أقلام وأراء

صلاح مخلوف: كيف عززت الدبلوماسية الشعبية الرقمية الرواية الفلسطينية في الغرب بعد عامين من حرب الإبادة في غزة؟

صلاح مخلوف 18-10-2025: كيف عززت الدبلوماسية الشعبية الرقمية الرواية الفلسطينية في الغرب بعد عامين من حرب الإبادة في غزة؟

في الحقيقة، ما وصلت إليه الرواية الفلسطينية في الغرب بعد عامين من حرب الإبادة في قطاع غزة، التي راح ضحيتها أكثر من 67 ألف شهيد ونحو 170 ألف مصاب، فضلًا عن أكثر من 10 آلاف مفقود في الطرق والشوارع وتحت ركام المنازل نتيجة القصف الإسرائيلي، قد أربك الموازين التي كانت ترجّح الرواية الإسرائيلية في الغرب.

لقد خُدِع المواطن الغربي على مدى عقود بإعلامٍ رسميٍّ قدّم الكيانَ الإسرائيليّ على أنه دولة ديمقراطية ومؤسساتٍ وحرياتٍ ومنارةً للشرق الأوسط وواحةً من واحات الغرب الديمقراطي. غير أنّ هذا الوهم الذي عشّش في عقلية المواطن الغربي تبدّد أمام مشاهد الإجرام الصهيوني بحقّ أطفال ونساء ورجال غزة، تلك المشاهد التي لم يصنعها الإعلام الرسمي الأوروبي ولا الإعلام الداعم للرواية الإسرائيلية، بل انطلقت من الفضاء الرقمي الذي كانت إحدى أبرز أدواته الدبلوماسية الشعبية الرقمية. فقد نقلت هذه الأخيرة الحقيقة من الميدان كما هي، بجهود النشطاء والمناصرين للقضية الفلسطينية، فكانت الصدمة التي هزّت الوجدان الإنساني العالمي وأحدثت تحولًا عميقًا في الرأي العام الغربي.

تجلّى هذا التحول في الرفض الشعبي للسلوك الإجرامي للاحتلال، وفي خروج الملايين في مظاهرات ضخمة وفعاليات مناصرة للقضية الفلسطينية في المدن الأوروبية والأميركية التي طالما هيمنت عليها الرواية الإسرائيلية، ما أثر بوضوح في صانع القرار الغربي من حيث الخطاب السياسي ومراجعة المواقف الرسمية واتخاذ قرارات داعمة للقضية الفلسطينية.

وهذا ما تسعى هذه الورقة إلى تحليله من خلال استعراض دور وسائل التواصل الاجتماعي في التأثير على الرأي العام الغربي.

فما واقع الرواية الفلسطينية في الغرب بعد الإبادة الجماعية في قطاع غزة؟

وكيف يمكن الحفاظ على هذا الإنجاز على المستويين الشعبي والرسمي؟

 أولًا: الدبلوماسية الشعبية الرقمية وتعزيز الرواية الفلسطينية في العقل الغربي

  كان الإعلام الرسمي هو المصدر الرئيس للأخبار لدى الشعوب، حيث تعتمد عليه الحكومات  في التأثير على الراي العام وفقا لمصالحها ، لكن  وسائل التواصل الاجتماعي أضعفت قدرة الحكومات على التحكم والسيطرة على المعلومات،  وأصبحت صناعة الرأي العام مرهونة بالتقنيات الرقمية الحديثة ومنصاتها ذات التأثير الهائل، بفضل سرعة انتقال الخبر وظهور مؤثرين وقنوات فاعلة تنشر الحدث مباشرة إلى مئات الآلاف، وأحيانًا قبل الإعلام الرسمي نفسه.

هذا الواقع الجديد أعاد تشكيل وعي الشعوب الغربية، وجعلها تُعيد التفكير في القضايا التي تشغل الرأي العام، ومن بينها القضية الفلسطينية.

وهكذا، شقّت الرواية الفلسطينية طريقها بثبات رغم التحديات، لتتجذر في عقل ووعي المواطن الغربي، الذي لم يقف عند حدود مشاهدة مشاهد القتل والجوع، بل بدأ يتساءل عن جذور وتاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وهنا يكمن المكسب الحقيقي للدبلوماسية الشعبية الرقمية ، إذ مكّنت الفلسطينيين من التأثير في السياسات الغربية وكسب الرأي العام العالمي، فقد بلغت هذه الدبلوماسية ذروتها خلال حرب الإبادة الجماعية في غزة، حيث تحوّلت الصورة والفيديو إلى وعي، والوعي إلى مظاهرة، والمظاهرة إلى تغيير حقيقي في مواقف دول مؤثرة في المجتمع الدولي.

 مظاهرات أوروبا وأميركا: تجسيد الرواية الفلسطينية في الميدان:

 شهدت القارة الأوروبية والولايات المتحدة موجة غير مسبوقة من المظاهرات والفعاليات التضامنية مع فلسطين، مثّلت تجسيدًا حيًّا للرواية الفلسطينية على الأرض، بعد أن كشفت الدبلوماسية الشعبية الرقمية حقيقة ما يجري في غزة للعالم الغربي.

وثّق المركز الأوروبي الفلسطيني للإعلام (إيبال) أكثر من 45 ألف مظاهرة وفعالية في نحو 800 مدينة داخل 25 دولة أوروبية خلال عامين، ما يعكس مدى تغلغل الرواية الفلسطينية في وعي الشارع الغربي.

  • في أوروبا:
    • في إيطاليا، شارك ما لا يقل عن مليوني متظاهر موزعين على 100 ميدان، بينها 80 ألفًا في روما، وآلاف في ميلانو وتورينو وجنوة ونابولي.
    • في ألمانيا، نظمت 141 مدينة نحو سبعة آلاف مظاهرة وفعالية.
    • في إسبانيا، أقيمت 5,886 مظاهرة في 134 مدينة، احتجاجًا على ما اعتبره المتظاهرون تواطؤًا مؤسسيًا مع جرائم الاحتلال.
    • في هولندا، شملت الفعاليات مظاهرات أسبوعية في المدن الكبرى وتوسيع نطاقها ليشمل المدن الصغيرة، مع دعوات لمقاطعة البضائع الإسرائيلية والشركات الداعمة للحرب، باعتبارها مطلبًا أخلاقيًا قبل أن تكون واجبًا سياسيًا.
  • في الولايات المتحدة:
    شهدت واشنطن مظاهرات طلابية متواصلة في جامعات جورج تاون، جورج واشنطن، وكولومبيا، ونيويورك، وييل، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ونورث كارولينا، بمشاركة آلاف الطلاب.
    رفع المتظاهرون الأعلام الفلسطينية ولافتات تطالب بوقف الإبادة الجماعية في غزة، ونصبوا خيامًا في الحرم الجامعي، وشاركوا في اعتصامات استمرت لأسابيع، ما أدى إلى اعتقال أكثر من 108 طلاب.
    هذا الحراك الطلابي رسّخ ضغطًا شعبيًا وأكاديميًا على الحكومة الأميركية، وأحرج الإدارة بسبب استمرار دعمها لإسرائيل، كما أسهم في إعادة النظر بالاستثمارات الجامعية في الشركات الداعمة للاحتلال.

لقد نجحت هذه المظاهرات الجماهيرية الأوروبية والأميركية في فضح التضليل الإعلامي الإسرائيلي، وأدت إلى زيادة الضغط على صانعي القرار الغربي، وأسهمت في دفع بعض الحكومات إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية أو إعادة تقييم مواقفها من الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وهكذا أثبتت الدبلوماسية الشعبية الرقمية أن التضامن مع فلسطين لم يعد حراكًا رقميًا فحسب، بل تحوّل إلى قوة ميدانية حقيقية تؤثر مباشرة في السياسات الرسمية.

ثانيًا: الحفاظ على الإنجاز على المستويين الشعبي والرسمي:

إنّ التحول الكبير الذي حققته الرواية الفلسطينية في الغرب بعد حرب الإبادة في غزة يُعدّ مكسبًا وطنيًا لا يقل أهمية عن أي إنجاز سياسي أو ميداني، غير أن هذا التحول يظلّ مهددًا بالتراجع ما لم تُتّخذ خطوات عملية للحفاظ عليه وتعزيزه. ويتطلب ذلك تكامل الجهود الشعبية والرسمية في مشروع وطني شامل يهدف إلى ترسيخ الوعي العالمي بعدالة القضية الفلسطينية.

فعلى المستوى الشعبي، ينبغي استمرار نشاط الدبلوماسية الرقمية عبر شبكات النشطاء والمؤثرين والمنصات الفلسطينية والعربية في الغرب، من خلال:

  • المأسسة الرقمية لهذا الجهد التطوعي بتحويله إلى حملات منظمة ذات أهداف محددة واستراتيجيات إعلامية واضحة.
  • تدريب النشطاء والإعلاميين على استخدام أدوات السوشيال ميديا الحديثة وتقنيات تحليل الخطاب والرأي العام لضمان وصول الرسائل الفلسطينية بشكل مؤثر.
  • الاستمرار في التواصل الإنساني مع المجتمعات الغربية من خلال القصص والشهادات والمحتوى المرئي الذي يبرز البعد الإنساني للصراع بعيدًا عن الخطاب السياسي التقليدي.

أما على المستوى الرسمي، فإن الحفاظ على الزخم الذي تحقق يتطلب:

  • إطلاق برامج دبلوماسية رقمية داخل المؤسسات الرسمية والسفارات الفلسطينية تُنسّق مع الجهود الشعبية لتوحيد الخطاب الفلسطيني في الخارج.
  • دعم المحتوى الإعلامي الموجّه للرأي العام الغربي من خلال منصات متعددة اللغات، خصوصًا الإنجليزية والإسبانية والفرنسية والألمانية.
  • بناء شراكات استراتيجية مع مؤسسات إعلامية ومنظمات حقوقية غربية تسهم في نقل الحقيقة الفلسطينية وتثبيت صورتها في الوعي الغربي كقضية إنسانية عالمية.

إنّ استدامة هذا الإنجاز لا تتوقف على حجم التفاعل المؤقت في الأزمات، بل على تحويل هذا الزخم إلى قوة سردية مؤسَّسة تمتلك أدواتها ومرجعياتها ومراكزها البحثية والإعلامية القادرة على مخاطبة العالم بلغة يفهمها ويثق بها.

مراجع :

https://www.aljazeera.net/news/2025/10/5/45-%D8%A3%D9%84%D9%81-%D9%85%D8%B8%D8%A7%D9%87%D8%B1%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A7-%D9%86%D8%B5%D8%B1%D8%A9-%D9%84%D8%BA%D8%B2%D8%A9-%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%84

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى