عاطف الغمري: استراتيجية عربية للاعتراف بالدولة الفلسطينية
عاطف الغمري 14-5-2024: استراتيجية عربية للاعتراف بالدولة الفلسطينية
بينما كنت أقلب في أرفف مكتبي، عثرت على مقال سبق أن كتبته ونشر في عام 1989 بمطبوعة «شؤون فلسطينية»، التي كانت تصدر في نيقوسيا عاصمة قبرص عن مركز الأبحاث بمنظمة التحرير الفلسطينية، وموضوعه استراتيجية مقترحة للقضية الفلسطينية، ومحورية قضية دولة فلسطين.
تحدثت بداية عن إدارة الصراع الفلسطيني بهدف التحرر الوطني بوسائل عديدة، تبدأ أساساً باستراتيجية تراعي فن توزيع وتشغيل القوى المتوافرة بجميع أشكالها للأطراف العربية، وتوزيع مكونات قوتهم بالاستفادة من الظروف الدولية المحيطة، ومع التنبه للالتصاق بين موقفي أمريكا وإسرائيل، بالإضافة إلى نزعة أمريكا للانفراد بالجهود الدبلوماسية في هذا الصراع، وفي هذا الإطار كان من المهم استيعاب أسلوب المفاوض الإسرائيلي بالتلاعب بالألفاظ أو المبادئ التي يجري على أساسها التفاوض، ومراعاة أنّ النية غير المعلنة هي التي تحركه، وإذا عجز عن تبرير مواقفه فهو يلجأ إلى اختلاق مبررات عقائدية أو تاريخية مفتعلة، زاعماً أنّها تعطيه حقاً مشروعاً.
وعلى الجانب العربي فإنّ القوة ليست وحدها هي كل الاستراتيجية، فهي مكون ضمن مجمل مكونات القوة المتوافرة، ومنها الاستفادة من البيئة الدولية المحيطة، وكيفية التعامل معها والتأثير عليها من ثم تبنى على ذلك استراتيجية شاملة تحتويها جبهة عربية تتحرك دبلوماسياً باتصالات مع جميع الأطراف المعنية والمؤثرة في عملية التفاوض، مع التمسك إلى أقصى حد بقيام الدولة الفلسطينية.
الآن وبعد مرور ما يزيد على ثلاثين عاماً على مقالي هذا، فإنّ متغيرات كبيرة طرأت على المشهد، وصولاً إلى حرب إسرائيل في غزة، وهو ما عكسته من تأثيرات في مسار الأحداث والعلاقات، ما يفرض امتلاك أدوات جديدة واستراتيجية متطورة للتعامل مع القضية الفلسطينية، وأولها وأهمها أنّ أي استراتيجية عربية أمامها الآن فرصة الاستفادة من متغيرات لصالحها، تتمثل في تحركات لقوى دولية للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهو ما يمثل دعماً لأي تحرك يتم بالتنسيق بين أطراف الموقف العربي، في اتجاه الإعلان عن قيام دولة فلسطين.
في نفس السياق فإنّ هناك تراجعاً في القدرات الأمريكية على أن تكون فعالة ومؤثرة في إنجاز حل القضية الفلسطينية، وهو ما كشف عنه تقرير المركز الوطني الأمريكي لشؤون المخابرات، تحت عنوان «اتجاهات عالمية: عالم يتحول قبل عام 2025» وهو خلاصة إعداد استمر عامين، وشمل لقاءات من الجانب الأمريكي مع مفكرين وخبراء من دول عديدة، من بينها دول عربية. واتفق واضعو هذه الدراسة على أنّ أمريكا وحدها لن تكون قادرة على حل مشاكل العالم، بل إنّها لا تستطيع منفردة مواجهة التحديات لأمنها القومي، وستكون في احتياج لمن يساندونها.
في هذا الإطار جاء التحرك من عدة دول أوروبية لتعلن استعدادها للاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة.
ولما كانت 139 دولة من بين 193 دولة أعضاء في الأمم المتحدة قد صوتت لصالح الاعتراف بدولة فلسطين، وكثير منها من إفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية، فإنّ خريطة الدول التي يضمها هذا الاتجاه، ستشمل توجهاً دولياً، وليس أوروبياً فقط.
وفي مجال تفسير هذه التوجهات، فإنّ الكاتب البريطاني مارك مارتريك المتخصص في قضايا الشرق الأوسط، ومؤلف العديد من الكتب عن المنطقة، قال: إنّ مجرد اعتراف بعض دول الاتحاد الأوروبي بدولة فلسطين، يعني توجيه رسالتين مهمّتين، أولاهما أن تمسك إسرائيل بالأراضي الفلسطينية، وأفعالها غير الإنسانية في هذه الأراضي، وآخرها خطيئتها في غزة، يعطي دول المنطقة وأيضاً الدول الأوروبية الحق في تقرير متى تقوم دولة فلسطين المستقلة. والرسالة الثانية أنّ التحرك الأوروبي يظهر انقساماً أو شرخاً داخل أوروبا، كما أنّه يعكس حالة من عدم رضا الرأي العام عن موقف حكوماتهم.
وهناك ما ذكره المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في دراسة بحثية، من أنّ الاعتراف الأوروبي هو خطوة مهمة لتأكيد حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، ثم إنّ معالجة هذه القضية لم تعد قاصرة على أوروبا بل امتدت إلى آفاق العالم، وقد لحقت دول مثل الهند، وتايلاند، وروسيا، وبوروندي، ومعها بولندا، وقبرص، وبريطانيا، إلى تأييد الاعتراف بالدولة الفلسطينية في خطوة لابد أن يعقبها اتفاق سلام نهائي بين إسرائيل والفلسطينيين.
ثم جاء التركيز في سياق مجمل هذه التحركات على معنى وجود ودور استراتيجية عربية، وهو ما ركز عليه ناتان براون أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن، ونقلته مؤسسة كارنيجى للسلام العالمي، وقال: تستطيع الدول العربية الاستفادة من قوة الدفع الأوروبية، بأن تعمل على صياغة مشروع عربي لحل طويل الأجل للموقف المجمد بين فلسطين وإسرائيل، وأن تطرح رؤية لعملية السلام بمبادرة جديدة.
هنا أعود إلى ما بدأت به مقالي الذي يرجع تاريخه إلى عام 1989، عن استراتيجية عربية للقضية الفلسطينية، فأمامنا الآن تغيرات أفرزت مواقف داعمة للموقف العربي، تتمثل في تغييرات متسارعة في العالم، وخاصة في أوروبا، التي كانت في غالبيتها من قبل داعمة لإسرائيل أيا كان ما تفعله، إلى أن تحركت أوروبا نحو إعلان اعترافها المنتظر بدولة فلسطين، بالإضافة إلى دول من بقية القارات، وهو ما يحتاج إلى بلورة استراتيجية تستفيد من هذه التغيرات، ثم إنّ ذلك سوف يضيف قوة دفع للتحركات الدولية، وبما يفرض حلاً عالمياً للقضية الفلسطينية.