أقلام وأراء
رياض قهوجي: السودان ومخاطر تجربة تعايش الميليشيات مع القوات النظامية ودمجها فيها

رياض قهوجي 5-5-2023: السودان ومخاطر تجربة تعايش الميليشيات مع القوات النظامية ودمجها فيها
تشكل الأحداث في السودان مثالاً لما تنتهي اليه الأمور غالباً عندما تحاول القوى السياسية دمج ميليشيات مسلحة في القوات المسلحة النظامية للدولة. فقوات “الدعم السريع” هي عبارة عن ميليشيات قبلية تشكلت خلال أحداث دارفور عام 2013 لمواجهة المجموعات المعارضة للنظام. وجرى الاتفاق لاحقاً على تشريعها ضمن مشروع لدمجها على مراحل في القوات المسلحة السودانية. لكن قيادة قوات “الدعم السريع” أصرت على جدول زمني من عشر سنوات لدمج عناصرها في القوات النظامية. بل أكثر من ذلك، عمدت الى زيادة عديدها ومستوى تسليحها وكانت تسعى لتشكيل قوات جوية خاصة بها قبل أن ينفجر الخلاف مع قيادة الجيش السوداني وتندلع الاشتباكات في شكلها الحالي في أرجاء الدولة.
السودان لم يكن أول دولة عربية تجرب عملية دمج الميليشيات في صفوف القوات المسلحة النظامية. فلقد طبق لبنان هذه التجربة عند انتهاء الحرب الأهلية عام 1990 وتم الاتفاق على حل جميع الميليشيات وضم جزء منها الى صفوف الجيش اللبناني. أعتبرت هذه العملية حينها ناجحة الى حد ما اذ لم تقم جميع الأحزاب السياسية بحل مليشياتها بشكل كامل. فلا يزال بعضها، وبخاصة “حزب الله”، يمتلك ميليشيا مدججة بالسلاح وباتت أشبه بدويلة داخل الدولة. لكن هناك حالة تعايش للوضع الحالي في لبنان قائمة بين قوى السلطة الحاكمة. هذا التعايش بمنع الاحتكاك بين الجيش و”حزب الله” ويضع آلية للتواصل والتنسيق منعاً لأي تصادم. فليس من السهل أن تقبل القوى النظامية وجود قوى أخرى مسلحة غير نظامية ما لم يكن هناك قرار سياسي ضاغط ومستوى عالٍ من الانضباط في صفوف ضباط المؤسسة العسكرية وعناصرها.
كما شهد العراق عملية دمج غير مكتملة لميليشيات “الحشد الشعبي” في صفوف القوات النظامية. فلا تزال هذه القوات تصر على أن تتبع قادتها وأن تبقى مجموعاتها مستقلة وغير مندمجة في صفوف القوات النظامية. عملية التشريع هدفها هو تأمين رواتب هذه الميليشيات ومصاريفها من خزينة الدولة ومنحها صفة شرعية تسمح لقواتها بالتسلح والعمل العسكري على الأراضي العراقية، وهي حالة قريبة بشكل كبير من وضع قوات “الدعم السريع” في السودان. وتمكنت القوى والأحزاب الحاكمة في العراق من منع التصادم بين “الحشد الشعبي” والجيش العراقي بسبب استمرار العملية السياسية رغم التشنجات بين الحين والآخر. لكن، أي انهيار للعملية السياسية وانقسام الأحزاب الحاكمة سيؤدي الى التصادم بين الجيش العراقي وقوات “الحشد الشعبي”.
الميليشيات تظهر عادة عندما تضعف الحكومة المركزية ويسود انقسام داخل مكونات الدولة من مجموعات قبلية أو طائفية-مذهبية أو عرقية أو عقائدية سياسية. وتتحول الميليشيا الى قوة تسعى للحفاظ على وجودها لتأمين مكتسباتها حتى بعد أن تتوصل غالبية الأطراف الداخلية الى اتفاق سياسي ينهي خلافاتها. فمعظم الأحيان تتغير أولويات قيادة هذه الميليشيات من حماية المجموعة التي انشئت أصلاً لحمايتها الى حماية وجودها ومصالحها الشخصية ونفوذها في أماكن انتشارها، وستسعى لإضعاف الحكومة المركزية وأجهزة الدولة لتأمين استمراريتها. وستسعى قيادة الميليشيات لإضفاء شرعية على وجودها المسلح واستقلاليتها من دون إتمام عملية الدمج التي ستفقدها السيطرة على عناصرها ونفوذها داخل الدولة.
فإن لم يكن هناك إجماع داخلي سياسي وشعبي مدعوم من قوى إقليمية ودولية على حل المليشيات ودمج عناصرها في المؤسسة العسكرية، فإن هذه الميليشيات لن تحل نفسها وستستمر بتعزيز وجودها العسكري عبر تجنيد المزيد من الأفراد والحصول على السلاح وإعطاء شرعية لبقائها. ولتمويل نفسها تشكل هذه الميليشيات آلية اقتصادية خاصة بها تعتمد إما على استغلال مصادر الدولة أو عبر عمليات التهريب وبيع الممنوعات وتبييض الأموال بالتنسيق مع عصابات الجريمة المنظمة داخلياً ودولياً. وسيكون من مصلحتها الاستمرار في الحديث عن عملية الدمج مع القوات المسلحة للتمويه فقط ولشراء الوقت من أجل إيجاد أمر واقع يتم القبول به داخلياً وخارجياً، بخاصة اذا ما تلاقت مصالح هذه الميليشيات مع قوى إقليمية ودولية توفر لها ما تحتاجه من دعم مالي وعسكري.
ما يحدث في السودان اليوم قد يتكرر في دول أخرى في المنطقة لا تزال تسيطر فيها الميليشيات على مناطق تفرض فيها إرادتها خارج إطار قوانين الدولة والأعراف الدولية. فالتعايش بين القوى النظامية وتلك غير النظامية قد يستمر لفترة من الزمن بسبب ظروف داخلية وإقليمية أو دولية، إنما لا يستطيع الاستمرار للأبد لسبب بسيط وهو أنه يتنافى مع منطق الأمور والطبيعة البشرية. فالقادة يسعون دائماً للمزيد من القوة والسلطة أو الاستئثار بها. وفي حين قد يقبل بعضهم بمشاركتها مع قوى لا تشاركهم أجندتهم وأهدافهم، سيأتي قادة آخرون يرفضون ذلك. حتى أن القائد العسكري الحالي المتعايش مع الوضع غير الطبيعي لوجود ميليشيا قد يغير موقفه في اللحظة التي يجد فيها فرصة إقليمية أو داخلية أو دولية مناسبة لإزاحة الطرف الذي يزاحمه على أحقية حمل السلاح وفرض أجندته أو أهدافه في الدولة. فالصدام بين الميليشيات المسلحة والقوات النظامية داخل الدولة هو مسألة وقت ليس إلا، وما يجري في السودان هو خير مثال على ذلك.
وأهم درس من تجربة السودان والتجارب الأخرى في المنطقة هو أن دمج المجموعات المسلحة مع القوات النظامية يجب أن يتم بعد حل الميليشيات وليس ضمن آلية تعطي شرعية لاستمراريتها. كما أن جهود حل النزاعات في الشرق الأوسط يجب أن تركز دائماً على دعم آلية بناء قوات نظامية موحدة تحت القيادة السياسية الشرعية وأن لا تدعم بأي شكل من الأشكال استمرار وجود ميليشيات مسلحة تحت أي مسمى كان، لأن استمرار هذه المجموعات المسلحة سيكون كقنبلة موقوته قابلة للانفجار في أي وقت مستقبلاً.