ الإسرائيلي مؤجل إلى مطلع العام المقبل. التأجيل المتكرر على مدى عام ونصف عام تعبير عن فشل مزمن يصعب نفيه. إذا كانت الصفقة واقعية ومنصفة، فلماذا يجرى التكتم على نصوصها باستثناء ما يجري تسريبه لوسائل الإعلام الإسرائيلية من وقت لآخر لاختبار ردات الفعل المحتملة؟ ثم ما طبيعة التعديلات التي يقال إنها قد أدخلت على الخطة الأميركية؟
الإجابة: لا شيء له قيمة أو أثر يسمح بإمرارها، أو يدفع فلسطينياً واحداً إلى وضع توقيعه عليها. «صفقة القرن» المعدلة هي «صفقة القرن» نفسها قبل التعديل ــــ كل شيء للإسرائيليين ولا شيء للفلسطينيين. ما الجديد إذاً؟ إنه الاستثمار السياسي في أوضاع الإقليم المتردية بالقفز فوق حقائق الصراع العربي الإسرائيلي واستبدال عدو بآخر. يراد تعميم أنّ إسرائيل ليست عدواً من دون أي اعتبار للمبادرة العربية التي تنص على التطبيع الكامل، مقابل الانسحاب الشامل حتى حدود 4 يونيو/ حزيران 1967. ويراد بناء تحالف استراتيجي يضم إلى إسرائيل أطرافاً عربية ضد «العدو الإيراني المشترك»، كما اقترح ترامب. بنص كلام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فإن هناك تقارباً لم يكن متخيّلاً بين إسرائيل ودول عربية عديدة على خلفية الموقف المشترك من الاتفاق النووي الإيراني. بعبارة مشابهة للمبعوث الخاص للرئيس الأميركي جيسون غرينبلات، فإن معادلات الإقليم تغيّرت ولم تعد إسرائيل هي العدو، بل إيران. بالنظر إلى أن غرينبلات هو أحد مصممي «صفقة القرن»، فإن هذا الاعتقاد يكشف نوع التعديلات التي أدخلت عليها واستهدافاتها الرئيسية. شطب سبعين سنة من الذاكرة العربية وتقويض القضية الفلسطينية بالكامل وتقبل الاحتلالات الإسرائيلية كأمر واقع والتطبيع الاقتصادي والاستخباري والسياحي مع إسرائيل. هذا استهداف أول. إعادة ترتيب الإقليم من جديد وفق المصالح الإسرائيلية حتى تكون مركز قيادته بعد دمجها في منظومة استراتيجية تقوّض ما كان يطلق عليه الأمن القومي العربي وتفتح صفحة جديدة على حساب أي حق فلسطيني.
هذا استهداف ثان يفسّر الإلحاح على صفقة قرن ماتت سريرياً، ويراد إحياؤها لتسويغ التحالف الاستراتيجي المقترح. قد يقال إن صلب «صفقة القرن» يجري تنفيذه على الأرض من دون حاجة إلى غطاء عربي، أو شريك فلسطيني. فالسفارة الأميركية نُقِلت إلى القدس رغم المعارضات الدولية، وإدارة ترامب تعلن بلا مواربة أن المدينة المقدسة خارج أي مباحثات محتملة، الأمر نفسه ينسحب على المستوطنات في الضفة الغربية من دون أدنى اعتبار للقوانين والقرارات الدولية، وأواصر الضفة الغربية تقطع في منطقة الخان الأحمر شرق مدينة القدس، رغم المقاومة الباسلة لمواطنيها.
وكل القيم الإنسانية تنتهك وإسرائيل تسبغ على نفسها بـ«قانون القومية» صفة الدولة العنصرية قبل أن يدمغها بها خصومها، وجرائم الحرب ترتكب بحماية الولايات المتحدة التي لم تتورّع عن تهديد قضاة المحكمة الجنائية الدولية إذا ما نظروا في أي اتهامات لجنود إسرائيليين، كما لجنودها، بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
هذا النوع من سلام القوة لا يعترف بأي شرعية قانونية أو أخلاقية ولا يتطلّب شركاء لكنه يعجز عن الاستقرار على أرض، والفشل محتّم في نهاية المطاف مهما بلغت الضغوط السياسية والاقتصادية كإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن والتلويح بعزل رئيس السلطة محمود عباس، ووقف المساهمة المالية الأميركية في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين لتليين أهالي غزة حتى يتقبلوا فصل القطاع عن الضفة الغربية، مقابل تخفيف الحصار وبعض الوعود الاقتصادية. بصياغة السفير الأميركي في إسرائيل ديفيد فريدمان، فإن «هذه الإجراءات تدخل في سياق خطة ترامب». هكذا بوضوح كامل من دون مساحيق تجميل. الإذلال والتنكيل بأي حق إنساني من طبيعة «صفقة القرن» ونفي الطابع الوطني التحرري عن القضية الفلسطينية جوهرها. رغم القوة المفرطة والضغوط في الكواليس لم تمرّ «صفقة القرن» ولا أضفيت عليها أي شرعية سياسية وأخلاقية. إذا ما حلت السلطة الفلسطينية نفسها، فإن الأمور سوف تزداد تعقيداً. بصياغة أخرى، فإنه سوف يعاد تعريف القضية الفلسطينية على نحو صحيح: سلطة احتلال وشعب يقاوم بدلاً من أوضاع ملتبسة تزعم انتسابها إلى السلام من دون أن يكون هناك سلام. هذا هو الرد التاريخي المعطل على صفقة القرن بمنطقها وإجراءاتها واستهتارها بالقانون الدولي. مشكلة الدولة العبرية التي لا سبيل لنفيها بأي حسابات مستقبلية أن الكتلة السكانية الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة وأراضي 1948 مرشحة للتزايد. بصياغة أخرى، إسرائيل دولة بلا مستقبل. الوجه المكمل لـ«صفقة القرن» هو البحث عن وطن بديل للفلسطينيين للتخلص من ذلك الصداع الديموغرافي. جرت تسريبات مقصودة في الصحافة الإسرائيلية تحدّثت عن وطن بديل في شمال سيناء يضم مناطق فيها إلى ما سميت «غزة الكبرى» مع تبادل أراض بين إسرائيل ومصر. وجرت تسريبات أخرى عن مشروعات في سيناء لتشغيل أهالي غزة وإنشاء ميناء بحري تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية يسمح بحرية تنقلهم وتخفيف الحصار عليهم. لم يكن ممكناً أن تمر مثل هذه السيناريوات في بلد حارب وبذل تضحيات هائلة لتحرير سيناء وتأكيد مصريتها. بالقدر ذاته، يصعب أن يمر سيناريو «الوطن البديل» في الأردن، فهو غير قابل للبحث والنقاش ــــ حسب التأكيدات الرسمية والشعبية المتواترة.
من المقترحات المسربة بناء كونفدرالية تضم الأردن والكيان الفلسطيني الذي تنزع عنه القدس والكتل الاستيطانية. بمقتضى ذلك الاقتراح، تنقل مسؤولية أمن الضفة إلى الأردن. وفي الوقت نفسه، تنقل مسؤولية أمن غزة إلى مصر، كأن البلدين العربيين مكلفان بالوكالة حفظ أمن إسرائيل! العودة إلى مقترحات الوطن البديل تعبير صريح عن عمق المعضلة الديموغرافية وكابوسيتها المستقبلية. ربما لهذا السبب، بالإضافة إلى الرفض الفلسطيني الكامل لـ«صفقة القرن»، أعلن ترامب ترحيبه بـ«حل الدولتين» الذي دأب على رفضه، من دون أيّ إشارة إلى المرجعيات الدولية، كما رحّب بحل الدولة الواحدة الذي استهجنه في وقت سابق، قائلاً إنه قد يفضي إلى تولي مسلم اسمه «محمد» رئاسة وزراء إسرائيل.
ارتباك المفاهيم والتصورات أصاب «صفقة القرن» بـ«الشلل الرباعي»، لكنه لم يمسّ النظرة الصهيونية المتشددة لإسرائيل وحدودها وأمنها، بل إن العكس هو الصحيح بالنظر إلى حزمة المساعدات العسكرية الأميركية المقررة التي تبلغ 38 مليار دولار في السنوات العشر المقبلة. في ارتباك المفاهيم والتصورات وغياب أي مرجعيات دولية، بدت الأفكار الأميركية أقرب إلى مشروعات استثمارية لا إلى تسويات سياسية، تهديدات وضغوط لحل أزمة إسرائيل بلا مسوغ يحفظ ماء وجه النظم العربية. الأخطر أن مشروع ترامب لبناء تحالف استراتيجي عربي على صلة صداقة مع إسرائيل يؤسس لاستنزاف دول عربية نفطية باسم حمايتها وتفاقم الأزمات الإقليمية دون أمل في تجاوزها بأي مدى منظور. المشروع بمنطقه وأهدافه يسحب من العالم العربي ما تبقى له من احترام لنفسه وأمنه وقضاياه.