#الأسرى

صلاح مخلوف: التمييز العنصري في معاملة الأسير الفلسطيني: قراءة تحليلية في السياسات والمواقف الغربية

صلاح مخلوف 15-102-2025: التمييز العنصري في معاملة الأسير الفلسطيني: قراءة تحليلية في السياسات والمواقف الغربية

تُمثّل قضية الأسرى الفلسطينيين أحد أبرز وجوه المعاناة الوطنية الفلسطينية، إذ تختزل في جوهرها أبعاد الظلم التاريخيّ الواقع على الشعب الفلسطينيّ، وتُظهر في الوقت ذاته ممارسات الاحتلال الإسرائيليّ التي تنطوي على تمييزٍ عنصريّ ممنهج، يستهدف الإنسان الفلسطينيّ في جسده وهويته وكرامته. ولا تقتصر هذه الممارسات على انتهاكاتٍ ميدانيةٍ فحسب، بل تمتدّ إلى بنيةٍ فكريةٍ وأيديولوجيةٍ ترى في الفلسطينيّ كائنًا ناقص الإنسانية يستحقّ القهر والعقاب، في مقابل تصوّر الإسرائيليّ بوصفه “الضحية الأبدية” التي تُستدرّ لها التعاطفات الغربية.

أولًا: الأسرى الفلسطينيون ومعادلة القهر الممنهج

تعتمد المنظومة الاعتقالية الإسرائيلية على سياسة قمعٍ مركّبة تتجاوز حدود العقوبة القانونية إلى مساحة الإبادة البطيئة. فالتعذيب الجسديّ والنفسيّ والإهمال الطبيّ والإهانة والتجويع ليست مجرد تجاوزات فردية، بل تمارس وفق سياسةٍ مقصودةٍ تهدف إلى كسر إرادة الأسير الفلسطينيّ وإعادة تشكيل وعيه بما يتناسب مع منطق الهيمنة الإسرائيلية. وتشير شهادات العديد من الأسرى المحررين إلى ممارساتٍ تتنوع بين الضرب المبرح، والعزل الانفراديّ طويل الأمد، والحرمان من النوم والعلاج، فضلًا عن إذلالهم عبر التفتيش العاري والمنع من الزيارات العائلية.

ويعاني كثير من الأسرى الذين خرجوا في الصفقة الأخيرة أوضاعًا صحية ونفسية خطيرة؛ فمنهم من فقد القدرة على المشي نتيجة التعذيب، ومنهم من أصيب بأمراضٍ مزمنةٍ بسبب الإهمال الطبيّ المتعمَّد. كما فقد آخرون ذويهم أثناء فترة اعتقالهم الطويلة، ليجدوا أنفسهم أحرارًا في وطنٍ مدمّرٍ وأمام عائلاتٍ غيّبها القصف أو التشريد. بذلك تتحول معاناة الأسرى إلى امتدادٍ لمعاناة الفلسطينيّ في غزة والقدس والضفة الغربية، حيث تتكامل أدوات الاحتلال في إنتاج الألم والحرمان على المستويات كافة.

ثانيًا: إنكار الوجود الفلسطيني وتفكيك الذاكرة

تتجلّى في سياسة الاحتلال تجاه الأسرى فلسفة إنكار الوجود الفلسطينيّ، إذ يسعى الاحتلال إلى تجريد الأسير من ذاكرته الوطنية وإبعاده عن بيئته الاجتماعية والرمزية. فالأسير الفلسطينيّ حين يُعتقل، يُنزَع من سياقه الطبيعيّ بوصفه ابن الأرض والمكان، ويُعاد تشكيله ضمن منظومةٍ تسعى إلى عزله عن تاريخه ومجتمعه.
وعند خروجه، يُواجه محاولةً أخرى لطمس هويته عبر حرمانه من الاحتفاء الشعبيّ أو تقييد حركته أو إبعاده عن مسقط رأسه، بما يجعل عملية التحرّر ناقصة المعنى.

يمثّل هذا السلوك امتدادًا لسياسةٍ استعماريةٍ قديمةٍ هدفها الأساسيّ محو الفلسطينيّ من الجغرافيا والتاريخ معًا، وتحويله إلى كائنٍ عابرٍ بلا جذور. فالمكان بالنسبة للأسير الفلسطينيّ ليس مجرد فضاءٍ جغرافيّ، بل ذاكرةٌ حيةٌ تختزن معنى الوجود والمقاومة. لذلك يسعى الاحتلال إلى سلخه عن ذاكرته كي يضمن استدامة الهيمنة، ويجعل كل محاولةٍ لاستعادة الوعي الوطنيّ جريمةً تستحق العقاب.

ثالثًا: التمييز العنصريّ والاستعلاء الحضاريّ في الخطاب الغربيّ

يتجاوز التمييز ضدّ الأسرى الفلسطينيين حدود الممارسة الإسرائيلية ليجد تجلّياته في الموقف الغربيّ، ولا سيّما الأمريكيّ، الذي يتبنّى رؤيةً استعماريةً كامنةً تُعيد إنتاج مفهوم “عبء الرجل الأبيض” بصيغته الحديثة. فالغرب — وعلى رأسه الولايات المتحدة — لا ينظر إلى الفلسطينيّ بوصفه إنسانًا متكافئ الحقوق، بل كموضوعٍ للإدارة والسيطرة، في حين يمنح الإسرائيليّ شرعيةً أخلاقيةً مطلقة في كلّ ممارساته.

وقد ظهرت هذه الازدواجية بصورةٍ فاضحةٍ في الصفقة الأخيرة، حين هرع الرئيس الأمريكيّ السابق دونالد ترامب إلى تهنئة العائلات الإسرائيلية بعودة أبنائهم الأسرى، متفاخرًا بدوره في “تحقيق العدالة الإنسانية”، في الوقت الذي تجاهل فيه تمامًا آلاف الأسرى الفلسطينيين الذين يواجهون أبشع صنوف التعذيب والحرمان داخل سجون الاحتلال.
إنّ هذا المشهد لم يكن مجرّد فعلٍ سياسيٍّ بروتوكوليّ، بل تعبيرًا عن رؤيةٍ عنصريةٍ تستبطن تفوّق “العرق الأبيض” وشرعية العنف ضدّ الشعوب غير الغربية، وهو ما يجعل قضية الأسرى الفلسطينيين ساحةً رمزيةً لفضح النفاق الأخلاقيّ الغربيّ الذي يتحدث عن حقوق الإنسان حين يشاء، ويتجاهلها حين تتعلق بفلسطين.

رابعًا: الأسير الفلسطينيّ بوصفه تجسيدًا للمقاومة

رغم القهر الممنهج والتمييز العنصريّ، يبقى الأسير الفلسطينيّ رمزًا لصمود الوعي الوطنيّ الفلسطينيّ. فهو لا يمثّل مجرد حالة إنسانية، بل حالة نضالية تعكس استمرار مقاومة الشعب الفلسطينيّ لكلّ أشكال الإلغاء والنفي. فكلّ جرحٍ في جسد الأسير هو شاهدٌ على حقيقة الصراع، وكلّ حكايةٍ من حكاياتهم تُعيد تعريف البطولة بوصفها فعلًا إنسانيًّا مقاومًا للظلم.

إنّ الأسير الفلسطينيّ لا يقاتل من أجل ذاته، بل من أجل وطنٍ يرى فيه معنى الوجود والكرامة. لذلك تبقى صورهم بعد الإفراج مشبعةً بالوجع والذاكرة، أجسادٌ هزيلة تحمل على ملامحها آثار السياط، وعيونٌ تفيض بالعزيمة والإصرار على مواصلة الطريق. تلك هي الصورة التي يريد الاحتلال طمسها، لكنها تتجدّد مع كلّ صفقةٍ ومع كلّ حكايةٍ تخرج من خلف القضبان لتفضح منظومة الاستعمار الحديث.

خاتمة

إنّ التمييز العنصريّ الذي يتعرّض له الأسير الفلسطينيّ ليس حادثًا عارضًا، بل هو جزءٌ بنيويّ من مشروعٍ استعماريّ يقوم على نفي الآخر واحتكار الإنسانية.

تبقى قضية الأسرى شاهدًا دائمًا على هشاشة الخطاب الإنسانيّ الغربيّ، وعلى صلابة الإنسان الفلسطينيّ الذي ما زال، رغم كلّ الجراح، يؤمن أنّ الحرية حقٌّ يولد من رحم العذاب، وأنّ العدالة لا تتحقّق إلا حين يُرفع الظلم عن كلّ أسيرٍ فلسطينيّ وعن وطنٍ بأكمله ما زال قيد الأسر.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى