الصراع الفلسطيني الاسرائيلي

سليم سلامة يكتب – “مُقترَح جديد لحزمة محفزات دولية للسلام الإسرائيلي ـ الفلسطيني” ـ قراءة نقدية

سليم سلامة *- 1/3/2021

أصدر معهد “ميتفيم (مسارات) ـ المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية”، قبل أيام، “ورقة سياساتية” عنوانها “مُقترَح لحزمة محفزات دولية للسلام الإسرائيلي ـ الفلسطيني”، أوضح أنها نتاج أبحاث ومداولات أجراها طاقم من الخبراء الباحثين الإسرائيليين والفلسطينيين وأشرف على تحريرها طاقم ضمّ كلاً من: د. ليئور لهرس، مدير مشروع دفع السلام الإسرائيلي- الفلسطيني في معهد “ميتفيم”؛ معين عودة، المحامي المختص في مجال القانون الدولي وحقوق الإنسان؛ د. نمرود غورن، رئيس معهد “ميتفيم”؛ وهدى أبو عرقوب، المديرة الإقليمية لمنظمة “التحالف من أجل السلام في الشرق الأوسط” (ALLMEP- Alliance for Middle East Peace ) الذي يضم أكثر من 125 منظمة إسرائيلية وفلسطينية.

تشمل هذه الورقة السياساتية ستة أبواب موزعة على العناوين التالية: أ ـ المقدمة: محفزات للسلام؛ ب ـ الاحتياجات الأساسية للإسرائيليين والفلسطينيين: 1. الأمن، 2. الاعتراف والشرعية، 3. الحقوق الدينية، الرخاء الاقتصادي، الاحتياجات الداخلية؛ ت ـ الجهات الدولية التي بإمكانها تلبية هذه الاحتياجات: 1. الولايات المتحدة، 2. الاتحاد الأوروبي، 3. الدول العربية والإسلامية، 4. جهات دولية إضافية أخرى؛ ث ـ التوقيت المناسب لعرض حزمة المحفزات؛ ج ـ الطريقة المناسبة لعرض هذه المحفزات؛ ح ـ تلخيص.

في قراءتنا النقدية لهذه الورقة، هنا، نقدم عرضاً توثيقياً لأبرز وأهمّ ما تضمنته، كما ورد في أبوابها المختلفة، ونناقش طروحات هذه الورقة من خلال ما يمكن اعتباره “العصب المركزي” في منطلقاتها، مفاهيمها ومرجعياتها، وهو الذي يتركز بشكل خاص في باب “الاحتياجات”، تحديدها وتفصيلها، من حيث أن هذه “الاحتياجات” هي التي تقرر ماهية المحفزات، أشكالها ومصادرها، ناهيك عن السؤال المركزي المركّب التالي: هل هي “الاحتياجات” الحقيقية حقاً؟ هل هذه هي كل “الاحتياجات”؟

شروط أولية ضرورية

يستهل طاقم التحرير هذه “الورقة” بالإشارة إلى أن المحفزات تمثّل أداة على درجة عالية من الأهمية في سيرورات السلام وأنها قد تشكل مساهمة كبيرة في الجهود الرامية إلى تسوية النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، ثم يوضح أن هذا المقترح يحدد الاحتياجات المركزية لكلا الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني (كما وردت في العناوين أعلاه). وإلى جانب ذلك، تقصى طاقم الباحثين الجهات الدولية التي يمكنها تقديم المساعدة في تلبية هذه الاحتياجات فتوصل إلى الدور المفترض الذي يمكن أن تؤديه، في هذا المجال، كل من الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي ودول العالمين العربي والإسلامي؛ ثم تتطرق الورقة إلى المسائل المتعلقة بكيفية وتوقيت تخطيط وعرض حزمة المحفزات هذه، ثم بالآليات الدولية اللازمة لضمانها وتقديمها.

ينطلق مقترح المحفزات في هذه “الورقة السياساتية” من قاعدة “قدرة منظمات المجتمع المدني، في واقع الجمود في عملية السلام الإسرائيلية ـ الفلسطينية، على دراسة قضايا بنيوية طويلة الأمد وبلورة توصيات لدفع هذه العملية وإخراجها من جمودها، سواء قبل استئناف المفاوضات الرسمية أو بعده”، كما توضح مقدمة هذه الورقة. واستناداً إلى ذلك، شكل معهد “ميتفيم”، بالتعاون مع صندوق فريدريش إيبرت، طاقماً من الخبراء الإسرائيليين والفلسطينيين عكف، خلال العامين 2019- 2020 على إعداد مقترح لحزمة محفزات دولية من أجل دفع عملية السلام في الشرق الأوسط؛ مع الأخذ في الاعتبار أن هذه المحفزات الدولية يمكن أن تشكل أداة هامة وذات وزن وتأثير كبيرين في الحراك الدبلوماسي، وخصوصاً في مجال تسوية النزاعات، وأن تساهم بالتالي في دفع عملية السلام الإسرائيلي ـ الفلسطيني. ذلك أن الجهات الدولية المعنية قد تقدم هذه المحفزات بمثابة خطوة استراتيجية لدفع عملية السلام ووسيلة لإقناع القادة السياسيين بتغيير مواقفهم وسياساتهم إزاء عملية السلام. كما يمكن استخدام هذه المحفزات في مراحل مختلفة من العملية السلمية، بدءاً بتشجيع الأطراف على الشروع في إجراء المفاوضات المباشرة وانتهاءً بالدفع نحو التوقيع على اتفاقية سلام نهائية.

ينبغي للمحفزات الدولية أن تلبي الاحتياجات الجماعية لجميع أطراف النزاع وكذلك الاحتياجات الخاصة بكل واحد من هذه الأطراف، بينما يستلزماستخدام هذه المحفزات بطريقة فعالة وناجعة توفر أربعة شروط: 1. المعرفة ـ ينبغي لأطراف النزاع أن يكونوا على علم بالمحفزات المُقترَحة، سواء على مستوى القيادة أو المستوى الجماهيري العام؛ 2. الجاذبية ـ يجب أن تكون المحفزات مرغوبة ومطلوبة في نظر كل واحد من الأطراف؛ 3. القابلية ـ يجب أن تكون المحفزات فعلية وذات قابلية للتنفيذ؛ 4. العلاقة بتسوية النزاع ـ يجب أن تكون المحفزات ذات علاقة مباشرة بالعملية الرامية إلى تسوية النزاع.

المحفزات كرشاوى لـ”شراء” تأييد المتشككين

من المعروف أن جهات إقليمية ودولية مختلفة قد قدمت في الماضي عروضاً عديدة لمحفزات مختلفة من أجل دفع عملية السلام بين إسرائيل والشعب الفلسطيني، تعرض الورقة توثيقاً تفصيلياً لها، لكنها تشير إلى أن أبرز تلك العروض هو ما تضمنته ثلاثة مشاريع أساسية هي: “مبادرة السلام العربية” (في العام 2002)، اقتراح الاتحاد الأوروبي لإنشاء شراكة مميزة وخاصة مع إسرائيل والدولة الفلسطينية العتيدة (في العام 2013) وخطة الأمن الأميركية لحل الدولتين (في العام 2014). وقد عُرضت تلك المحفزات في مراحل مختلفة من العملية السياسية من غير تنسيق بين الأطراف المختلفة وربما كان هذا أحد الأسباب المركزية لحقيقة أن تأثير تلك العروض كان أقل بكثير مما كانت تتوقعه الأطراف التي عرضتها.

لكن، رغم كل المساعي والمحاولات، لم يحصل حتى الآن ـ كما تؤكد الورقة ـ أي تقدم يُذكر في بلورة وإعداد حزمة محفزات دولية تعود بالمردود السياسي المرغوب وتُحدث التغيير المطلوب. وتعزو الورقة هذه الحقيقة إلى عدد من الأسباب، في مقدمتها من حيث الأهمية ـ كما تدعي ـ غياب آليات دولية مناسبة تقود مثل هذا المسعى؛ انعدام الرغبة لدى المجتمع الدولي في وضع وتخطيط إجراءات وتدابير تهيئ لاتفاقية سلام نهائي ودائم بين الطرفين، طالما ظل الجمود سيد الموقف بينهما مسيطراً على العملية التفاوضية؛ خلافات في الرأي شاعت بين أطراف في المجتمع الدولي بشأن النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني وسبل حله، إضافة إلى أسباب أخرى.

تنوه الورقة إلى “الجديد” الذي تمثله وتطرحه باعتبارها “مبادرة إسرائيلية ـ فلسطينية” على الرغم من أنها “لا تعكس، بالضرورة، اتفاق جميع المشاركين فيها على كل ما ورد فيها”، كما تؤكد. أما هذا “الجديد”، فهو أن هذه الورقة، وخلافاً لكل المداولات السابقة التي جرت في الماضي بشأن المحفزات الدولية لدفع عملية السلام الإسرائيلي ـ الفلسطيني وكانت بمشاركة وبقيادة عناصر دولية فقط، أو بصورة أساسية، ودون مساهمة جوهرية وجدية من جانب إسرائيليين وفلسطينيين، تأتي (الورقة) “لعرض وجهتيّ نظر طرفيّ الصراع”، إلى جانب “الدعوة إلى الأخذ في الاعتبار احتياجات كلا الطرفين واقتراح محفزات محتملة يمكن أن تلبي هذه الاحتياجات”، وذلك خلافاً لما كان في الماضي من حيث “اقتصار المحفزات على الجانب الإسرائيلي بصورة حصرية تماماً وعدم تخصيص انتباه كافٍ للجانب الفلسطيني”! ولهذا، فمن شأن حزمة المحفزات الدولية كما تقترحها هذه الورقة “أن تساعد في التغلب على المبنى غير المتوازن للصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني”، كما يؤكد أصحابها ويضيفون أن حزمة المحفزات هذه “تشمل، أيضاً، محفزات مخصصة لقطاعات مجتمعية مختلفة في الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، وهو ما يمكن أن يساعد على تعزيز وتوسيع التأييد والدعم للسلام بين هذه القطاعات التي تبدي بشكل عام شكوكاً عميقة حيال عملية السلام”!! وكأن أصحاب هذه الورقة يقولون، بصريح العبارة ودونما مداورة، إنهم يسعون إلى تقديم “رشاوى” لتلك القطاعات المجتمعية المقصودة من أجل تغيير مواقفها و”شراء” تأييدها لعملية السلام!

الاحتياجات ـ سلم أولويات

يقوم باب “الاحتياجات الأساسية للإسرائيليين والفلسطينيين”، التي يتعين على حزمة المحفزات الدولية تلبيتها، على فرضية أساس مفادها أن المحفزات الدولية ينبغي أن تعالج “مباعث القلق، التخوفات، التطلعات والآمال” لدى كلا الطرفين. ويتمحور الحديث في هذا الباب حول خمسة احتياجات “ذات أهمية لكلا الطرفين”، كما تصفها الورقة، لأنها احتياجات مشتركة للإسرائيليين والفلسطينيين “لكنها تشمل مركّبات مختلفة خاصة بكل واحد من الطرفين”، بالنظر إلى حالة عدم التوازن بين طرفي الصراع.

يشكل الهاجس الأمني ـ في منظور هذه الورقة ـ “عنصراً أساسياً وسائداً لدى الشعوب الغارقة في صراعات مستمرة؛ وهو يطال الأمن القومي، الأمن الشخصي، الضمانات الأمنية المستقبلية، الوسائل الكفيلة بإحباط التهديدات المستقبلية وتقليص إسقاطات الأعمال العدائية إلى الحد الأدنى”! وتضيف الورقة في هذا السياق: “في الجانب الإسرائيلي، التخوفات الأمنية هي عنصر أساس في السياسة، في الخطاب العام وفي النفسية العامة، كما يعتبر الموضوع الأمني مركّباً مركزياً في أية اتفاقية مستقبلية، إذ تطالب إسرائيل بضمانات لأن تؤدي اتفاقية السلام المنوطة بتنازلات عن أراضٍ إلى تحسين وضعها الأمني، إلى ضمان وحفظ تفوقها العسكري في الشرق الأوسط وأن تمكّنها من مواجهة الأخطار الأمنية بنجاعة قصوى”! وتزيد: “تريد إسرائيل ضمانات بأن لا تشكل الدولة الفلسطينية خطراً على أمنها وبأن يطبق الفلسطينيون تعهداتهم الأمنية وبأن يحارب الطرفان، معاً، أية تهديدات ومخاطر أمنية ومخربة للسلام”! كما أن إسرائيل “معنية بوسائل أمنية ناجعة يتم وضعها على امتداد حدودها يكون في مقدورها كشف ومنع تهديدات محتملة وعمليات لتهريب الأسلحة”!

أما بالنسبة للفلسطينيين، فالأمن ـ وفق هذه الورقة ـ هو “حاجة هامة وأساسية تتعلق، أساساً، بالأمن الوطني، سيادة القانون والأمن الشخصي”. وعليه، فالفلسطينيون “معنيون بمحفزات تضمن أمن المواطنين في الدولة الفلسطينية العتيدة وسلامتهم”!

تقول الورقة إن “للاعتراف والشرعية أهميّة حاسمة بالنسبة للجانب الإسرائيلي”! وتوضح إنه “رغم كونها (إسرائيل) دولة عظمى إقليمية في الشرق الأوسط، إلا أنها لا تزال تفتقر إلى الاعتراف الكافي من الدول العربية ولا تزال تصارع من أجل اكتساب شرعية دولية”! ولهذا، تطالب إسرائيل بـ “الاعتراف بحقها في الوجود والعيش بأمن وسلام، في ظل كونها الدولة القومية للشعب اليهودي”! ثم تسترسل الورقة هنا في شرح “حقيقة” أن دولة إسرائيل “عانت، منذ قيامها، من مقاطعة وعدم اعتراف دول المنطقة” إلى أن “بدأ جدار المقاطعة بالتصدع، مع عقد اتفاقيات سلام رسمية مع مصر (1979) ثم مع الأردن (1994)، ثم إقامة العلاقات، غير الرسمية وغير العلنية، مع العديد من الدول العربية وصولاً إلى “اتفاقيات السلام” وإقامة علاقات دبلوماسية رسمية مع كل من الإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان في العام الماضي. لكن الورقة تشير بأسف واضح إلى “حقيقة” أخرى في هذا السياق: “غير أن إسرائيل لا تزال بدون علاقات دبلوماسية، اقتصادية وثقافية مع غالبية الدول العربية والإسلامية”!

لكنّ “حاجة إسرائيل إلى الاعتراف والشرعية الإقليمية والدولية” لا تنتهي بهذا، بل هي “تشمل، أيضاً، الرغبة في الاعتراف بوجودها، إبداء التفهم لتخوفاتها الأمنية والديمغرافية، إلى جانب الاعتراف بالتاريخ اليهودي وتقبل الشعب اليهودي كجزء من الشرق الأوسط”!

أما “الفلسطينيون”، كما تقول الورقة وليس “الشعب الفلسطيني”، فهم “بحاجة إلى الاعتراف الدولي بدولة مستقلة وحرة وذات حقوق كاملة في السيادة التامة دون أي تدخل خارجي”. وتضيف: “إنهم يطالبون بالاعتراف الكامل بدولة فلسطين من جانب المجتمع الدولي، بما في ذلك الاعتراف باستقلالها السياسي والاقتصادي، بالمواطنة، بالهوية وبالتراث الفلسطيني، كما بحرية التنقل والسيطرة على الموارد الطبيعية… وهم يرون بذلك تطبيقاً أساسياً لحقهم في تقرير المصير وتطبيق القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة”. وتذكّر الورقة بأن المجلس الوطني الفلسطيني أقر في العام 1988 وثيقة إعلان الاستقلال وتعترف اليوم 139 دولة بدولة فلسطين. وفي أيلول 2012، اعترفت الهيئة العمومية للأمم المتحدة بدولة فلسطين كمراقب ليس عضواً في المنظمة. وتنهي الورقة بالقول: “الإجراءات الدولية في مجال توسيع الاعتراف والشرعية الدولية ستكون بمثابة محفزات ذات أهمية بالغة للجانب الفلسطيني”.

في مجال الحقوق الدينية، تؤكد الورقة على أن “القضية الدينية هي مركّب هام في عملية السلام، خاصة وأن مسألة الأماكن المقدسة قد شكلت عائقاً مركزياً في محادثات السلام التي جرت بين الطرفين في الماضي”. تشرح الورقة عمق “الرابطة الدينية” التي تربط كلا الطرفين، الفلسطينيين واليهود، بالأماكن الدينية الأبرز والأهمّ ـ “جبل الهيكل”/ الحرم القدسي الشريف في القدس و”الحرم الإبراهيمي الشريف” في الخليل، وتذكّر بأن إسرائيل طالبت الدول العربية في السابق بالاعتراف “بالأهمية الدينية لجبل الهيكل بالنسبة للشعب اليهودي” وبالتنديد الإسرائيلي بقرارات صدرت عن منظمة “يونسكو” بشأن القدس و”عدم تأكيد هذه القرارات على الرابطة بين اليهودية وبين جبل الهيكل”، بينما “اعترض الفلسطينيون على عدم اعتراف بعض خطط السلام بحقوقهم في الأماكن المقدسة وأبدوا تخوفات من حصول تغييرات مستقبلية في تسويات الوضع القائم (ستاتوس كوو) الحالية”.

في هذا المجال، تقول الورقة إن “أية اتفاقية مستقبلية بشأن الأماكن المقدسة تتوقف على الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني وقدرتهما على إيجاد حل متفق عليه. لكن الجهات الدولية تستطيع تقديم محفزات تساعد كلا الطرفين على التوصل إلى اتفاق بهذا الصدد”.

خلاصة

توقفنا، بصورة تفصيلية، عند الاحتياجات الثلاثة الأولى فقط من بين الاحتياجات الخمسة التي حددتها الورقة (كما ذكرناها أعلاه: الأمن، الاعتراف والشرعية، الحقوق الدينية، الرخاء الاقتصادي واحتياجات داخلية) وأوضحت ضرورة تقديم محفزات دولية بشأنها. وقد اخترنا التركيز على هذه الاحتياجات الثلاثة، بشكل خاص، لكونها تحتل مكانة مركزية في موضوع الصراع إجمالاً، كما في المقترحات والمساعي السياسية لإنهائه وحله ـ الأمن، الاعتراف والشرعية والحقوق الدينية ـ ولكي نحاول توضيح عمق الفجوة التي تفصل بين ما تورده هذه الورقة بشأن هذه الاحتياجات وطريقة عرضها، من جهة، وبين ما يفرضه الواقع الحقيقي وما ينبغي أن يشتق منه، من جهة أخرى.

تبين قراءة هذه الورقة، على نحو جليّ، مدى “عدم التوازن” في طروحاتها، تأثراً بـ”عدم التوازن” بين طرفي الصراع، كما تصفه، وهو ما يبدو واضحاً تماماً في الحديث عن مجالين من الاحتياجات، الأمن والاعتراف والشرعية، على وجه التحديد.

ففي مجال الأمن تؤكد الورقة الرواية الإسرائيلية في كل ما يتعلق بـ”هواجسها واحتياجاتها” الأمنية المُدّعاة، حد تبينها بالكامل، إذ تتحدث عن “احتياجات إسرائيل الأمنية” كما تتجسد في المطالب التي تطرحها إسرائيل في سياق أية محادثات سلام، بل قبلها وتمهيداً لها، ليس للحصول على “ضمانات” ما بعد تحقيق السلام وإنما قبله بكثير أيضاً، لتحوّل هذا “الهاجس الأمني” إلى مشروع اشتراطات وعوامل إجهاض ليس لأية اتفاقيات سلام محتملة فقط، وإنما لأية مساعٍ للتقدم نحو السلام أيضاً. وبهذا، تتصرف إسرائيل وكأنها هي الطرف الذي يفتقر إلى الأمن ويحتاج إلى الحماية أمام ما تتعرض له من اعتداءات وأخطار وتهديدات أمنية، وليس على أساس الواقع الذي تشكل فيه دولة احتلال على شعب آخر تمارس الاحتلال العسكري بكل جرائمه وموبقاته، بما فيه المشروع الاستيطاني.

أما حاجة الشعب الفلسطيني إلى الأمن فتختزلها هذه الورقة بكلام عموميّ توجزه في جملة تتحدث عن “الأمن الوطني، سيادة القانون والأمن الشخصي”. لكنّ الورقة لا تشرح في هذا السياق كيف يمكن ضمان “الأمن الوطني وسيادة القانون والأمن الشخصي” في ظل الاحتلال العسكري وفلتان سوائب المستوطنين التي يحميها ويرعاها، بل تعمد إلى إغفال “الحاجة الأساسية” الأولى، بل الأولية والسابقة لكل الاحتياجات الأخرى، الواردة هنا وغيرها، وتشكل شرطاً أولياً وضرورياً للحديث عن الاحتياجات الأخرى، اللاحقة. ونقصد: حاجة الشعب الفلسطيني إلى إنهاء الاحتلال والتحرر الوطني وممارسة حقه الأساس في تقرير مصيره وبناء دولته المستقلة على جزء من أرض وطنه. ذلك أن لا معنى للحديث عن أمن واعتراف وشرعية وحقوق دينية، أو كل ما سواها من حقوق واحتياجات، قبل الحديث عن التحرر من الاحتلال وتقرير المصير والاستقلال وبدونه.

هذه ـ “مطالبة الفلسطينيين بالاعتراف بدولة مستقلة حرة وذات حقوق كاملة في السيادة” ـ تضعها الورقة تحت باب “الحاجة إلى الاعتراف والشرعية”. وكأنها تربط العربة خلف الحصان، إذ كيف هناك يكون اعتراف وتكون شرعية بدون إنهاء الاحتلال وإخلاء المستوطنات، أولاً، وما معنى الحديث عن أمن فلسطيني (شخصي ووطني) تحت نير الاحتلال وسوائب مستوطنيه؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى