ترجمات عبرية

شلومو زند / اسرائيلية وديمقراطية؟

هآرتس – بقلم  شلومو زند  – 14/8/2018

مع التاريخ يمكن تقريبا أن نفعل كل شيء. فهو يشبه الضفدع الذي مات على طاولة التشريح، ولا يوجد أي خطر من أن يقفز علينا لأننا لم نعامله بما يكفي من اللطف. في مقال حول الصهيونية والمواطنة المتساوية (20/8) استعرض البروفيسور شلومو افينري معرفته التاريخية الغنية، بدون خوف من أن يقوم الماضي الوهمي بالانتفاض فجأة.

في نهاية كانون الاول 1789 وخلال الزخم الكبير في الحوار حول تبلور الأمة الفرنسية، اعلن كليرمون تونر بالنسبة لليهود بأنه “لا شك أن غرابتهم الدينية ستختفي من الوعي بالفلسفة الجديدة، أو الشعور بالحرية والتحرر. واذا لم يحدث ذلك فهذه ليست مخالفات يجب على القانون التعامل معها. ولكنهم يقولون لي إنه توجد لليهود قوانين وقضاة خاصين بهم. وعلى هذا أجيب بأن هذا ذنبكم، ويجب عدم السماح بذلك. علينا أن نسلب كل شيء من اليهود كأمة وأن نعطيهم كل شيء كأفراد”. من الواضح أن كليرمون تونر لم يعتبر اليهود أمة بالمعنى الحديث للمفهوم، بل اعتبرهم مثلما كانوا حقا: طوائف دينية ذات مدونات قانون ديني وقضاة – حاخامات خاصين بهم، عملوا خلافا لقوانين الدولة العلمانية الحديثة.

هذا كان اسهام بارز وهام للتحرر الذاتي لليهود في فرنسا، الذي انعكس على كل غرب اوروبا. يجب منح اليهود مواطنة كاملة ومتساوية، وفي المقابل يجب أن تسحب منهم الصلاحيات الحصرية للمحاكم الدينية (التزويج داخل الطائفة) وفرض عقوبات ومقاطعة (تذكروا ماذا حدث لسبينوزا). كليرمون تونر لم يكن ثوري ديمقراطي، بل كان ملكي ليبرالي. ولكن موقفه ساهم في بلورة القومية الفرنسية بمزاياها الخاصة.

بالطبع، ليس كل اليهود المتدينين كانوا راضين عن هذا الموقف، وعن طرق تطبيقه الاخيرة. ولكن رغم الخوف الشديد من اليهود الذي ميز التراث الثقافي في فرنسا، فقد شارك اليهود في بلورة الأمة الفرنسية واعتبروا انفسهم جزء لا يتجزأ منها. ليس فقط بونابورت الكورسيكي الذي لم يعرف الفرنسية حتى جيل العاشرة، اصبح فرنسيا، بل حتى ادولف كرميا وليون بلوم وبيير منديسفرانس لم يعرفوا الفرنسية. افينري يشير الى أن الموقف المدني غير الهام الذي طرحه كليرمون تونر “أدى في نهاية المطاف الى تطور الوعي القومي اليهودي ونمو الصهيونية”. هل هذا صحيح؟.

الصهيونية لم تنمو في الدول الديمقراطية الليبرالية مثل بريطانيا وفرنسا وبولندا أو الولايات المتحدة، ولا حتى في ايطاليا والمانيا. الجاليات اليهودية في هذه الدول لم تنظر بعين الرضى الى انعقاد المؤتمر الصهيوني الاول. فقط من فيينا وشرقها، حيث الرؤية المدنية – القومية لم يتم قبولها، وبدلا منها صعدت القومية الاثنية، يرافقها خوف شديد من اليهود، نجحت الصهيونية في مد جذورها وهذا لم يكن صدفة.

كليرمون تونر ومن سار على نهجه في العالم الديمقراطي الليبرالي عرضوا على اليهود ليس فقط المواطنة. هم لم يعتبروا فرنسا الدولة القومية الكاثوليكية التي يوجد لليهود فيها مساواة رسمية في الحقوق – هم اعتبروا اليهود جزء لا يتجزأ من الأمة الفرنسية. المملكة المتحدة لم تعتبر نفسها دولة قومية للشعب الانجليزي، ومنحت الاسكتلنديين مساواة مدنية في الحقوق. الولايات المتحدة اعتبرت نفسها في نهاية عملية تشكل، أمة كل الامريكيين وليس دولة البوريتانيين البيض.

كل يهودي اصبح مواطن تحول تلقائيا الى فرنسي، بريطاني وأمريكي، وكان يجب أن يتماهى مع وطنه القومي. بالضبط مثل الكاثوليكي والانجليزي أو البوريتاني. حتى لو كانت في بعض هذه الدول اقليات ثقافية، دينية أو لغوية، فان الدولة لا تعرض عليهم فقط مواطنة متساوية، بل رغم التوترات، فانها تفعل كل ما في استطاعتها لتطوير علاقات شمولية موحدة.

اذا اعلنت بريطانيا غدا أنها دولة قومية للانجليز وأنها تمنح مساواة في الحقوق المدنية للاسكتلنديين، فان الاخيرين سيعلنون عن استقلالهم خلال اقل من اسبوع. واذا اعلنت كندا أنها دولة القومية لمن يتحدثون الانجليزية فان مقاطعة كويبك ستنفصل بسرعة اكبر. واذا اعتبرت اسبانيا نفسها ليست دولة القومية لكل الاسبان بل فقط الكستليانيين، فليس فقط المواطنين الكتلانيين سينفصلون عنها فورا بل ايضا الباسك والاندلسيين.

الدول ليست فقط اجهزة لتنظيم العلاقات الاجتماعية. منذ تبلورها في العصر الحديث فقد لعبت دورا هاما في تشكيل الثقافات والهويات القومية. منذ كليرمون تونر وحتى اليوم فقد طورت الديمقراطية الليبرالية دائما انظمة تماهي مركبة لكل المواطنين حتى الذين هم من اصول مختلفة وحتى اصحاب ثقافات خاصة.

فقط في بلاد القومية الاثنوقراطية، من بولندا وحتى هنغاريا وكرواتيا وبعد ذلك المانيا، تم تطوير هويات فوقية اخرجت اقليات من المبدأ الديمقراطي الساعي الى ايجاد عامل مشترك للهوية. الصهيونية التي ولدت في هذا الفضاء الثقافي، حافظت على لطخات الولادة الخاصة بها، ومؤخرا حتى تجد أن عليها ابرازها.

عندما اعلنت الامم المتحدة في 1947 عن دولتين في فلسطين – ارض اسرائيل سمتهما يهودية وعربية. لأنه حتى ذلك الحين لم يكن قد وجد شعب اسرائيلي وشعب فلسطيني. على خلفية هذا السياق صيغت وثيقة الاستقلال (التي تطرق جزء منها للمساواة، نسخ تقريبا حرفيا عن اعلان الامم المتحدة). الكثير من الموقعين عليها لم يكونوا بعد يدركون التناقض بين مفاهيم اليهودية والديمقراطية. ولكن لم يكن بالامكان الجسر بين اليهودية والمواطنة المتساوية. أي بينها وبين ديمقراطية ثابتة، كما لم يكن بالامكان تعريف دولة كدولة بيضاء وديمقراطية أو كدولة اشكنازية وديمقراطية. كلنا نعرف أن تعريف اليهودية ليس مفتوحا وشاملا (الصهيونية ورثت من اليهودية الخوف من الانصهار). الاخطر من ذلك – تستند على خطوط تحديد بيولوجية أو دينية التي تقريبا لا يمكن اجتيازها.

لو أن الدولة عرفت نفسها عند بلوغها كاسرائيلية وديمقراطية لكانت حافظت بذلك على جزء من الثقافات المختلفة التي نبتت منها، وكانت مفتوحة لكل مواطنيها. اقلياتها اللغوية والدينية والثقافية كانت ستستطيع الحفاظ على خصوصيتها، وفي نفس الوقت المشاركة بصورة فعالة في خلق الثقافة الفوقية المشتركة.

ولكن حينها كانت ستتحول الى دولة من هم على شاكلة ايمن عودة وامل اسعد، اكثر من كونها دولة من هم على شاكلة شلدون ادلسون. حينها ستكون دولة الاطباء والصيادلة العرب الذين يملأون بجموعهم الخدمات الطبية اكثر من مدعوي “تغليت” الذين يأتون للزيارة ولا يعودون. هل هذا كان يدل على بداية نهاية الصهيونية؟ باختصار، كم من الضفادع نكلت بها حتى الآن؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى