ترجمات أجنبية

ريتشارد هاس: الفرصة السانحة للتعامل مع إيران

من الصعب التفكير في دولة فقدت نفوذها بالسرعة التي فقدتها إيران، إذ كانت حتى وقت قريب تعتبر ربما أهم لاعب إقليمي في الشرق الأوسط، أكثر تأثيراً من مصر أو إسرائيل أو السعودية أو تركيا. لكن خلال بضعة أشهر فقط، انهار بنيان النفوذ الإيراني. وأصبحت إيران اليوم أوهن مما كانت عليه منذ عشرات السنين، وربما منذ حربها ضد العراق التي امتدت عقداً من الزمن أو حتى منذ الثورة في عام 1979.

أعاد هذ الضعف فتح الجدال حول المقاربة المثلى التي ينبغي على الولايات المتحدة وشركاؤها تبنيها إزاء التحديات التي تمثلها إيران، فبعض منهم يجد في هذه اللحظة فرصة سانحة من أجل حل جوانب هذا التهديد كافة – سواء قدرات طهران النووية أو نشاطاتها الإقليمية الخبيثة – بضربة واحدة. فيما يضيف آخرون إلى ما سبق تسريع إنهاء الجمهورية الإسلامية تماماً، لكن المستشارين المخضرمين يحذرون من مغبة استخدام القوة العسكرية أو العقوبات الاقتصادية، وكذلك من المحاولات الرامية إلى القضاء على النظام السياسي القائم واستبداله بشيء أفضل.

النقاش لا يقتصر على تحديد الأهداف فحسب، بل يشمل ترتيب الأولويات، إذ إن المفاضلات لا مفر منها: ما الذي يجب أن يأتي أولاً؟ أما في ما يتعلق بوسائل العمل، فالمطروح ليس الاختيار بين الدبلوماسية أو القوة، بقدر ما هو طريقة جمع وترتيب استخدام هاتين المقاربتين معاً. فأفضل المقاربات هي تلك التي تميل نحو تحقيق الهدف الطموح المتمثل بإعادة تشكيل سياسة الأمن القومي الإيراني عن طريق الدبلوماسية، إنما دبلوماسية تسير على خلفية القدرة والاستعداد لاستخدام القوة العسكرية في حال رفضت طهران معالجة هواجس الولايات المتحدة والغرب بصورة كافية.

الأخطار كبيرة، فالقرارات المتخذة سيكون لها تداعيات كبيرة ليس فقط على الشرق الأوسط، بل أيضاً على العالم بأسره، بما في ذلك أسواق الطاقة. أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فستحدد هذه القرارات مدى قدرتها على تحقيق التحول الذي كثيراً ما نوقش، والمتمثل في إعادة تخصيص الموارد العسكرية بعيداً من الشرق الأوسط نحو أولويات أخرى، وعلى رأسها ردع العدوان الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

صعود وسقوط

استمدت طهران نفوذها في المنطقة بصورة عامة من تمويل وتسليح الجماعات الإرهابية والميليشيات في غزة والعراق ولبنان وسوريا واليمن، وغيرها. وقف هؤلاء الوكلاء ضد إسرائيل (وضد أية تسوية بين إسرائيل والفلسطينيين)، وهددوا المصالح الأميركية والغربية. وكانوا إجمالاً الوسيلة التي حاولت إيران من خلالها إعادة تشكيل الشرق الأوسط وفقاً لتصورها. وضاعفت هذه الاستراتيجية غير المباشرة النفوذ والتأثير الإيراني عبر المنطقة، فيما أتاحت لطهران أن تتجنب الانتقام المباشر أو تخفيفه في أقل تقدير.    

كانت إيران من أكبر المستفيدين من حرب الولايات المتحدة على العراق في عام 2003، إذ أطاحت الحرب بصدام حسين، فمحت في الوقت نفسه حكماً سنياً في بغداد كان مستعداً وقادراً على موازنة طهران الشيعية. وتمكنت إيران من استخدام فوضى الاجتياح وتقاربها من الغالبية الشيعية في العراق كي تحل مكان الولايات المتحدة باعتبارها القوة الخارجية صاحبة النفوذ الأكبر داخل البلاد.    

وكثيراً ما كان لإيران مركز قوي في لبنان، إذ يشكل الشيعة نسبة كبيرة من السكان، إن لم نقل غالبيتهم (جرى آخر تعداد للسكان منذ عقود). فقد تلقى “حزب الله”، وكيل طهران في البلاد، دعماً أساساً من إيران على الصعد كافة مكنه من التمتع بجهوزية أعلى من خصومه المحليين، وتحرك باستقلالية شبه تامة في لبنان، فكان الدولة داخل الدولة بامتياز. وبفضل موارده العسكرية، وأهمها عشرات آلاف الصواريخ، وقربه من حدود لبنان الجنوبية مع إسرائيل، تمكن “حزب الله” من ردع التحرك الإسرائيلي ضد إيران، إذ اضطرت إسرائيل إلى احتساب قدرة الجماعة الإرهابية على الانتقام من مواطنيها وأراضيها. 

ثم هناك “حماس” على مدار عقود عدة، قدمت إيران الدعم المادي والتدريب والسلاح للجماعة، على رغم كونها سنية، بهدف تعزيز النهج الرافض للتسوية مع إسرائيل. وفي عام 2006 فازت “حماس” بالانتخابات في غزة، متغلبة على السلطة الفلسطينية، فأصبح لديها ولطهران قاعدة لشن عمليات عسكرية ضد إسرائيل ومواجهة السلطة الفلسطينية.

أما في سوريا، فبذلت إيران، ومعها روسيا، أقصى الجهود لإسناد نظام بشار الأسد عندما شارف على الانهيار عقب اندلاع “الربيع العربي”. وبقي النظام في الحكم بعد ذلك لأكثر من عقد، مما حافظ على الطريق البري الرئيس لإرسال الأسلحة إلى “حزب الله”، وظلت إسرائيل مطوقة بقوى معادية تمتلك إيران سلطة كبيرة عليها – هلال شيعي يمتد من إيران حتى سوريا ولبنان وغزة.

 إيران اليوم أضعف من أي وقت مضى

كما استثمرت إيران في تعزيز قوة الحوثيين، الجماعة الشيعية في اليمن، وإحدى أطراف الحرب الأهلية التي تدور في ذلك البلد (ولا تحارب الحكومة فحسب، بل القوات السعودية والإماراتية كذلك). منذ بداية الحرب في غزة، شن الحوثيون هجمات صاروخية على السفن في البحر الأحمر عطلت التجارة العالمية وأرغمت سفن الشحن وناقلات النفط على الإبحار حول أفريقيا، وهو طريق أطول وأكثر كلفة. حتى أن الحوثيين هاجموا إسرائيل بصورة مباشرة أحياناً، وحاولوا استهداف سفن البحرية الأميركية.     

ولسخرية القدر، أزفت بداية نهاية عصر الهيمنة الإيرانية على المنطقة من خلال حدث بدا كأنه انتصار للنظام: هجمات “حماس” يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. ما زالت درجة تورط إيران في الهجمات غير واضحة، لكن المجزرة التي أسفرت عن مقتل نحو 1200 إسرائيلي وأسر 200 رهينة تقريباً لم تكن لتقع لولا علاقة إيران طويلة الأمد بـ”حماس” ودعمها لها. ومثلت الهجمات إحراجاً لإسرائيل التي لم تكن مستعدة لها، فيما سمحت لـ”حماس” أن تزعم لبعض الوقت بأنها الجهة الفلسطينية الوحيدة المستعدة والقادرة على مجابهة إسرائيل، كما شكلت هدية ليس لـ”حماس” فحسب، بل لداعمتها الأساسية، إيران.  

وبعد أكثر من عام على ذلك الحدث، انتهى ذلك الفوز التكتيكي لإيران بهزيمة استراتيجية، إذ شنت إسرائيل عمليات عسكرية متواصلة أضعفت “حماس”، لدرجة أنها لم تعد قوة قتالية فعالة قادرة على شن هجوم مماثل للسابع من أكتوبر. وأتبعت إسرائيل هذه العمليات بسلسلة من الهجمات على “حزب الله” قضت على قيادته ومخابئ أسلحته، فأضعفته بصورة كبيرة وأجبرته على التخلي عن إصراره المتواصل على ربط أي وقف لإطلاق النار مع إسرائيل بوقف لإطلاق النار في غزة.

أسهمت هذه التطورات في الإطاحة بالأسد، فلم يعد “حزب الله” في وضع يسمح له بدعم النظام، الذي استند إلى الجماعة بصورة كبيرة من أجل الحفاظ على موقع السلطة. وفيما تصب روسيا مواردها وتركيزها على أوكرانيا، نجحت القوات المعادية للأسد بقيادة الإسلامويين وبدعم تركي، من إلحاق هزيمة سريعة بالسلالة التي حكمت سوريا بقبضة من حديد طوال أكثر من نصف قرن، وانتهزت إسرائيل أيضاً الفوضى في سوريا كي تدمر الجزء الأكبر من أصول الأسد العسكرية.

كما أن إيران نفسها اليوم أضعف من أي وقت مضى، ففي عام 2024 شنت هجومين مباشرين على إسرائيل (الأول في أبريل والثاني في أكتوبر)، استخدمت فيهما مزيجاً من المسيرات والصواريخ رداً على الضربات الإسرائيلية لمواقع إيرانية في سوريا وعلى اغتيال أحد زعماء “حماس” في طهران. لم تحدث الضربات الإيرانية أضراراً تذكر، كما أن إسرائيل ردت عليها مرتين، مدمرة دفاعات جوية ومخازن ذخائر وعناصر حيوية في قاعدة الصناعات الدفاعية الإيرانية، فيما أثبتت قدرتها على التحرك العسكري في الأجواء الإيرانية بحرية شبه تامة.

بين الرغبة والحاجة

لكن على رغم هذه الانتكاسات، تظل هناك ثلاث نقاط في سلوك إيران تستدعي القلق المستمر. الأولى هي دعمها للوكلاء، الذي حاز النصيب الأكبر من الاهتمام خلال الأشهر الـ15 الماضية. النقطة الثانية هي برنامجها النووي، إذ زادت إيران من كمية اليورانيوم المخصب في حوزتها ومن مستوى التخصيب. وتشير التقديرات إلى أنها قد تكون على بعد أسابيع فقط من إنتاج كمية كافية من اليورانيوم المستخدم في الأسلحة النووية تسمح لها بصناعة 12 سلاحاً نووياً. وسيستغرق تطوير الأسلحة الفعلية وقتاً أطول (من ستة أشهر إلى عام)، على رغم أن هذا الإطار الزمني قد يتسارع بمساعدة شركاء ذوي خبرة، مثل الصين أو كوريا الشمالية أو باكستان أو روسيا.

أما مصدر القلق الثالث، فهو الوضع الداخلي في إيران. يفرض قادة إيران سلطتهم بالإكراه، صحيح أن البلاد تعقد انتخابات، لكن المرشحين المحتملين يخضعون للتقييم ويستبعد كثيرون من بينهم من السباق على أساس عدم أهليتهم للمشاركة فيه، ويحتفظ رجال الدين غير المنتخبين بالسلطة النهائية. كما أن الحقوق السياسية مقيدة جداً بالنسبة إلى كل الإيرانيين، فيما تدير الحكومة الإنترنت ويتعرض معارضو النظام للاعتقال التعسفي وتفرض قيود خاصة على النساء. وأفضل السيناريوهات هو أن تسعى الولايات المتحدة إلى علاج مصادر القلق الثلاثة، فتعمل على إضعاف الدعم العسكري للجهات الوكيلة، وتضع سقفاً للبرنامج النووي الإيراني، يكون قابلاً للتحقق ويوفر إنذاراً كافياً إذا حاولت إيران العمل باتجاه تحقيق اختراق نووي، وتخلق مساحة سياسية وشخصية أكبر يمكن للمواطنين الإيرانيين التحرك فيها.  

لكن محاولة النجاح في المجالات الثلاثة – مساعي إنهاء البرنامج النووي الحكومي، وإنهاء دعم الوكلاء عسكرياً، ووضع حد لقمع الشعب الإيراني – ستبوء بالفشل بصورة شبه مؤكدة. على السياسة الخارجية أن تسعى إلى تحقيق الممكن كما المرغوب، لكن اعتماد مقاربة تسعى إلى تحقيق هذا الطموح أمر غير واقعي، وأحد أسباب ذلك هو أن بعض العناصر الضرورية لتحقيق غاية أو اثنتين لن تتوافق على الأرجح مع تحقيق الغاية الثالثة.

يجب أن يحتل موضوع البرنامج النووي الأولوية بالنسبة إلى صانعي السياسات الأميركيين، فامتلاك إيران للأسلحة النووية ولمجموعة من منظومات إيصال هذه الأسلحة سيضعها في موقع يمكنها من تشكيل خطر وجودي على عدد من جيرانها وعلى شركاء الولايات المتحدة الوثيقين في المنطقة، وعلى رأسهم إسرائيل. كما سيسمح لها بانتهاج سلوك أكثر عدوانية – من خلال وكلائها أيضاً – لاعتقادها بأن قدراتها النووية ستجعل الآخرين يترددون قبل مهاجمتها بصورة مباشرة. وهناك ما يدعو إلى الاعتقاد كذلك بأن امتلاك إيران للسلاح النووي سيدفع دولاً أخرى في المنطقة من بينها السعودية وتركيا، إلى تطوير أو امتلاك أسلحة نووية خاصة بها. وسيزيد هذا التطور من احتمالات نشوب صراعات في المنطقة (وإن كانت لمجرد وضع حد لهذه المساعي)، ويضاعف من احتمالات استخدام الأسلحة النووية بالفعل، وستزداد صعوبة أحداث الاستقرار والمحافظة عليه إذا تضاعف عدد صانعي القرار وكانت مخازن السلاح النووي عرضة لضربة وقائية أولى.

سيبقى وقف البرنامج النووي الإيراني أولوية ملحة

دفع بعض واضعي السياسات والمحللين من ناحية أخرى باتجاه إعطاء الأولوية لتغيير النظام، والفكرة من هذه الحجة هي أن النظام الديمقراطي الموالي للغرب في إيران سيتخلى عن الأسلحة النووية (ويفعل ذلك بصدق)، ويبتعد من دعم الوكلاء. ومع أن هذا المنطق فيه بعض الصحة، ليس من المؤكد أن تتمكن واشنطن من تسهيل عملية تغيير النظام، ولا شك في أنها لا تملك إطاراً زمنياً واضحاً لعملية كهذ، مهما بلغ ضعف الجمهورية الإسلامية حالياً.

تتنوع أشكال الأنظمة الاستبدادية، وهي لا تتساوى من حيث الهشاشة، لكن تلك الأنظمة الهشة فعلاً بينها – وتخطر ببالي سوريا في ظل حكم الأسد وإيران نفسها في زمن الشاه وليبيا خلال حكم القذافي والعراق تحت سلطة صدام – عادة ما تتميز ببعض القواسم المشتركة: حكم الفرد بدل الجماعة، وغياب المؤسسات والاعتماد على الإكراه أكثر من وجود ولاء على نطاق واسع، وغياب الآليات المقبولة لتداول السلطة، وتركيز قوات الأمن على ردع عمليات الانقلاب أكثر من خوض حروب تقليدية، لكن إيران اليوم مختلفة. لا شك في أن القيادة غير محبوبة حالياً، إذ تشير استطلاعات الرأي إلى أن غالبية الإيرانيين يعارضون الحكم. وتشير بعض التقارير إلى وجود انتقاد علني ولافت لكل الجهود والأموال التي أنفقت على نظام الأسد، فيما يعاني مواطنو البلاد. فهذه دولة ثرية بموارد الطاقة لكنها تعاني نقصاً في الطاقة، لكن هذا لا يعني أن الحكومة مع النظام السياسي الذي تمثله تفتقد إلى دعم وافر في الداخل، والأهم هو أن النظام يتمتع بقواعد دعم داخلي حقيقية مستعدة لاستخدام العنف دفاعاً عنه. وفي إيران أيضاً مجموعة متطورة من المؤسسات المتداخلة تشمل مجلس الشورى ومجلس خبراء القيادة ومجلس صيانة الدستور ومجلس تشخيص مصلحة النظام وسلطة قضائية وغيرها، ويشهد على هذا الأمر عملية خلافة رئيس البلاد بعد مصرعه في حادثة تحطم مروحيته، التي حدثت بطريقة منظمة نسبياً.   

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى