شؤون فلسطينية

صقر أبو فخر يكتب – “الكتيبة الطلابية” في ميزان الوقائع الصحيحة

صقر أبو فخر  –  27/9/2018

قرأت باستمتاع السجال الذي دار على صفحات “العربي الجديد” بين الصديقين الكاتبين، معين الطاهر وسلامة كيلة، (6/8 – 5/9/2018)، والمداخلة المفيدة للكاتب وائل ملالحة (31/8/2018). وقد رغبتُ في اقتسام هذه المتعة معهم، لا باعتباري دخيلاً على تاريخ الكتيبة الطلابية، بل كشاهد على جوانب منها. فأنا لم أكن من أعضاء الكتيبة، أو مشاركاً فاعلاً في تجربتها المثيرة، لكنني كنتُ على تخومها، واستنفرت غير مرة في مواقعها (في قاعدة زبقين شرق صور مثلاً مع سعود المولى (كاد محمد صادق الحسيني أن يقتلنا مرّة في أثناء اختبار  السلاح)، وكنتُ باحثاً في مركز التخطيط الذي تولّى منير شفيق إدارته خلفاً لنبيل شعث، علاوة على عضويتي في لجنة الإعلام في الاتحاد العام لطلبة فلسطين في عهدي صخر بسيسو وناصر القدوة. آنذاك، كان مناضلو الكتيبة الطلابية يتقاطرون على مركز التخطيط، وانعقدتْ في أجواء المركز صداقاتٌ شتّى، ونشأت علائق إنسانية ما برحت حاضرة حتى اليوم. وربطتني، في مراحل متعاقبة، وشائج ما انقطعت يوماً بمناضلي الكتيبة، أمثال فتحي البس وعبد اللطيف ريان وزوجته عايدة حداد وهالة صايغ ونظير الأوبري و”ربيع الجبل” وربحي وأدهم ورمضان وابتسام وعبد الفتاح (من القطاع الغربي) زوج الزميلة شيرين التي أسمت ابنها الكبير سعد على اسم الشهيد عبد القادر جرادات الذي كان أول قائد للسرية الطلابية، وكذلك سمير الشيخ التي شاطرتني زوجته غرام مكتبي في أثناء تدرّبها على البحث، والتي استشهدت غدراً مع زوجها في ما بعد.

وفي معمعان النضال الطلابي، تشاطرنا كثيراً اللقاءات والاجتماعات والرفقة مع علي أبو طوق ومعين الطاهر وجورج عسل وزوجته إخلاص، فضلاً عن مناضلي العمل الطلابي، كالعقيد نعمان العويني (لم يكن عقيداً متخرجاً في الكلية العسكرية، بل عقيد في الاندفاع والظُرف)، ومعه توفيق الطيراوي، علاوة على محجوب عمر ومنير شفيق وسامي عبود وطلال ومصباح اللاذقي وميشال نوفل وعبد السلام القرى وعلي رضا والسيد هاني فحص، ومعهم أنيس النقاش وسعود المولى اللذان كثيراً ما حدّثاني بشغف عن معسكر مصياف في أواخر سنة 1973، فضلاً عن أم إبراهيم (سميرة عسل زوجة ناجي علوش وشقيقة منير شفيق)، ولاحقاً شفيق الغبرا وآخرين كثر.

بهذه العُدة، سأشارك في النقاش بحيادٍ أكيد، خصوصاً أن طرفي السجال هما من أصدقائي الذين أحب وأحترم. لكنني سأسير على هدي أرسطو الذي كان يردد: “أفلاطون حبيبي ومعلمي، لكن الحقيقة أحبّ إليّ منه”. ومع أن الحقيقة نسبية دائماً، فأنا اعتقد، في المقابل، أن الماضي لا
“الماركسية المسفيتة، جرّاء جمودها، وركودها، ودفاعها عن رأسمالية الدولة على أنها هي الاشتراكية في حد ذاتها، أنتجت ماركسياتٍ متخلفةً”

يُفسّر الحاضر ألبتة، ولا الحاضر يفسّر الماضي؛ فهذا نوعٌ من إدماج الأزمنة وتحوّلاتها، ومنها بالطبع تجربة الكتيبة الطلابية. والمؤكد أنني معجبٌ بثبات سلامة كيلة على مبادئه الراسخة التي كلما قرأتُ له مقالة “ماركسية” هنا أو هناك، أستعيد رائحة سبعينيات القرن المنصرم في بيروت، حين كنا منخرطين، بعقولنا وجوارحنا، في الحركة الوطنية الفلسطينية، ومنغمرين، بما تيسّر لنا من معارف، في مساجلة الأفكار اللينينية والستالينية والماركسية، بصنوفها التي لا تنتهي، كالماوية والتروتسكية والغيفارية وحرب غوار المدن (التوباماروس)، وجماعات العنف الثوري (الجيش الأحمر الياباني وبادر- ماينهوف الألمانية والألوية الحمر في إيطاليا والعمل المباشر الفرنسية، وحتى الحركة البيرونية الجديدة)، والتصدّي لمسوغاتها النظرية، وكذلك للأفكار المحلية، مثل قصة “الطائفة – الطبقة” التي توهمت أن الحروب الطائفية إنما هي، في جوهرها، صراع طبقي، يتمظهر في شكل حرب طائفية! ومن بين تلك الأفكار حكاية تأسيس حزبٍ للطبقة العاملة الفلسطينية، ولو من دون طبقة عاملة، أو تأسيس حزب شيوعي عربي موحد، تقع عليه مهمة تحرير فلسطين وتوحيد الأمة العربية وإقامة العدالة الاجتماعية بنسختها الشيوعية، ومحاربة الإمبريالية والاستعمار والرجعية العربية.. إلخ؛ وهي مهمة يعجز الممخرقون عن تنفيذها.

وبنظرة استرجاعية، لا بحكمة متأخرة، يمكن القول اليوم إن الماركسية المسفيتة، جرّاء جمودها، وركودها، ودفاعها عن رأسمالية الدولة على أنها هي الاشتراكية في حد ذاتها، أنتجت ماركسياتٍ متخلفةً، كالماركسية الكورية والماركسية الكمبودية، وحتى الماركسية الفيتنامية الفلاحية. وهذه الشيع، مثلها مثل الهرطقات الدينية، ظلت هامشيةً، وتعيّشت على مخاصمة المؤسسة السوفياتية، ونقدها نقداً صحيحاً أحياناً، بل في معظم الأحيان. وعندما انهار الاتحاد السوفياتي، انهارت معه الماركسية السوفياتية، واندثرت معظم تلك الشظايا التي كانت كالفطر الذي ينمو على حراشف التماسيح، وبين أسنانها، والذي تعتاش الطيور عليه. وما إن يموت التمساح، حتى تندثر الفطريات والطيور معاً. وبهذا المعنى، ظلت الماركسية لدى المنظمات الفلسطينية التي تبنتها أو تبنت تعبيراً مخففاً عنها، كالاشتراكية العلمية، حالة خارجية، ومجرد ملجأ أيديولوجي، بعد أن تخلعتْ أبواب الناصرية والبعث ونوافذهما بعد هزيمة 1967. ومهما يكن الأمر، ليس الثبات على المبادئ نقيصة، وليس فضيلة دائماً، فأحياناً يكون التشبث بالمقولات المتقادمة دفاعاً عن الماضي المهزوم، وهذا هو الموقف الرجعي بعينه. ولا عجب في ذلك، فحتى الثابت المعطّل يبدو صحيحاً في بعض الأحيان؛ فالسيارة المخرّبة يمكنها الاستمرار في السير ما دام الطريق منحدراً، والساعة المعطلة تستطيع أن تشير إلى الوقت الصحيح مرتين في اليوم.

اليسار الفلسطيني وناجي علوش في ميزان التاريخ

أراد الصديق سلامة كيلة في مقالة “الكتيبة الطلابية وتجربة ناجي علوش ويسار فتح” (6/8/2018) أن يعيد الاعتبار إلى موقع ناجي علوش في التجربة التي أصبح سلامة كيلة نفسه جزءاً منها بعد نهاية 1974″ (وهذا سعي مشكور بالتأكيد). ويعيب في المقالة ذاتها التعامل بخفّة مع ناجي علوش (وهذا غير مقبول بتاتاً)، ويكتب عنه إنه كان “الأبرز في يسار فتح مع أبو داود”. ويضيف: “كان ناجي علوش عنوان هذا التيار ومركز تجميع ماركسيين يطمحون إلى بديل ماركسي، وكان الهدف بناء حزب شيوعي عربي…”.

هنا، لا بد من الايضاح التالي: إذا كان المقصود بكلمة “التيار” تلك المجموعة السرية قليلة العدد التي اتّحدت في ما بعد مع جماعة صبري البنا (أبو نضال)، فربما يصح القول عندئذٍ إن ناجي علوش كان عنواناً لهذه المجموعة بلا ريب. أما إذا كان المقصود “التيار الوطني

“أحياناً يكون التشبث بالمقولات المتقادمة دفاعاً عن الماضي المهزوم”

الديمقراطي” (أو يسار حركة فتح)، فالأمر ليس على هذا النحو بالتأكيد، بل هو خلاف ذلك، فناجي علوش كان واحداً من التيار، وليس عنوانه، وإقامته في التيار لم تطل كثيراً في أي حال، فانفرد في تأسيس منظمةٍ صغيرة مع منير شفيق (أبو فادي) الذي لم يلبث أن غادرها بعد شهور قليلة، ومع محمد داود عودة (أبو داود)، وكان إلى جانبه أيضاً حنا مقبل (أبو ثائر) وعماد لطفي ملحس (عمر فهمي)، وغير بعيدٍ منه رشاد عبد الحافظ. وليس معروفاً لدي، على وجه اليقين، موقع توفيق الهندي (نبيل عون) في مجموعة ناجي علوش، والمعروف أن توفيق الهندي صار مستشاراً مهماً لسمير جعجع. أما التيار الوطني الديمقراطي، فقد بدأت براعم التفكير في تأسيسه في المؤتمر الثالث لحركة فتح (غوطة دمشق، 1971) غداة الخروج من الأردن. وكانت عملية الخروج نفسها دافعاً إلى التفكير في خيارات بديلة، لكن التيار لم يتبلور إلا في عام 1974، وهو العام الذي شهد انفراد ناجي علوش بمنظمته المحدودة الفاعلية قياساً على الحركة الوطنية الفلسطينية، وبالتحديد حركة فتح. والمعروف أن النواة التأسيسية للتيار الوطني الديمقراطي ظهرت في “لجنة المئة” وفي “لجنة 77” التابعتين للقطاع الغربي، بعدما تسلم الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) قيادة ذلك القطاع، خلفاً لكمال عدوان الذي استشهد في عملية فردان (ليل 9-10/4/1973). والمعروف أن مَن كتب الوثيقة الفكرية لهذا التيار في سبتمبر/ أيلول 1975 هو حنا ميخائيل (أبو عمر)، لا ناجي علوش، وكانت بعنوان “ملاحظات أولية حول الثورة العربية”، وفيها تطلعٌ إلى تأسيس حزب فلسطيني ماركسي- لينيني مقاتل، ثم تأسيس حزب شيوعي عربي موحد في المدى الأبعد. وكان أبو عمر نفسه الأبرز في الدعوة إلى تأسيس تيار يساري ديمقراطي ثوري في داخل حركة فتح؛ تيار يعتنق فكرة الكفاح المسلح، ويتبنّى مضامين قومية عربية وماركسية معاً، ويقف ضد التسويات السياسية لقضية فلسطين، ويتصدّى لصوغ حزب ماركسي في وسط فلاحي. وبالطبع، كان ناجي علوش في صُلب هذا التيار الذي ضمّ إلى جانب أبو داود وصبري البنا، أبو خالد الصين ومي صايغ وجيهان الحلو وعبد الفتاح القلقيلي (أبو نائل) وموسى العملة (أبو خالد) وسعيد مراغة (أبو موسى) ومحمود البدر (أبو مجدي) وواصف عريقات (أبو رعد) وغطّاس صويص (نزيه أبو نضال) وخالد أبو خالد ومحمد أبو ميزر (أبو حاتم) وراجي مصلح ومرعي عبد الرحمن (أبو فارس) وإلياس شوفاني وسميح أبو كويك (قدري) وأبو معن الشاويش وعوض البرغوثي (عمر أبو ليلى) وماجد أبو شرار (أبو سلام) ونمر صالح (أبو صالح) ويحيى يخلف (أبو هيثم) وجمعة الناجي، وكان يجري في ملاعبه كثيرون غيرهم.

والواضح أن هذا التيار كان مثل سفينة نوح، فيه كل ما هب ودب؛ فثمّة من يسعى إلى تأسيس حزب شيوعي عربي، وهناك من يعارض القيادة الفلسطينية وليس أكثر، وهناك مَن كان يسارياً ولا يهمه تأسيس حزب شيوعي عربي على الإطلاق، وهناك “ماركسيون” لم يقرأوا في الماركسية إلا بعض كتب دار التقدّم وكراريس بودوستنيك وياخوت و”كيف تصبح شيوعياً بأحد عشر درساً واثني عشر تمريناً”. وهناك مَن كان يؤيد البرنامج المرحلي، أو برنامج النقاط العشر (1974)، أمثال نمر صالح وماجد أبو شرار، وهناك مَن كان يعتبر حركة فتح مجرّد مظلة لأفكاره، مثل إلياس شوفاني. وبالتأكيد لم يكن أبو موسى ماركسياً أو أبو خالد العملة الذي تواطأ على تأسيس منظمة فتح الإسلام، وساهم بضحالته وفاشيته في تدمير مخيم نهر البارد في لبنان.

عودةً إلى منظمة ناجي علوش التي كان يشغل فيها موقع الأمين العام، وأبو داود موقع المسؤول العسكري، وأبو نضال موقع المسؤول المالي، ومنير شفيق موقع المسؤول التنظيمي (أنظر مقالة سلامة كيلة في 6/8/2018)، فهذه المنظمة ليست التيار الوطني الديمقراطي، بل هي مجموعة سرّية منفصلة عن التيار، وإن كانت تألفت في نطاقه. لكن الطامّة الكبرى

“كان على سلامة كيلة أن يتساءل عما انتهت إليه تجربة ناجي علوش نفسها والتي كان هو أحد أعضائها”

كانت أبو نضال وجماعته الإرهابية التي تحالف معها علوش في البداية، مع أن أبو نضال مفصولٌ من حركة فتح بقرار صادر عن اللجنة المركزية في 26/7/1974، بعد محاولته اغتيال محمود عباس (أبو مازن) في دمشق. وهذا ما اعترف به مصطفى مراد (أبو نزار) الذي قتله أبو نضال في 17/10/1988. وقد اتّحدت مجموعتا ناجي علوش وأبو نضال في سنة 1977 في منظمة واحدة يرأسها أبو نضال. ثم تولى ناجي علوش في صيف 1979، حين خضع أبو نضال لعملية جراحية في القلب، قيادة المنظمة موقتاً. وكان من المحال أن يتعايش القاتل (أبو نضال) مع الكاتب والمثقف والمناضل السياسي العَجول، فانشق علوش على “المجلس الثوري”، واتخذ لمجموعته اسم “الحركة الشعبية العربية”.

يأخذ سلامة كيلة على الكتيبة الطلابية والاتجاه الماوي في حركة فتح أنها اندرجت في مشروع رجعي، أوصل الأمور إلى معاهدة كامب دايفيد واتفاق أوسلو، ويتساءل: أين استقر هؤلاء (أي أعضاء الكتيبة) بعد جملة من التحولات الأيديولوجية؟ وهذه المقايسة ليست علميّة ألبتة، بل معايرةً تتنافر مع الحياد والموضوعية والنزاهة البحثية. ربما كان على الصديق سلامة أن يتساءل بالأحرى عما انتهت إليه تجربة ناجي علوش نفسها، والتي كان هو أحد أعضائها. وكيف تكون التجربة ثوريةً، وهي تتمرّغ في أحضان أبو نضال الذي فتك بالمناضلين الفتحاويين، ولها صلة وثيقة بالمخابرات العراقية التي قتلت في بيروت مَن قتلت، أمثال عادل وصفي (خالد العراقي) نائب رئيس تحرير مجلة “فلسطين الثورة”؟ ويعترف سلامة كيلة بأن إحدى نقاط ضعف تجربة علوش كانت العلاقة مع أبو نضال، وهو هنا يستعمل عبارة “إحدى نقاط الضعف”، وهي عبارة خفيفة ولطيفة وغير عفيفة؛ فتلك العلاقة كانت قاتلة لتجربة ناجي علوش، ولسمعته مناضلا ومثقفا وكاتبا، وليست إحدى نقاط ضعف تجربته السياسية فحسب. ويضيف سلامة إن تجربة ناجي علوش لم تكن ناجحة، على الرغم من أن الموقف الذي حكم التجربة صحيح!

ما هذا الإستنتاج؟ وَلَوْ… استفد قليلاً من المنطق الصوري، تبع أرسطو يا أخي  سلامة، فالنتيجة يجب أن تكون متطابقةً مع المقدمة، أي ضرورة عدم التناقض. كيف يكون الموقف السياسي صحيحاً والتجربة فاشلة؟ يحتاج الأمر إلى منجِّم مغربي لحل هذا التناقض، لا إلى كارل ماركس أو فريدريك أنغلز أو حتى هيغل. وأنا أرى، في هذا الميدان، أن تجربة ناجي علوش لم تكن ضعيفة، بل كسيحة منذ البداية. ولا يسعني أمام هذا الارتباك المعرفي إلا أن أردّد مقولة أوقليدس في البدهيات: “ما قُدّم من دون دليل يمكن رفضه من دون دليل”، وأن استنكر طرفةً مطابقةً من طرائف تلك المرحلة، وهي أن المفوّض السياسي للكتيبة الطلابية كان يعرض تقديراً للموقف السياسي آنذاك، جاء فيه أن إسرائيل  تبدو مقيدة وغير قادرة على شن هجمات ضد المقاومة، لأن أميركا لا ترغب في منحها الضوء الأخضر للقيام بذلك. وما هي إلا لحظات حتى كانت الطائرات الاسرائيلية تغير على مقر قيادة الكتيبة، فانبطح الجميع أرضاً. وهتف مروان كيالي للمفوض السياسي، قائلاً إن تقديره السياسي كان خاطئاً كلياً، فرد عليه المفوض بالقول الجازم:  أنا تحليلي صحيح،  لكن ماذا أفعل إذا كان مناحيم بيغن حماراً ولا يفهم في السياسة؟
الكتيبة الطلابية ومعين الطاهر والبدايات

يكتب سلامة كيلة في مقالته الأولى: “يبدو أن معين لا يمتلك معلوماتٍ كافية عن الكتيبة الطلابية، ولا عن كيفية تأسيسها أو مَن كان يقف وراء تأسيسها…”. وهذا الكلام تجاوز على العلم والوقائع الصحيحة، فمعين الطاهر هو ثاني قائد للكتيبة الطلابية، وكان حاضراً في تأسيس “السرية الطلابية” التي هي سلف الكتيبة، فكيف لا يعرف ما يكفي عنها وعن نشأتها؟ وتبدو هذه النتيجة لي متناقضة ومجافية  للحقيقة، وهي تحتاج إلى لوغاريتم لحلها. وقد أوقع سلامة كيلة نفسه فوق ذلك في رمال متحرّكة، فما يكاد يرفع جانباً من جسمه، حتى يغرق جانبه

“معين الطاهر هو ثاني قائد للكتيبة الطلابية، وكان حاضراً في تأسيس “السرية الطلابية” التي هي سلف الكتيبة”

الآخر، فكأنه أدخل عصاه في ما لا يخصه، بل راحت الوقائع تهرّب منه؛ فمعين الطاهر، كما  يعرف جميع المطلعين، كان موجوداً منذ البدايات، وعيّنه أبو جهاد غداة تأسيس “السرية الطلابية” نائباً لقائد الكلية العسكرية في سورية، ومفوضاً سياسياً لها (كان قائد الكلية مطلق حمدان – أبو فواز). والمعروف أن تأسيس السرية جرى في صيف 1973 (وليس في سنة 1972 كما يذكر سلامة كيلة)، وبالتحديد بعد توقف اشتباكات 2/5/1973 التي كان للطلبة القدح المعلّى في إفشال هجوم الجيش اللبناني على المخيمات. ولا أدري لماذا تغافل سلامة كيلة عن اثنين كانا المؤسسَين الفعليين للسرية، ثم للكتيبة، وهما الشهيدان حمدي وسعد، أي باسم سلطان التميمي وعبد القادر جرادات. وحمدي كان القائد العسكري الحقيقي للسرية، لكنه بذهابه متسللاً إلى الأردن لمتابعة مهماته في الضفة الغربية، عُين عبد القادر جرادات (سعد) قائداً للسرية. وقد دعم جواد أبو الشعر، كما هو معروف، هذا التشكيل الجديد وأمدّه بالسلاح، واعتبره أحد تشكيلات المليشيا. أما التيار الفكري الذي نشأت الكتيبة الطلابية في سياقه فهو، علاوةً على التيار الوطني الديمقراطي في حركة فتح، مجموعة الجبل بقيادة هلال رسلان (أبو محمود)، وهو مفكّر سوري كان سفيراً لسورية في الصين، وكان أفراد هذه المجموعة يعملون تحت اسم “اللجان الوطنية”، ويطمحون إلى تأسيس حزب شيوعي عربي أيضاً، ومنهم شهيد الكتيبة أمين العنداري (أبو وجيه). إذاً، لم يكن ناجي علوش وحده من سعى إلى تأسيس حزب شيوعي عربي موحد، بل كانت الفكرة شائعة جداً، وفي جميع الأوساط اليسارية، بما في ذلك حزب العمال الشيوعي الفلسطيني (سليمان البرقاوي وعبد الرحمن البرقاوي وزينب الغنيمي وآخرون).

في السياق نفسه، من غير الصحيح القول إن نمر صالح وناجي علوش وحدهما مع آخرين من يسار فتح كانوا من دعاة خوض المعركة العسكرية لكسر شوكة اليمين الانعزالي اللبناني، وإن منير شفيق كان من أنصار تحييد الثورة الفلسطينية عن تلك المرحلة (أنظر مقالة وائل ملالحة، 31/8/2018). فمعارك البرجاوي ورأس النبع ومحطة الناصرة، حيث سقط عبد القادر جرادات شهيداً، وكذلك معارك الجبل، تدحض ذلك تماماً. نعم، كانت الأولوية للقتال ضد إسرائيل في الجنوب، لكن حماية المقاومة والشعب الفلسطيني، كانت من الأولويات أيضاً. وليس صحيحاً ما أورده وائل ملالحة عن أن ياسر عرفات أراد الحفاظ على ميزان القوى المنقسم بين بيروتين شرقية وغربية، الأمر الذي أطال سنوات الحرب، ومكّن القوى الانعزالية من الاستمرار في مهاجمة الوجود الفلسطيني.

ما هذا الوصف؟ ما هذه القراءة؟ إنها لا تمت إلى الوقائع الصحيحة بأي صلة. لقد خيضت

“كانت الأولوية للقتال ضد إسرائيل في الجنوب لكن حماية المقاومة والشعب الفلسطيني كانت من الأولويات أيضاً”

معارك هائلة في بيروت نفسها، وهُزم الكتائبيون وحلفاؤهم، كالوطنيين الأحرار وجماعة التنظيم في المنطقة الرابعة، أي منطقة القنطاري وجوارها، التي كانت تسيطر برصاص القنص على شارع الحمراء. ثم هُزم الكتائبيون في معارك الفنادق والأسواق التجارية والزيتونة، ما أدى إلى رسم خطوط عسكرية على النحو المعروف، أي بيروت التي يقسمها طريق الشام. ولولا تلك المعارك لكانت خطوط التماسّ ظلت إلى الغرب على تخوم مناطق الحركة الوطنية اللبنانية. ولو تأخر الدخول السوري إلى لبنان، لكانت مناطق أخرى في شرق بيروت سقطت بأيدي القوات المشتركة، فالدخول السوري هو الذي كرس ستاتيكو جديداً، بحسب لحظة وقف النار، وبحسب ما استقرت عليه الأحوال العسكرية آنذاك، وليس ياسر عرفات. وأستطيع اليوم أن أستعيد تلك الفترة وسجالاتها بالقول إن موقف الكتيبة الطلابية من حزب الكتائب كان هو نفسه موقف حركة فتح، باعتباره حزباً فاشياً معادياً  للفلسطينيين والمقاومة الفلسطينية. وكان الخلاف على شعار عزل الكتائب الذي رفعته الحركة الوطنية اللبنانية، بزعامة كمال جنبلاط، بعد مجزرة عين الرمانة في 13/4/1975. وكان تيار الكتيبة يرى أن عزل الكتائب يقوّي الفاشية اليمينية، ورأى آخرون غير ذلك، وهو، في أي حال، اجتهاد سياسي لم يغير شيئاً في مجريات الأحوال. تماماً مثلما وقفنا ضد القصف  العشوائي للأحياء المسيحية، لأننا كنا نرى أن من شأن ذلك إيقاع القتل بالمواطنين الأبرياء، وتقوية النزعات الفاشية. وهذا ما حصل حقاً، فقد صار بشير الجميل حامياً لمنطقة الأشرفية الأرثوذكسية التي كانت تكره بشير الجميل، وحزب الكتائب وميليشياته الجبلية الفظة. وللغرابة، فإن مَن مارس القصف العشوائي كان اليسار الفلسطيني، أمثال نمر صالح وحلفائه الذين كانوا يتشدّقون صبح مساء بالبروليتاريا والجماهير والماركسية.

هنا في هذا الحقل من التاريخ القريب، وقع سلامة كيلة في غلط فادح (راجع مقالته في 5/9/2018)، حين ذكر أن قوات أبو خالد العملة، وبقيادته، هي التي أوقفت تقدّم الجيش السوري في الجبل. اعتذر سلفاً، يا صديقي سلامة، إذا قلت إنك هنا كمن يستعمل النحو في الحساب، فالجميع يعلم أن أبو جهاد ورفاقه هم من كانوا يقودون معارك الجبل في بحمدون وعاليه. وأبو جهاد لم يكن يريد إيقاع الخسائر بالجيش السوري، وكان ذلك موقفاً حكيماً، بل يريد أن يعقد تفاهماً مع القيادة السورية على ترتيبات الانتشار العسكري السوري من موقع المقتدر، لا من موقع المهزوم، خصوصاً أن منظمة التحرير الفلسطينية كانت قد قبلت قرار جامعة الدول العربية في شأن إرسال قوات أمن عربية إلى لبنان لوقف القتال (9/6/1976)، مثلما قبلت لاحقاً قرارات مؤتمر القمة العربية المصغرة في الرياض (16/10/1976) في شأن تأليف قوات الردع العربية. وكان قرار حركة فتح آنذاك معارضة الدخول العسكري السوري إلى لبنان، وعدم مواجهته عسكرياً في الوقت نفسه، والاستمرار في تأييد كمال جنبلاط ونقد التحالف السوري – الكتائبي. والمهبول وحده الذي كان سيتخذ قرار المواجهة ضد الجيش السوري آنذاك، لأنه سيُسحق بكل بساطة، مع أن كثيرين من عديمي المسؤولية والأميين السياسيين انتخوا لمقاتلة الجيش السوري، من دون أي اعتبار لميزان القوى السياسي والعسكري. وقد تحول هؤلاء، في سنة 1983، يا للعجب، إلى التلذّذ بأحضان المخابرات السورية. أما أبو خالد العملة فقد فرّ من صنين مع أول صلية من المدفعية السورية بسيارته البيجو، وكان كعبا قدميه يطرقان قفاه بتسارعٍ غير مسبوق، في أثناء فراره الذي لم يتوقف حتى وصل إلى مدينة عاليه، وهناك استراح ونام.

قصة علي سالم ونائبه أحمد دعيبس

يقول  سلامة كيلة في مقالته (6/8/2018) ما يلي: “أشاعت قيادة حركة فتح أن هذه

“حركة فتح بادرت إلى اعتقال مجموعات لأبو نضال من دون إراقة أي دماء، واحتجزت الجميع فترة ثم أطلقتهم بالتتابع”

المجموعات [أي التي أدخلها أبو نضال وناجي علوش خفيةً إلى لبنان] قدمت من أجل عمل انقلاب على قيادة حركة فتح، وأنها تريد التمركز في الجنوب لهذا الهدف. لكن، في الواقع، كان الهدف الحقيقي هو قتال العدو الصهيوني (…). كما جرى إعدام قائدي مخيم تل الزعتر، أبو أحمد وأبو عماد فقط، لأن زعيم حركة فتح كان يريد تسليم المخيم، ورفض هذان البطلان قراره، لذلك استغل مشاركتهما مع ناجي علوش في قتال العدو الصهيوني ليصدر حكماً بالإعدام عليهما”.

لم تجر الأمور على هذا النحو أيها الصديق. إنها رواية ملفقة ومزوّرة ومضللة، ومعلوماتكم ناقصة، والمرحومان أبو أحمد وأبو عماد لم يكونا قائدي مخيم تل الزعتر، بل مقاتلان مسؤولان فيه. أما حادثة الإعدام الغبية والظالمة فقد جرت بعد سنتين على سقوط تل الزعتر. ولو أراد ياسر عرفات إعدامهما جرّاء موقفيهما في تل الزعتر، كما تزعم، لما احتاج سنتين، كي يتحين فرصة للانتقام. هذا هراء. فإعدام أبو أحمد وأبو عماد لا علاقة له ألبتة بتل الزعتر، وله حكاية تروى، وهي كما يلي:

أصدر مجلس الأمن، في 19/3/1978، قرارًا بوقف النار في الجنوب اللبناني، غداة “عملية الليطاني” التي شنتها إسرائيل في 14/3/1978، رداً على عملية كمال عدوان التي تولت دلال المغربي (وهي مناضلة في الكتيبة الطلابية) قيادة مجموعة الإسناد في تلك العملية (لا قيادة العملية كما هو شائع). ودعا القرار إسرائيل إلى سحب جيشها من الجنوب اللبناني، وإرسال قوات دولية موقتة لمراقبة وقف النار (وصلت القوات الدولية إلى لبنان بالفعل في 11/4/1978 وكانت نرويجية). والتزمت منظمة التحرير الفلسطينية القرار، واعتبرته نصراً عسكرياً ودبلوماسياً لها، لأنه طلب من إسرائيل الانسحاب، وخاطب المنظمة باسمها مباشرة. لكن، بعد وقف النار، تواطأ بعض القادة في حركة فتح مع صبري البنا على تخريب وقف النار، وتوجيه ضربات إلى القوات الدولية، الأمر الذي يضع قوات المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية أمام خطر إسرائيلي مباشر، وهذه المرة من دون مساندة دولية وسوفياتية بالتحديد. وقد افتضحت هذه الخطة، وجرت اعتقالاتٌ واسعةُ، من بينها اعتقال ناجي علوش أياما غادر بعدها إلى بغداد، كما غادر أبو داود إلى الجزائر. أما الأخطر في هذه الحكاية فهو إدخال نحو 120 عنصراً من جماعة أبو نضال الإرهابية إلى لبنان بحجة مقاتلة العدو الصهيوني. وتركّزت هذه المجموعات، لا في الجنوب لمقاتلة إسرائيل، بل في مناطق الدامور والناعمة والجية على الخط الساحلي بين بيروت والجنوب. وهنا يمكن القول إن بعض هؤلاء المقاتلين ربما كانوا يريدون حقاً مقاتلة الجيش الاسرائيلي، لكن صاحب الأمر، أي أبو نضال، كان يتطلع إلى غير ذلك. وعلى سبيل المثال، طلب من أبو داود، وهو حليفه وحليف ناجي علوش معاً، أن يجعل أحد رجال أبو نضال حارساً له. وكان صلاح خلف (أبو إياد) يتردّد باستمرار على منزل أبو داود ومكتبه، وكانت الغاية، وهي غاية في النذالة، أن يتحين الحارس فرصة لإطلاق النار على أبو إياد، فيبادر أبو داود إلى إطلاق النار على ذلك الحارس. وهكذا يُقتل أبو إياد والقاتل وتختفي الدلائل. لكن أبو داود رفض تلك الخطة المنحطّة، وكان ذلك سبباً في نقمة أبو نضال عليه.

قصارى الكلام في هذا المقام، أن حركة فتح بادرت إلى اعتقال مجموعات أبو نضال كلها من دون إراقة أي دماء، واحتجزت الجميع فترة ثم أطلقتهم بالتتابع، مع أن ذلك كان يُعد بالفعل خرقاً أمنياً خطيراً ربما أدى، في ما لو لم يتم اعتقال هؤلاء، إلى ارتكابهم مجازر دموية متنقلة في الوسط الفلسطيني، فضلاً عن كونه تصرّفاً غير أخلاقي، ومخالفاً لأصول الانتماء السياسي والولاء لحركة فتح، ثم إن ضرب القوات الدولية تصرّف أحمق يسيء إلى أهل الجنوب اللبناني، وإلى الحركة الوطنية اللبنانية التي وجدت في القوات الدولية آنذاك نوعاً من الحماية أمام الاعتداءات الاسرائيلية اليومية. وقد حوكم علي سالم (أبو أحمد) ومحمود دعيبس (أبو عماد) في 19/6/1978 بتهمة تقديم المأوى والسلاح إلى مجموعاتٍ معادية تابعة لأبو نضال، وكان رئيس لجنة التحقيق الرائد عبد الفتاح أبو عمشة (أبو صلاح)، وصدرت الأحكام عليهما بالاعدام. ولا ريب في أن حكم الاعدام ظالمٌ تماماً، لكن المسؤول الأول والحقيقي عن هذا الحكم هو من تواطأ على إدخال تلك المجموعات إلى المناطق العسكرية الفلسطينية، وتسبب في صدور ذلك الحكم الجائر الذي كان في الإمكان تجنّبه تماماً. وهذا ما حصل حقاً من دون أي تلاعب. ويستطيع أي شخص أن يكابر ويعاند ويراوغ، ويروي تلك الحادثة خلافاً للحقيقة، واستناداً إلى أهوائه، وهذا هو التضليل بعينه. وفي جعبتنا مزيد من المعلومات القاطعة والوثائق الدامغة عن ألاعيب تلك الفترة، الأمر الذي يصيب هؤلاء الذين تعاونوا مع أبو نضال بالذهول والانكسار، ولا سيما الذين انشقّوا على حركة فتح في 9/5/1983.

*العربي الجديد – صقر أبو فخر –  كاتب عربي مقيم في بيروت

15

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى