أقلام وأراء

رياض قهوجي – قراءة استراتيجية لاعتزال الحريري: ما هي سيناريوات المواجهة مع إيران؟

رياض قهوجي 28-1-2022م

في ساحة المعركة، عندما يحقق الخصم اختراقات عديدة في صفوف القوى المدافعة التي تجد نفسها محاصرة من الجهات كافة وساقطة عسكرياً، يصبح خيارها هو الانسحاب لتسمح للقوى الحليفة في الخلف أن تفتح نيرانها على المنطقة الساقطة بأيدي العدو تمهيداً لقصفها، ويتبع ذلك هجوم شامل يُشن لاحقاً لاستعادة الأرض. في ساحة المعركة أيضاً، لا مكان لمن لا يستطيع المواجهة بكل الأسلحة المتاحة، والأجدى به الانسحاب ليسمح لمن هو مستعد للذهاب إلى النهاية في مواجهة الخصم. هذان السيناريوان أقرب إلى الواقع الذي وجد الرئيس سعد الحريري نفسه فيه ما دفعه إلى إعلان الانسحاب من ميدان المواجهة السياسية اللبنانية حتى إشعار آخر! وربما كلاهما. فالفترة الحالية والمقبلة هي للمواجهة وبكل الوسائل المتاحة: اقتصادية وسياسية واعلامية وربما حتى عسكرية.
يبدو أن قواعد اللعبة الجديدة في تعامل دول الخليج وحلفائهم، مع إيران تقوم على التفاوض تحت النار: أي عدم ربط المسار الدبلوماسي بتهدئة المواجهة الاقتصادية – الإعلامية – العسكرية على الأرض. فلسنوات عديدة كان هناك توجه دائم لتهدئة الأمور لإفساح المجال للدبلوماسية. لكن هذه السياسة لم تعد مجدية بعد لجوء طهران دائماً للتذرع بأن لا شأن لها بتصرفات وكلائها الذين كانوا يستمرون باعتداءاتهم حتى خلال المسار الدبلوماسي الذي كان قائماً. فاليوم لدى كل من الإمارات العربية المتحدة والسعودية وأميركا خطوط مفتوحة مع إيران ولو على مستويات مختلفة. الا أن هذا لم يمنعهم من المضي قدماً بخياراتهم الأخرى في التعامل مع ايران أو وكلائها في المنطقة. ولا يعني ذلك أن شكل التصعيد سيكون عسكرياً بالضرورة، إنما قد يأخذ أشكالاً متعددة.
في اليمن خسرت الميليشيات الحوثية، المدعومة والمسلحة من إيران، معركة السيطرة على محافظة مأرب الغنية بالنفط بعد أشهر طويلة من القتال الشرس. ويبدو أن المبادرة في ميدان المعركة لا تزال بيد ألوية العمالقة التي أشرفت الإمارات على تدريبها وتجهيزها، وهي مستمرة بطرد الميليشيات الحوثية من مواقعها في أجزاء عديدة في مأرب ومحيطها. ولم تؤثر الهجمات بالصواريخ البالستية على أبو ظبي في موقف الإمارات التي تمكنت من اعتراض هذه الصواريخ بسهولة كبيرة، وهي تمضي الآن بحملة قوية، ويبدو أنها قد تنجح في إقناع الإدارة الأميركية بإعادة الحوثيين الى قائمة المجموعات الإرهابية، الأمر الذي سيشكل صفعة قوية للحوثيين ومن خلفهم إيران. فالصواريخ البالستية كانت تستهدف أيضاً القوات الأميركية في قاعدة الظفرة وهو ما لا تستطيع إدارة الرئيس جو بايدن تجاهله في تقييمها لموقف الحوثيين وطهران.
أما في ما يخص العراق، فإن الحكومة هناك تعمل بجد لإعادة فرض هيبتها وتقليص نفوذ ميليشيات “الحشد الشعبي”، خصوصاً في ضوء الانتخابات الأخيرة والتي هُزمت فيها الأحزاب الموالية لإيران. ويبدو أن الفائز الأكبر، الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، يسير قدماً نحو تشكيل حكومة لا تشمل الميليشيات المدعومة من إيران. فهو لا شك قد تعلم من تجربة لبنان حينما قام سعد الحريري وبعض حلفائه ورغم فوزهم بالأكثرية النيابية بإعادة تعويم “حزب الله” بعد انتخابات 2005 و2009 عبر تشكيل ما يعرف بحكومات الوحدة الوطنية، والتي استغلها “حزب الله” لتعزيز قوة الدويلة على حساب الدولة. فكل تنازل قدّمه الحريري منعاً لتوتر قد يؤدي لحرب أهلية أو منعاً للفراغ الدستوري كان مكسباً كرّسه “حزب الله” ليقوي نفوذه السياسي والعسكري والمالي داخل لبنان، ما مكنه من التمدد اقليمياً خدمة للمشروع الإيراني.
وتعمل دول مجلس التعاون الخليجي اليوم على تعزيز استثماراتها في العراق وتستعد لمده بشبكة كهرباء تعوضه عما كانت تقدمه إيران مقابل مبالغ مالية كبيرة. واذا ما استمرت وتيرة التقدم ولو ببطء في العراق نحو إعادة بناء ركائز الدولة وقواها الشرعية، فإن ميليشيات “الحشد” ستجد نفسها أمام خيارين: إما التخلي عن مشروع الدويلة أو مواجهة قوى الشرعية بغطاء سياسي وحتى ديني عبر آية الله علي السيستاني وغيره من مرجعيات النجف.
أما في لبنان وبعد أن تمكن “حزب الله”، وبمساعدة بعض حلفائه، من السيطرة على مجلس النواب الذي أتاح له السيطرة على السلطة التنفيذية بموقعي رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء، ويندفع اليوم بقوة للسيطرة على السلطة التشريعية أو أقله شلّها. فالأمور قد بلغت حداً لم تعد سياسة فصل النزاع التي كان سوّقها الحريري لحلفائه في الخارج مقنعة لأحد. حتى أن الحريري يعترف اليوم بفشل هذه السياسة التي أدت الى إنهيار الدولة وفقدانه لحلفائه بالداخل والخارج. فعلى مستوى معظم القيادات العربية، لم يعد مقبولاً استمرار الوضع على حاله في لبنان حيث باتت أزمته السياسية – الاقتصادية الحالية مرتبطه بالنسبة إلى هذه القيادات، وبعض القوى الداخلية، بسلاح “حزب الله” وتدخلاته العسكرية الإقليمية. كما أن دولاً عربية وأوروبية عدة باتت تعتبر موضوع شبكات الكبتاغون الممتدة في مناطق نفوذ “حزب الله”، والتي تعبر الحدود اللبنانية – السورية بسهولة، مصدر تهديد لأمن مجتمعاتها ما يستوجب حلاً جذرياً. وإذا ما تم الأخذ بتصريحات غالبية المسؤولين العرب ووسائل إعلامهم وحتى تعليقات جمهور وسائل التواصل الاجتماعي فيها، فإنه يظهر جلياً أنهم لم يعودوا يعتبرون سلاح “حزب الله” على أنه سلاح مقاومة ضد إسرائيل، بل جزء من ترسانة إيران يعمل على خدمة مصالح طهران ويهدد أمن دول عربية عدة، ومنها لبنان.
لم يكن تزامن المبادرة الكويتية مع خطاب إعتزال الحريري من باب المصادفة. فمن جهة انسحب الحريري قالباً الطاولة على التوازن الداخلي الذي كان يعتمد عليه “حزب الله” في توفير غطاء شرعي لسلاحه وسياساته، ومن جهة أخرى تم وضع القيادة اللبنانية أمام خيارين: إما تصحيح الخلل والاتجاه لإعادة بناء الدولة، أو اختيار الدويلة وما يترتب على ذلك من مخاطر على المستويات كافة. تريد دول مجلس التعاون الخليجي الجواب على المبادرة الكويتية خلال اللقاء التشاوري لوزراء خارجية الجامعة العربية من أجل أن تثبت للدول العربية والقوى الغربية والعالمية أنها سعت وعرضت إنقاذ الدولة، الا أن قرار الدويلة هو المسيطر في بيروت، وبالتالي آن أوان الكي. وسيكون عنوان المواجهة في لبنان سلاح “حزب الله” وسيطرة إيران، أو ما يطلق عليه اليوم بالاحتلال الإيراني للبنان عبر سلاح “حزب الله”. وهذه ستكون عناوين غالبية الحملات الانتخابية للعديد ممن سيتنافسون على تقاسم تركة الحريري النيابية.
ردة فعل “حزب الله” في الدفاع هي دائماً الهجوم، وبالتالي سيحاول الحزب وحلفاؤه أن يحصدوا أكبر عدد ممكن من المقاعد السنّية كمحاولة لإعطاء شرعية لخياره المقبل لرئاسة الحكومة بعد الانتخابات إذا ما حافظ على أكثرية المقاعد، وإذا ما خسر الأكثرية سيهدد في 7 أيار (مايو) جديد أو يلجأ إليه. لكن هذه المرة قد تتحول الأمور الى سيناريو شبيه بمواجهة الطيونة إنما على مستوى الدولة، وقد ينتصر بها ما سيحوّل لبنان الى دولة محتلة عسكرياً من قبل ميليشيا، أي سيناريو الحوثيين في اليمن. وهناك قناعة دولية بأن القيادات الحالية اللبنانية ضمن التركيبة التي فرضها ويهيمن عليها “حزب الله” لن تستطيع تطبيق الإصلاحات التي يطلبها صندوق النقد الدولي، لا قبل ولا بعد الانتخابات، وبالتالي لن تكون هناك مساعدات. ولتخفيف معاناة الشعب اللبناني ستكون أي مساعدات اقتصادية دولية موجهة للشعب اللبناني إما بشكل عيني أو عبر المنظمات غير الحكومية، وهناك مساعٍ تقودها فرنسا لتوفير ذلك. وفي خضم التصعيد ضد “حزب الله” سيكون الامتحان الأكبر والأهم لمؤسسة الجيش وتماسكها وقدرتها على الصمود وأداء مهماتها المنشودة لإنقاذ الدولة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى