أقلام وأراء

صقر أبو فخر يكتب – إيضاح ما استشكل .. إبراهيم نصرالله وأنا وظاهر العمر

صقر أبو فخر *- 11/12/2020

قرأتُ في “العربي الجديد” (2/12/2020) مقالة للروائي الفلسطيني المرموق، إبراهيم نصرالله، عنوانها “الفلسطينيون ليسوا مُلفِّقين”، وهي، من بابها إلى محرابها، ردّ على مقالة لي نُشرت في “العربي الجديد” (27/11/2020) بعنوان: “ردًّا على التلفيق الفلسطيني: ظاهر العمر متمرّد وليس بطلاً”. وفي الأثر ثار العجاج، وكاد النقع يسيل بين القبائل المجروحة! إنني أتفهم غضب الأستاذ إبراهيم نصرالله؛ فانتخى نخوة مُضرية. ولو كنتُ في مكانه لفعلتُ، على الأرجح، ما فعله. وقد لامني، في البداية، على عنوان مقالتي، والذي رأى أنه وحده يستحق ردًا، واتهمني بأنني أُلحق “التلفيق” بالفلسطينيين كلهم دفعة واحدة، الأمر الذي يشبه “العقاب الجماعي”. ولأنه استهول هذا الكلام، فقد بادر إلى تلاوة نصائحه عليّ قائلًا إن من الأفضل لو أنني لم أقطع بأن ظاهر العمر كان متمرّدًا وليس بطلاً، وكان عليّ أن أتساءل: هل ظاهر العمر متمرد أم بطل؟

على رسلك، يا أخي أبا إسماعيل (بحسب روايتنا العربية عن أبينا إبراهيم)، واسمع نخبّركَ اليقينَ. العنوان الأصلي لمقالتي كان على النحو التالي: “تلفيق تاريخ لفلسطين: ظاهر العمر أَبطل هو أم متمرد؟”. وواضح من العنوان أنني لم أتهم الفلسطينيين كلهم، وأنا منهم، بتلفيق التاريخ الفلسطيني، وأنني، بصيغة التساؤل التي استخدمتها في شأن ظاهر العمر، تركتُ أمر تقويم تجربته للترجيح، مع أن لي فيه رأيًا عرضته في متن المقالة. ظلمني قلم التحرير، ما أتاح ردًا غاضبًا من إبراهيم نصرالله الذي أقدّره روائيا لا يهدأ عن الحفر في التاريخ الفلسطيني، وأتاح لجمهور من الغوغاء أن يتجاوزوا، على مواقع التواصل الاجتماعي، العلم إلى الشعبوية الخالصة، وهؤلاء استمدّوا من مقالة إبراهيم نصرالله النصرةَ والمعين.

“لم أتهم الفلسطينيين كلهم، وأنا منهم، بتلفيق التاريخ الفلسطيني “.

ثم يقول إبراهيم نصرالله إنني لم أعترض على أي واقعة تاريخية وردت في روايته “قناديل ملك الجليل” التي جاءت مقالتي كرد عليها. حسنًا، ليكن واضحًا ما سأقول: أنا، يا أخي، لم أردّ على روايتك ألبتة، ولم أتطرّق إليها وإلى تفصيلاتها قط. ولهذا لم أعترض على أي واقعة تاريخية وردت فيها، وكل ما فعلته أنني استخدمت عبارةً من التمهيد المنشور في بداية الرواية مدخلا لمقالتي، أي مجرّد استشهاد للولوج إلى معالجة موضوع ظاهر العمر، وهو موضوع تاريخي قد تُكتب فيه مائة مقالة إضافية. وهذا الاستشهاد، كما تعلم، كثيرًا ما يلجأ إليه الكُتّاب، كأن يستشهد الواحد منهم بعبارة، طويلة أو قصيرة، من غوتة أو محمد الماغوط أو محمود درويش أو ابن خلدون. ولعل كلمة “ردّا” في العنوان الذي لم تصغه أصابعي ألبتة قد خدعتْ عزيزنا إبراهيم، فاعتقد أن مقالتي عن ظاهر العمر ردّ عليه، أو أنني أنقض على روايته التاريخية، فبادر إلى الردّ عليّ كأنه وكيل ظاهر العمر. والحقيقة أن مقالتي مستقلة تماماً عن الرواية، ويمكن قراءة المقالة بمعزلٍ عن الاستشهاد الذي اختطفتُه منها.

لم أؤسّس مقالتي على رواية “قناديل ملك الجليل”، ولم أُعد قراءتها حين كنتُ أكتبها، لأن النصّ الذي يعالج شأنًا تاريخيًا لا يمكن أن يُبنى على روايةٍ مهما بلغت من الإحكام. ولعلم الأخ إبراهيم نصرالله، تأتي مقالتي عن ظاهر العمر في سياق مراجعة تاريخية متشعبة نشرتُ منها مقالة عن فخرالدين المعني في “العربي الجديد” (1/9/2020)، وستقرأ قريبًا دراسة مطولة عن تحولات النخب الفلسطينية منذ العهد العثماني حتى اتفاق أوسلو، وكيف فشلت تلك النخب في تحقيق الاستقلال عن بريطانيا، وفي منع قيام دولة إسرائيل في عام 1948، ولماذا فشلت في تحرير فلسطين في مرحلة التحرّر الوطني .. إلخ. وعملية المراجعة تصطدم دائمًا بالميراث المستقر والشائع، وتستفز أصحاب الفكر التقليدي، لأنها مرتبطةٌ بالهوية، بل إنها تؤلم أنصار القراءات الدورَانية. ويعرف إبراهيم أن الدائرة غير الدوران؛ فالدائرة تكرارٌ لا ينتهي مثل الفصول الأربعة، ومثل الأحكام الدينية، فيما الدوران يكون كالحلزون الذي تتشابه كل دائرةٍ فيه مع ما قبلها، لكنها ليست هي نفسها. والدوران الحلزوني، بحسب شيخنا ماركس، هو تقدّم إلى الأمام لا مراوحة في المكان. وقراءتي التاريخ الفلسطيني هي من هذا الطراز الذي يُدمي أحيانًا ذوي القراءات المشيخية.

“عملية مراجعة التاريخ تصطدم دائمًا بالميراث المستقر والشائع، وتستفزّ أصحاب الفكر التقليدي”.

ربما يكون هذا الإيضاح كافيًا لوقف السجال عند هذا الحد. لكن ما أثاره إبراهيم نصرالله حفّزني على الإسهاب في الحوار معه، كي أطعمه من معجنه وسأشبعه مما طبخ. وسأعالج نقاطًا معدودة وردت في مقالته. والمعالجة هنا ليست من مصطلحات الطب، وإنما هي، باللهجة البدوية في بلاد الشام، المساجلة بالكلام. أَلم تغنِّ فيروز من هذا الفلكلور الذي سرقه الأخوان رحباني أغنية “تحتِ هودجها وتْعالجنا، صارِ سحبِ سيوف يا ويلحالي”؟.

التاريخ والوثائق

حين أصدر أستاذنا كمال الصليبي كتابه “التوراة جاءت من جزيرة العرب” (1985) تبارى فلسطينيون كثيرون في الهجوم على الكِتاب والحط من قيمته التاريخية، لأنه ينقض الرواية السارية عن تاريخ فلسطين المبكر، وهي روايةٌ تستند إلى الدراسات التوراتية، وتعتمد التوراة نفسها مصدرًا أصليًا للتاريخ الفلسطيني القديم. وقد كنتُ شاهدًا، وأحيانًا مشاركًا، في نقاشاتٍ لا تنتهي في هذه النظرية في مقر “الموسوعة الفلسطينية” في بيروت، حين كنتُ مساعدًا للدكتور أنيس صايغ، والتي كثيراً ما شارك فيها قسطنطين زريق ونقولا زيادة ومحمود زايد وإحسان عباس وغيرهم. وكانت الاعتراضات تنصبّ على أن كمال الصليبي خرّب التاريخ الفلسطيني، مع أنه خرّب الرواية اليهودية عن فلسطين. لكن، لم يطل الأمر حتى صار كتاب الصليبي هذا، وكتبه الأخرى، مرجعًا للمؤرّخين الفلسطينيين الذين نفضوا من رؤوسهم عمائم التقليد، وراحوا ينظرون إلى التاريخ نظرة جديدة، نقدية وعلمية، تقوم على استنطاق الآثار واللقى والنقوش والوثائق، لا على المروّيات وحدها، خصوصًا ما كان منها مزوّرًا وملفقًا. وحين كتبتُ مقالة ضافية عن سمسار الأراضي كامل الحسين (“العربي الجديد”، 18/9/2015)، ثار في وجهنا بعضٌ من عشيرة الغوارنة، واعتبروه بطلًا وطنيًا، مع أن جميع المصادر المتوفرة تُجمع كلها على عمالته للوكالة اليهودية، ورجالها أمثال يوسف فايتس ويوسف نحماني. وها نحن اليوم نرصد تقاحم كثيرين علينا وعلى ما كتبناه في شأن ظاهر العمر. ولن أتردّد في القول، هنا الآن، لا للأخ العزيز إبراهيم نصرالله، بل للغوغاء وللمجموعات المتخثرة ومُرقّصي القرود، إننا نحن حرّاس الهوية الفلسطينية التحرّرية. فحين كنا نقلّع الشظايا من تحت جلدنا، ولا سيما من وجهنا ويدنا اليسرى وساقنا اليمنى، وآثارها ما برحت موجودةً كالوشم، كان هناك من يمشّط شعره هنا وهناك. وأنا من الذين يعتقدون بقوة إن التواريخ الزائفة لا تصنع هويةً قوميةً متينة، بل هوية مفكّكة وضعيفة. والهوية الفلسطينية المتطلعة إلى المستقبل لا تُبنى على حكايات الأرياف والمرويات الشعبوية والمراجل الريفية المتفاخرة من عيار “فلسطين بلادنا واليهود كلابنا” و”اليهودي إذا شاف دمو مات”، و”يا يهودي يا ابن الكلب شو جابك عَ بلاد الحرب”.

“ما بال المؤرّخين العرب والفلسطينيين يتسابقون على الوثائق البريطانية كلما رُفعت السّرية عنها سنةً بعد سنة”؟ .

يستغرب إبراهيم نصرالله كلامي عن ضرورة استكشاف الوثائق العثمانية في شأن تلك الحقبة التي لمع فيها ظاهر العمر، ويعلّق بالقول إن ذلك يشبه الالتجاء إلى أرشيف المخابرات المصرية في مسألة قتل خالد سعيد. الله الله يا شيخ إبراهيم! ما بال المؤرّخين العرب والفلسطينيين يتسابقون على الوثائق البريطانية كلما رُفعت السّرية عنها سنةً بعد سنة؟ أَيجوز التفتيش في وثائق الاستعمار البريطاني، ولا يجوز التنقيب في وثائق “الاستعمار التركي”؟ والمعروف أن جمهرة من المؤرخين العرب ما زال يرى الإمبراطورية العثمانية كانت استعمارًا خارجيًا، فيما يرى نفرٌ واسعٌ من المؤرّخين أن الدولة العثمانية كانت دولة الخلافة التي جمعت الترك والعرب والكرد والأرمن، وتصدّت لمطامع الغرب، ولو إلى حين. أما أنا فأنظر إليها مثل نظرتي إلى أي إمبراطوريةٍ أخرى خضعت لتحولاتٍ شتى، واكتسبت شرعيةً ما مثل جميع الدول المتعسّفة. والعسف والظلم في هذا المقام لا ينزع شرعيةً ولا يقطع دستورًا، تمامًا مثل الدولة المملوكية أو الدولة الأيوبية على سبيل المثال. وأشدّد على أن من الضروري جدًا أن نبحث ونكشف المطمورات، ونفتش في وثائق المخابرات في أي دولة كان لها صلةٌ بتاريخنا، مهما بلغ عسف تلك الدولة، فوثائق “كي جي بي” و”شتازي” هي مقلع هائل للمعلومات المهمة والمفيدة عن حقبة المنظومة الاشتراكية. ووثائق الاستخبارات، كما يدرك ذلك المؤرّخون النابهون، مهمة جدًا جدًا لاكتشاف خفايا الأمور، لأن تقارير الاستخبارات لا تكون مزوّرة عادة، إلا بحدودٍ قليلة؛ فالاستخبارات تزوّر ملفاتٍ ضد خصومها وتُلفّق تهمًا لمعارضيها، لكن تقاريرها المرفوعة إلى المستوى القيادي تكون دقيقةً وفي غاية الدقة، لأن المستوى القيادي يحتاج إلى معلومات صحيحة ليبني سياسته عليها. ومع ذلك، لا يمكن التسليم بتقارير الاستخبارات، بل يجب قراءتها في ضوء مآلات الأحوال، وفي ضوء معلومات أخرى تتقاطع معها، وهذا هو علم تحليل الوثائق، وليس الأخذ بها كما هي. وعلى سبيل المثال، يشتغل باحثون فلسطينيون، خصوصًا في فلسطين 1948، على الأرشيف الصهيوني وأرشيف الهاغاناه وأرشيف الوكالة اليهودية، ويستخلصون منه معلوماتٍ كثيرة، ويخرجون بقراءاتٍ ثاقبة واستنتاجاتٍ شديدة الأهمية، ومثالي في ذلك المؤرخون عادل منّاع وقيس فرّو ومحمود محارب وغيرهم بالطبع. وهل ننسى كيف اشتغل باحثون إسرائيليون على الأرشيف الصهيوني، وخرجوا منه بمعلوماتٍ جديدة، ما زلنا نستشهد بها ونشيد بمضمونها، وبجهد أولئك الباحثين، أمثال إيلان بابيه وليئورا أيزنبرغ وهيلل كوهين ورؤفين إيرليخ، وحتى الصهيوني بيني موريس؟ أَلم نكتشف بعض المذابح التي أنزلها الصهيونيون بالشعب الفلسطيني من خلال وثائقهم، مثل مجزرة الطنطورة التي فصّل وقائعها المخفية تيدي كاتس؟ أَلم نكتشف تفصيلات بيوع الأراضي من أراشيفهم ووثائقهم مثل مذكرات يوسف فايتس ويوسف نحماني وكينيث ستاين؟ أَلم يبيضّ شعرُنا حين اطّلعنا على عمالة كثيرين من الفلسطينيين والعرب للاستخبارات الصهيونية قبل عام 1948 من محفوظاتهم التي تُكشف عامًا بعد عام بعد أن تُزاح عنها السرية؟ والأرشيف، يا أخي إبراهيم، لا يعبر عن سياسة الدولة، ففيه وثائق ومحاضر جلسات المؤسسات المختلفة ورسائل مهمة وتقارير اقتصادية واجتماعية وأمنية، وتقارير عن لقاءات سياسية، وعن شخصياتٍ متنوعة، وكلها تعتبر مصدرًا مهمًا لفهم المرحلة التاريخية التي تتناولها تلك المحفوظات.

الهوية والتاريخ

اتهمني إبراهيم نصرالله بنزع تسمية فلسطين عن فلسطين، وإلحاقها بسورية التاريخية، ورأى أن في هذا الأمر أخطارًا مدمرة لقضيتها. والحقيقة الساطعة التي كرّستُ حياتي لها هي التأكيد والتشديد على أن قضية فلسطين هي قضية كل عربي، لا قضية الفلسطينيين وحدهم. ولعل جيلنا فشل في هذا المسعى. ومن المحال أن أنزع التسمية عن فلسطين ذات الـ27 ألف كلم2، أي فلسطين الانتدابية. ما كتبته وما أكتبه وما سأكتبه هو أن من المحال كتابة تاريخ فلسطين من دون تاريخ بلاد الشام أو تاريخ سورية. وسورية هنا هي سورية التاريخية التي كانت حدودها تتسع وتضيق بحسب قوة مركزها أو ضعفه، وهي في الحالتين كانت تشمل فلسطين منذ ما قبل الإسكندر الذي أورثها سلوقس، مثلما أورث مصر لبطليموس. وحين أتكلم على فلسطين التاريخية فأنا أعرف المصطلح تمامًا، أي فلسطين في التاريخ القديم، منذ هيرودوت حتى الفتح العربي. فالسيد هيرودوت قصر فلسطين على منطقة غزة وجوارها التي سكنها الفلستيون أو شعوب البحر، وهي نظريةٌ متهافتة، وما عادت مقبولة علميًا. وفي العهد الإغريقي، كانت عبارة فلسطين قليلة الاستعمال، وفي الحالات التي استُعملت فيها كانت تقتصر على جبال الجليل امتدادًا إلى جبال القدس والخليل وجوارها. وفي الفتح العربي، تحوّلت إلى أجنادٍ من ضمن أجناد بلاد الشام، كما هو معروف لكل من بلّ يديه بتاريخ فلسطين، إلى أن ظهرت فلسطين الانتدابية بمساحة 27 ألف كلم مربع.

“قضية فلسطين هي قضية كل عربي، لا قضية الفلسطينيين وحدهم “.

وهنا، ليسمح لي، أخي إبراهيم، بأن اتهمه بالخلط بين فلسطين التاريخية وفلسطين الانتدابية. وفلسطين التاريخية بعد زمن المسيح، أي في عهد الرومان، هي التي يحاول الصهيونيون أن ينسبوها إليهم، بتسمية المنطقة الواقعة بين طبرية والخليل “اليهودية والسامرة” علاوة على الساحل الممتد من البصّة إلى غزة. وهذه ليست فلسطين الانتدابية التي ظهرت بعد “سايكس – بيكو”، ورسم حدودها الاستعماران البريطاني والفرنسي.

ما بال إبراهيم نصرالله يذكّرني، ممتعضًا، بجزيرة قبرص التي جعلها أنطون سعادة جزءًا من الأمة السورية؟ وما علاقة هذا بذاك؟ الفكرة القومية السورية حديثة نسبيًا، والحزب السوري القومي الاجتماعي أسسه سعادة في سنة 1932، فيما كنتُ أتحدّث في مقالتي عن ظاهر العمر تبع العام 1640 وما بعده. ومفهوم سورية التاريخية أمرٌ مختلف عن القومية السورية، مع أن بينهما اشتراكًا وافتراقًا. وفي هذا الميدان، خَلَطَ أخي إبراهيم عباسًا بدرباس. وعبارة “أخي إبراهيم” أَستعملُها للتحبب، وكثيرًا ما استعملتْها فدوى طوقان في رسائلها إلى شقيقها إبراهيم، واستعملها “عباس بن الأحنف” أيضًا. وعباس بن الأحنف هو المؤرّخ عمر فرّوخ صديق إبراهيم طوقان. وظل إبراهيم طوقان حتى سنة 1941 يذيّل رسائله إلى شقيقته فدوى بعبارة “بيروت – سوريا” . ويعلم أخي إبراهيم جيدًا أن أول جريدة في القدس بعد الاحتلال البريطاني كان اسمها “سورية الجنوبية” التي أصدرها عارف العارف ومحمد حسن البديري، وأن فوزي القاوقجي قائد جيش الإنقاذ كان يوقّع بياناته في سنة 1936 بعبارة “القائد العام للثورة العربية في سورية الجنوبية”، وأن جميع مقرّرات المؤتمرات القومية الفلسطينية، منذ المؤتمر الأول في سنة 1919 حتى سنة 1934، كانت تنص على أن هدف الفلسطينيين هو وقف الهجرة اليهودية وإنهاء الانتداب البريطاني والانضمام إلى الوطن الأم سورية، وهذه كلها لا علاقة لها بالفكرة القومية السورية، بل بفكرة الانتماء إلى سورية التاريخية. والمعروف أن مصطلح “بلاد الشام” يتطابق إلى حد كبير مع سورية في العصور الإسلامية الأولى، بحسب كمال الصليبي الذي يقول إن بلاد الشام الشمالية تبدأ من جبل اللكام عند جبال طوروس حتى سهل عكار. وبلاد الشام الوسطى تبتدئ من سهل عكار وسهل حمص حتى غور طبرية ومرج ابن عامر. أما بلاد الشام الجنوبية فهي فلسطين مما يلي طبرية، بما في ذلك وادي عربة والسهل الساحلي وجبل الكرمل وشرق الأردن (راجع: كمال الصليبي، بلاد الشام في العصور الإسلامية الأولى، مؤسسة نوفل، بيروت، 2011، ص 13-19). أما أنطون سعادة فأضاف العراق، بما في ذلك الكويت وقبرص بالطبع، إلى سورية، انطلاقاً من وحدة الحضارة واللغة والامتداد الجغرافي الطبيعي ودورة الحياة الواحدة، ولأن الحضارة الآرامية واحدة، وإن انقسمت إلى الحضارة الآرامية الشرقية (أشوريا) والحضارة الآرامية الغربية (آسوريا السريانية). ومهما يكن الأمر، فإن الهيكل الإداري لبلاد الشام في العهد العثماني قَسّم إيالة سورية إلى ألوية، على رأس كل لواء أمير (ميرالاي). وهذه الرتبة صارت على ألسنة العامة “أمير”، وهي في الأصل رتبةُ عسكريةٌ، لا مرتبة من مراتب النبلاء. وكل لواء قُسّم إلى أقضية، وكل قضاء يقسّم إلى نواحٍ، وعلى رأس كل ناحيةٍ حاكم محلي من العائلات المتنفذة، أمثال آل جرار وطوقان وعبد الهادي .. إلخ. وكان العثمانيون، بدلاً من أن يدفعوا لهؤلاء أموالًا، يمنحونهم التزامًا لجباية الضرائب. وظاهر العمر كان في أدنى المراتب، أي ملتزم جباية الضرائب في منطقة الجليل، وقد طمح إلى أن يصبح حاكمًا من حُكام النواحي، فنجح جزئيًا في البداية، حين وسّع نطاق التزامه ليشمل صفد وعكا، ثم هُزم في النهاية وكانت نهايته، وهذا كل ما في الأمر. ويستطيع إبراهيم نصر الله أن يجعل من ظاهر العمر شخصية روائية درامية، وأن يصنع من أبو جلدة والعرميط أبطالاً في مقاومة الإنكليز والصهيونيين، لكن التاريخ كعلم ينظر إلى تلك الوقائع بنظرةٍ مختلفة عن نظرة صائغ الرواية، حتى لو استندت الرواية في جميع تفصيلاتها إلى التاريخ.

“الهوية الفلسطينية المتطلعة إلى المستقبل لا تُبنى على حكايات الأرياف والمرويات الشعبوية “.

مَن أراد الحقيقة، فليقرأ مقالتي عن ظاهر العمر، ثم ليسأل ويبحث ويفتش؛ فالحقيقة ضالّة المؤمن بها وغايته. ومَن أراد الراحة فليبقَ لابثاً عند الحكايات المكرورة والموروثة والمبثوثة في بطون الكتب. وليس كل مَن تمرّد على دولته الظالمة يصبح شريفًا، وليس كل مَن قال إني عاشق صدق. بشير الجميّل خير مثالٍ لمن خالف قوانين بلاده التي تحظر التعامل مع إسرائيل، فتمرّد وعمل لمصلحة إسرائيل، وانتهى نهاية مروّعة. وإضفاء بطولاتٍ على ملتزم جباية طَمِحَ إلى أن يصبح حاكمًا محليًا، فتواطأ في سبيل غايته مع قوى خارجية معادية للدولة التي ينتمي إليها ليس أمرًا لائقًا في كتابة التاريخ. وما أعرفه أن ظاهر العمر لم يدّعِ مرة أنه سعى إلى تأسيس دولةٍ عربيةٍ مستقلةٍ عن الدولة العثمانية التي كان يخفّض لها جناح الخوف أحيانًا، ويتمرّد على وُلاتها في أحيان أخرى. ولمزيد من الشطط، يقارن أخونا إبراهيم تجربة ظاهر العمر في فلسطين بتجربة محمد علي باشا في مصر، ثم يقرنه، من باب التمرّد، بجمال عبد الناصر وجورج حبش وجيفارا ولولا دي سيلفا وياسر عرفات، فضلاً عن غسان كنفاني ومحمود درويش وسميح القاسم وعبد الرحيم محمود وعبد الرحيم الحاج محمد وفرحان السعدي. إنها مقارنة لا تليق ألبتة. والفروق بين تجارب هؤلاء وتجربة ظاهر العمر قبل 250 سنة (لا مئة سنة كما جاء في رد إبراهيم عليّ) غير جائزة، حتى من ناحية مبدأ التمرد، فالمكاري لا يُعدّ من الفرسان، وإلا يمكن اعتبار تمرّد عائلة أبو غوش وتمرّد مدينة القدس على إبراهيم باشا، وهما أحدث عهدًا من ظاهر العمر، محاولة للاستقلال وسعيًا إلى تأسيس دولة فلسطينية. وهذا افتئاتٌ على التاريخ كوقائع وكعلم أيضًا، لأن فكرة الوطن والتحرّر الوطني والاستقلال حديثة جدًا كما ورد في مقالتي، والتي زاغ عنها إبراهيم نصرالله. كذلك لا يمكن عطف تجربة ظاهر العمر على مؤسّسي الإمبراطوريات أبداً؛ فهذا كلامٌ مسلوق وبيض مخفوق. هل هو من عيار فريدريك الثاني أو بطرس الأكبر أو كاترين أو شارلمان؟ هذه التشبيهات، في ميدان التاريخ، لا تجوز مثل حرّ تموز. ومكانة ظاهر العمر لا تستوي بين هؤلاء العظام، بل بين ملتزمي جباية الضرائب في عصره ومن وزنه، أمثال ناصيف النصار ويوسف سيفا وعلي باشا جانبولاد (جنبلاط) وعلي بك أبو الذهب. ومن غير الممكن عقد المقارنة بين شخصياتٍ مرموقةٍ في القرن العشرين مع شخصيةٍ من القرن السابع عشر تواطأت مع الروس ضد الدولة العثمانية التي كانت في حالة حربٍ مع روسيا. وبهذه الخلاصة، فإن جميع إنجازات ظاهر العمر التي أفاض الأخ إبراهيم في عَرْضِها، وهي إنجازاتٌ شخصيةٌ وعائلية، هي، بحسب رأيي، لم تكن تساوي، إذا أخذنا الفلسطينيين آنذاك في الحسبان، قرشًا مفخوتًا في مقابل تآمره مع أعداء الدولة التي كان ينتمي إليها.

*كاتب عربي مقيم في بيروت .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى