منوعات

صلاح مخلوف: هيلاري كلينتون على صفيح ساخن: صعود الدبلوماسية الرقمية الشعبية وتصدع الهيمنة الامريكية والإسرائيلية

صلاح مخلوف 12-12-2025: هيلاري كلينتون على صفيح ساخن: صعود الدبلوماسية الرقمية الشعبية وتصدع الهيمنة الامريكية والإسرائيلية

لم تكن تصريحات هيلاري كلينتون مجرد رأي سياسي عابر، بل كانت اعترافًا صريحًا بأن العالم يعيش تحولًا جذريًا غير مسبوق في الوعي والمعلومات وتشكّل الرأي العام، وأن الدبلوماسية الشعبية الرقمية—التي يقودها شباب بلا مناصب وبلا امتيازات، فقط بهواتفهم—أصبحت قوة قادرة على هزّ عروش السرديات الكبرى التي ظلت لعقود محمية من النقد والمساءلة. حين تعترف وزيرة خارجية الولايات المتحدة السابقة بأن “نحو 50% من الشباب الأميركي يحصلون على معلومات مضللة من TikTok”، فهي لا تصف واقعًا إعلاميًا فوضويًا فحسب، بل تعلن بوضوح أن الرواية التي ظلت واشنطن وتل أبيب تعتمدان عليها منذ عقود بدأت تتفكك أمام جيل جديد يواجهها بالحقائق، ويكسر الحصار على المعلومة، ويعيد تشكيل الخريطة الذهنية للوعي الأميركي.

ما يقلق هيلاري ليس “التضليل”، بل انهيار الاحتكار التاريخي للمعلومات. فالنظام السياسي الأميركي اعتاد على السيطرة شبه المطلقة على الصحافة، والإعلام التقليدي، ومناهج التعليم، والمراكز البحثية، وكلها كانت تعيد إنتاج رواية واحدة عن إسرائيل باعتبارها “ديمقراطية محاصرة” و”حليفًا لا بد منه”. لكن الدبلوماسية الشعبية الرقمية، خصوصًا بعد 7 أكتوبر، فجّرت هذه المنظومة دفعة واحدة. لم يعد الشباب الأميركي ينتظر CNN أو Fox News ليعرف حقيقة ما يجري، بل صار يشاهد الطفل الفلسطيني وهو يخرج من تحت الأنقاض، ويسمع صوت الأم التي فقدت أبناءها، ويرى مشاهد القصف مباشرة، بلا وسطاء، بلا مونتاج، بلا رقابة سياسية. هذه الصور التي كانت تُخفى أو تُحرّف لسنوات، أصبحت هي المرجع الجديد للجيل الأميركي، وخصوصًا الشباب اليهود الذين بدأت علاقتهم بإسرائيل تتحول من علاقة “انتماء مقدس” إلى علاقة “مساءلة أخلاقية”.

لهذا تحديدًا تعتبر هيلاري أن ما يجري “خطرًا على الديمقراطية الأميركية والإسرائيلية”. إنها لا تخشى سقوط الديمقراطية، بل تخشى سقوط الرواية. فالديمقراطية الأميركية تتحمل النقد، لكنها لا تتحمل كشف الأكاذيب. والمؤسسة الصهيونية تتحمل معارضة سياسية، لكنها لا تتحمل اهتزاز شرعيةٍ تأسست قبل 75 عامًا على سردية محددة: “إسرائيل دولة صغيرة تحمي نفسها من الإرهاب”. لكن المحتوى الرقمي كسر هذا السقف، وأظهر إسرائيل كما يراها العالم لأول مرة: قوة نووية تقصف مخيمات اللاجئين، وتقاطع الماء والدواء والغذاء عن المدنيين، وتحاصر شعبًا بأكمله.

لقد وضعت الدبلوماسية الشعبية الرقمية هيلاري كلينتون على صفيح ساخن لأنها تكشف حجم الانفصال بين الجيل السياسي القديم والجيل الأميركي الجديد. الجيل الأول يعيش على خطاب الحرب الباردة، وعلى مفاهيم الأمن القومي التقليدية، وعلى سرديات صيغت في الثمانينات والتسعينات. أما الجيل الجديد فلا يشترك معهم في أي من ذلك. إنه جيل الهواتف الذكية، جيل يوثق كل شيء، يرى الحقيقة قبل أن تمر على محرري الأخبار، جيل يملك حسًا نقديًا عاليًا ولا ينخدع بالشعارات الجاهزة. حين تقول هيلاري إن “هؤلاء الشباب لا يعرفون تاريخ إسرائيل الحقيقي”، فهي تقصد أنهم لا يقبلون التاريخ الذي تريده المؤسسة السياسية، بل يصنعون تاريخهم المعرفي البديل من خلال آلاف المقاطع اليومية التي ينشرها صحفيون مواطنون من غزة والضفة. وهذا بحد ذاته ثورة معرفية.

إن ما يزعج المؤسسة الأميركية هو أن TikTok وغيره أصبحوا منصات تخلق وعيًا عابرًا للحدود، وتربط بين شباب غزة وشباب نيويورك وشباب لندن، دون إذن من أحد. الدبلوماسية الشعبية الرقمية جعلت الفلسطيني لا يحتاج سفارة، بل هاتفًا. لا يحتاج وزارة خارجية، بل إنسانًا يروي الحقيقة. لا يحتاج قنوات كبرى، بل منصة واحدة تكفي لتحريك ملايين المشاعر والعقول. هذا الانقلاب المفاهيمي هزّ النظام السياسي الأميركي لأنه يحرم السياسيين من التحكم في الرواية، ويمنح الجماهير لأول مرة القدرة على تشكيل رأي عام ضاغط ومؤثر على الانتخابات والسياسات. وكلينتون تعرف جيدًا أن أي تحول في وعي الشباب يعني تحولًا في المستقبل السياسي للولايات المتحدة.

أما إسرائيل، فهي الأكثر ذعرًا من هذه اللحظة. لقد بنت مشروعها كله على السيطرة على الإعلام الأميركي، لكن اليوم وجدت نفسها في مواجهة جيل أميركي لا يصدقها تلقائيًا، ولا يمنحها “شيك الدعم المفتوح” كما كان يفعل آباؤه. شباب يهود يتظاهرون ضد الحرب، يرفعون شعار “ليس باسمنا”، وينشقون عن أكبر المنظمات اليهودية التقليدية. وهذا أخطر ما يمكن أن تواجهه إسرائيل: شرخ داخل قاعدة الدعم اليهودية الأميركية نفسها.

الدبلوماسية الشعبية الرقمية لم تكتفِ بإحراج إسرائيل سياسيًا، بل اخترقت جدارًا نفسيًا كان منيعًا لسنوات، وجعلت السياسيين الأميركيين—مثل هيلاري—يشعرون بأن سلطتهم المعرفية تتراجع أمام موجة جديدة من الوعي الأخلاقي العالمي. ولذلك جاءت كلماتها بهذه الحدة، لأنها لأول مرة تجد نفسها غير قادرة على استعادة السيطرة على الرواية، ولا على إقناع الشباب بخطاب جاهز لم يعد صالحًا لعصر الفيديوهات المباشرة.

إن ما يحدث اليوم ليس مجرد اختلاف في مصادر المعلومات، بل انقلاب تاريخي في ميزان السردية العالمية. الفلسطينيون الذين كانوا يعجزون عن إيصال صوتهم للإعلام الغربي أصبحوا اليوم هم من يصنعون المحتوى الذي يشاهده العالم. والدبلوماسية الشعبية الرقمية أصبحت السلاح الأهم، والأقوى، والأكثر تأثيرًا في المعركة على الوعي، حتى باتت بعض من أكبر الشخصيات السياسية في العالم تتحدث عنها بخوف وقلق.

باختصار، لقد وضعت الدبلوماسية الشعبية الرقمية هيلاري كلينتون والمؤسسة الأميركية على صفيح ساخن لأنها سحبت من أيديهم أعظم قوة امتلكوها طوال قرن: الاحتكار. واليوم، لم يعد هذا الاحتكار موجودًا. لم تعد الرواية تُكتب في واشنطن وتُصدَّر للعالم. لقد أصبحت تُصنع في غزة، وتنتشر على TikTok، وتصل إلى ملايين الشباب الذين يشكلون مستقبل الديمقراطية الأميركية نفسها. وهذا ما يجعل السياسيين يشعرون بأن الأرض تهتز تحت أقدامهم، وأن زمن السيطرة قد انتهى، وأن زمن الحقيقة—بكل بساطتها ووضوحها—قد بدأ.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى