روسيا وإسرائيل : تغيير قواعد اللعبة
مركز مسارات، رازي نابلسي.- 27/9/2018
مقدمة
جاء إعلان روسيا نيّتها تسليم الدفاعات الجويّة السوريّة منظومة الصواريخ
“S-300” وإغلاق المجال الجوّي السويّ، ليدلّل على أن الأزمة الإسرائيليّة – الروسيّة لا تزال في أوجها، ولها إسقاطات كثيرة. وذلك عكس ما جاء من تصريحات وتحليلات إسرائيليّة، أشارت خلال الأيّام الأولى بعد إسقاط الطائرة إلى أن الأزمة “أصبحت خلفنا”، مستندة إلى تصريحات الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين بأن إسقاط الطائرة جاء “بعد سلسلة من الأخطاء”. فعوّلت غالبيّة التحليلات الإسرائيليّة بعد إسقاط الطائرة على العلاقة الشخصيّة بين رئيس الحكومة الإسرائيليّة، بنيامين نتنياهو، وبوتين الذي طمأن بداية بتصريح هادئ، بالإضافة إلى المصالح الإسرائيليّة – الروسيّة في سوريا، والشرق الأوسط عمومًا.
ولكن، ما تبيّن في الحقيقة كان مختلفًا، فلم توافق روسيا على الرواية الإسرائيليّة، وتمسّكت بروايتها التي تحمّل إسرائيل المسؤوليّة الكاملة عن إسقاط الطائرة، وتمسّكت وزارة الدفاع الروسيّة بحقّها في “الرد” على إسقاط الطائرة التي تحمّل إسرائيل مسؤوليّتها. وفي الختام، أعلنت عن تزويد سوريا بمنظومات دفاع جوّي من شأنها أن تحد من قدرة الطيران الإسرائيليّ وقوى التحالف الدوليّ على ضرب أهداف داخل سوريا.
ستعمل هذه الورقة على رصد سيناريوهات التصعيد الروسيّ – الإسرائيليّ، وإسقاطاته على المنطقة التي لا تزال سوريا الجبهة المتقدّمة التي تدور على أرضها صراعات أكبر منها، تبدأ من المحليّة، حتّى الإقليميّة، وصولًا إلى قوى عظمى متواجدة قبالة السواحل السوريّة وعلى أراضيها. وفي هذه الجبهة تحديدًا، تشكّل العلاقة الروسيّة – الإسرائيليّة الأساس الذي يُتيح لإسرائيل حريّة الحركة فوق الأراضيّ السوريّة، وحريّة القصف من فوق الأراضيّ السوريّة وفق ضوابط متّفق عليها.
لذلك، فإن هذه العلاقة غاية في الأهمية بالنسبة إلى إسرائيل التي تضمن مصالحها من خلال وجود روسيا في سوريا. ومن هذا المبدأ فقط، يمكن فهم زيارات نتنياهو المتكرّرة إلى موسكو، والعلاقة مع بوتين التي وصلت إلى حد وجوده في الساحة الحمراء يوم ذكرى النصر على النازيّة وعدم قيام إسرائيل بإدانة قيام روسيا بضم جزر القرم. ومن هذا المبدأ أيضًا، يمكن فهم التخوّف الإسرائيلي على هذه العلاقة والتنسيق الإستراتيجيّ إسرائيليًا، الذي يهدف إلى عدم السماح لإيران بالتمركز أكثر في سوريا وتمرير أسلحة إلى حزب الله في لبنان.
المفاجأة الروسيّة للتوقّعات الإسرائيليّة
ردّة الفعل الروسيّة كانت أكبر من المتوقّع، خاصة أنّه خلال أزمة سقوط الطائرة بدأت تتكشّف العديد من الاتفاقيّات الإسرائيليّة – الروسيّة التي حكمت العلاقة بين البلدين خلال الوجود الروسيّ في سوريا: التعهّد بإرجاع القوّات الإيرانية مسافة 100 كم عن الحدود؛ إعادة رفات جنود دُفنوا في سوريا؛ تمرير معلومات استخباراتيّة من الأراضيّ السوريّة للقوّات الإسرائيليّة؛ تنسيق عسكريّ متواصل، إضافة إلى السماح للقوّات الإسرائيليّة بالقصف شبه الحر في الأراضيّ السوريّة… ولعل مقولة “بعد كُل ما فعلناه من أجلهم” التي صدرت عن وزارة الدفاع الروسيّة، أكثر ما يجسّد حجم التعاون الروسيّ مع مصالح إسرائيل ومطالبها.
وهذا ليس باتجاه واحد، إذ تستفيد روسيا الأخرى من الضربات الإسرائيليّة التي تحجّم التواجد الإيرانيّ المنافس للروسي رغم التحالف، وتستعمل إسرائيل كفزّاعة أمام الإيرانيين، يُضاف إليه مصلحة روسيا في علاقة جيّدة مع إسرائيل وسط عقوبات الغرب عليها.
من المنطقيّ جدًا، أن تتفاجأ إسرائيل من ردّة الفعل الروسيّة، لا سيما أن من أسقط الطائرة هو جيش النظام السوريّ، وليس إسرائيل بشكل مُباشر. إذًا ما الجديد، خاصة أنه بحسب الجيش الإسرائيليّ قامت طائرات العدوان بشن أكثر من 200 غارة خلال العام الماضي على أهداف في سوريا، وهو ما يُعادل غارة كُل يومين تقريبًا دون أي مضايقات من الروس.
أشارت بعض التحليلات الإسرائيليّة إلى أن الروس بدأوا يستكملون مشروعهم بإعادة سيطرة النظام على كافة الأراضيّ السوريّة، وأن العدوان الإسرائيليّ المتواصل في الأراضيّ السورية بدأ يُعيق هذا التقدّم النظاميّ – الروسيّ لاستكمال استعادة السيطرة على البلاد.
ومن جانب آخر، أخذت تشير بعض التحليلات إلى أن الاتفاق الروسيّ – الإسرائيليّ الذي يضمن حريّة الحركة للطيران الحربيّ الإسرائيليّ لم يعد يلائم الروس، خاصة بعد التطوّرات الميدانية على الأرض، لذلك تسعى روسيا إلى استغلال سقوط الطائرة لفرض شروط جديدة على إسرائيل.
أمّا المحلّل العسكريّ في صحيفة “هآرتس” عاموس هرئيل، فكتب قائلًا إن إسرائيل بدأت في الأشهر الأخيرة تتصرّف بشكل استفزازيّ في سوريا، خاصة أنّها نشرت أن أكثر من 200 غارة نفذت على سوريا في العام الأخير، ما يضع روسيا في موقف صعب أمام حلفائها في محور دعم النظام السوريّ، لذلك فإن بوتين يستغل إسقاط الطائرة لإعادة موضعة إسرائيل في مكانها الطبيعيّ أمام وجود قوّة عظمى على الأراضيّ السوريّة، وهي روسيا.
وعلى الرغم من عدم وجود تحليل قاطع قادر على تفسير السلوك الروسيّ غير المتوقّع إسرائيليًا، إلّا أن التحليلات جميعها تُشير إلى أن روسيا تريد وضع شروط جديدة تحكم العلاقة مع إسرائيل بكل ما يخص سوريا، وهي تستغل الطائرة وسقوطها حتّى النهاية لتحقيق شروط جديدة.
(S-300) في سوريا : ميدان جديد ومختلف
كان الرد الروسيّ الأول على إسقاط الطائرة إعلان موسكو إرسال منظومة
(S-300) ومنظومات التشويش إلى سوريا وتسليمها للجيش السوريّ، وهذا بالنسبة إلى إسرائيل هو الرد الأكثر إيلامًا الذي لطالما تخوّفت منه؛ لقدرة هذه المنظومة الدفاعيّة على الحد من الحريّة الجويّة التي تتمتّع يها إسرائيل في سوريا. إذ ومع إعلان روسيا عن نيّتها تسليم المنظومة إلى سوريا، أخذت التحليلات الإسرائيليّة العسكريّة، التي تتم بصورة عامّة بإيعاز وإرشاد من الأجهزة الأمنيّة ذاتها، تتحوّل من “التحليل” إلى “قياس الضرّر”، خاصة أنّنا نتحدّث عن منظومة قادرة بحسب الإعلام الإسرائيليّ العسكريّ على رصد الطائرات الإسرائيليّة منذ لحظة خروجها مع تنبؤ بمسارها، ما يمنح السوريّون والروس قدرة على التحضير لاعتراضها، حتّى قبل وصولها المجال الجوّي السوريّ.
وطبعًا، يُضاف إليها منظومة الرصد والمراقبة الكهرومغناطيسية التي من شأنها أن تشوّش تواصل الطائرات الإسرائيليّة فيما بينها ومع الأقمار الاصطناعيّة، ما يحد بصورة كبيرة من النشاط العدوانيّ الإسرائيليّ في سوريا، الذي تنظر إليه إسرائيل على أنّه “هدف إستراتيجيّ” يتمثّل بمنع إيران من تشكيل قواعد عسكريّة تكون عبارة عن ذراع أماميّ في أي صراع مستقبليّ، كما تمنع وصول شحنات من الصواريخ الدقيقة إلى “حزب الله” في لبنان عبر سوريا من إيران والعراق.
إسرائيليًا، يتراوح الرد على وجود (S-300) بين التخفيف من قدرتها على ردع سلاح الجو، وبين قياس الأضرار المستقبليّة. إذ أشار العديد من المحلّلين العسكريين، وعلى رأسهم عاموس يادلين، رئيس مركز أبحاث الأمن القوميّ والرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكريّة، إلى أن روسيا قامت ببيع المنظومة إلى اليونان، التي تجريّ مناورات شبه دوريّة مع إسرائيل، ما يعني أن سلاح الجو الإسرائيلي قد تدرّب فعلًا على العمل خلال وجود مثل هكذا منظومة دفاعيّة، وهو قادر على مجاراتها وتحقيق أهدافه حتّى مع وجود هذه المنظومة على الأراضيّ السوريّة، إلّا أن جميع التحليلات العسكريّة تتّفق على تحديد حريّة الحركة الإسرائيليّة في الأجواء السوريّة.
وحتّى في حال قدرة الطيران الإسرائيليّ على العمل ضمن وجود منظومات دفاع متطوّرة، إلّا أن جميع المحلّلين العسكريين يجمعون على أن خطورة كبيرة على الطائرات الإسرائيليّة ستكون موجودة خلال تنفيذ أي عدوان في سوريا مع وجود مثل هذه المنظومة، ما يزيد من تكلفة العدوان العسكريّ الذي كان حتّى يومنا هذا، متاحًا دون عائق يُذكر، باستثناء سقوط مقاتلة إسرائيليّة واحدة خلال ثلاثة أعوام من العدوان المستمر على الأراضي السوريّة.
السيناريوهات
يبدو أن إسرائيل غير معنيّة ولا بأي شكل من الأشكال بتصعيد الأزمة التي أطلق عليها المحلّلون “عميقة وخطيرة”، ويكتفون حتّى هذه الأيّام بالتصريح بأنهم “سيعملون على حفظ أمن إسرائيل” في كافة الظروف.
المثير للاهتمام، أن الرد الإسرائيليّ التقليديّ على تزويد الجيش السوريّ بمنظومات الدفاع (S-300) لم يعد موجودًا مع هذه الأزمة. إذ كانت إسرائيل تدّعي في وقت سابق، وفي ظروف أخرى أنها ستقوم بقصف منظومات الدفاع الجويّ في حال وجودها في سوريا، إلّا أنه على ما يبدو، فإن جديّة روسيا في تزويد سوريا بالمنظومة أخرج هذا السيناريو من دائرة التداول الإسرائيليّة، خاصة أن التهديد بقصفها من شأنه أن يعزّز التصعيد الدائر بين الطرفين.
ترصد الورقة أربعة سيناريوهات تتعلّق بالأزمة بين إسرائيل وروسيا:
السيناريو الأول : حل الأزمة
يقوم هذا السيناريو على حل الأزمة واحتوائها مع شروط جديدة تفرضها موسكو على النشاط العسكريّ الإسرائيليّ في سوريا. وهو سيناريو مرجّح أكثر من غيره، إذ يستمر فيه التنسيق مع الروس كما هو عليه، ويستمر النشاط الإسرائيليّ بصورة محدودة أكثر ممّا كان قبل الطائرة وقبل (S-300). ولتحقّق مثل هكذا سيناريو يكفي أن تستمر إسرائيل بذات السلوك الذي تقوم به منذ سقوط الطائرة؛ أي احتواء الغضب الروسيّ وعدم التصعيد لحفظ مصالحها في سوريا. وهو ما يبدو أن نتنياهو سيقوم به، إذ أوعز للوزراء بعدم التصريح بأي تصريح بخصوص الأزمة مع روسيا، وأعلن أن التنسيق سيبقى قائمًا ما بين الجيش الإسرائيليّ والروسي، ما يحدّد في هذا السيناريو هو مدى الحريّة التي ستتمتع بها إسرائيل للعمل في سوريا بمظلّة روسيّة.
وقد يشمل هذا السيناريو نقل منظومة الصواريخ الدفاعية وتشغيلها بأيدٍ روسية وليست سوريّة، وبالتاليّ تعمل بحسب المتفق عليه بين روسيا وإسرائيل.
السيناريو الثاني : تصعيد الأزمة
يتضمن هذا السيناريو تصعيد الأزمة بين الروس والإسرائيليين إلى حد وقف التنسيق العسكريّ، وهذا الأمر مستبعد بسبب المصلحة الإسرائيليّة ببقاء التنسيق مع القوّة الأكثر تأثيرًا في سوريا، حيث الأهداف الإستراتيجيّة بالنسبة إلى إسرائيل، خاصة بما يخص إيران و”حزب الله”.
هذا السيناريو منوط إلى حد بعيد بسلوك إسرائيل للتعامل مع هذه الأزمة. وهل ستبقى في خانة المحتوي والمتقبّل للتصعيد الروسيّ، أم سترد بتصعيد آخر يرافقه آخر روسيّ، وهو ما لا تنوي إسرائيل القيام به بحسب سياسييها وسلوكها الديبلوماسيّ منذ بداية الأزمة. مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا التنسيق هو مصلحة روسية أيضًا من حيث سيطرة روسيا على الساحة السوريّة، واستعمال إسرائيل كفزّاعة مكبوحة أمام الوجود الإيرانيّ المنافس للروسيّ رغم التحالف بما يخص بقاء النظام السوريّ والحفاظ عليه.
السيناريو الثالث: احتواء الأزمة عبر جهود ديبلوماسيّة ودوليّة
يقوم هذا السيناريو على احتواء الأزمة وعودة الأمور إلى ما كانت عليها عبر جهود ديبلوماسيّة ودوليّة. وهو سينايو وارد ومرجّح، ولكنه ليس الأكثر ترجيحًا بسبب تصميم روسيا الواضح على استثمار سقوط الطائرة لتحقيق مكاسب سياسية وميدانيّة في سوريا.
ولتحقّق مثل هكذا سيناريو، على إسرائيل أن تضغط في الساحة الدولية على روسيا للتراجع عن تزويد سوريا بمنظومات الدفاع. وهذا ما بدأ نتنياهو فعلًا بالقيام به، إذ بدأ يتعامل مع وجود مضادات الصواريخ على أنّه يضر باستقرار المنطقة ككل، وليس فقط في مصالح إسرائيل بسوريا.
السيناريو الرابع: تصعيد أميركيّ يدعم إسرائيل للحد من التصعيد الروسيّ
يتضمن هذا السيناريو تدخّل الولايات المتّحدة إلى جانب إسرائيل أو قيامها بضرب أهداف في سوريا بالوكالة عن إسرائيل. وهو سيناريو ممكن التحقق، ولكن فرصته ليست كبيرة، ويتعلّق باللقاء ما بين نتنياهو وترامب على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة.
إن ما يضعف احتمالات تحقّق هذا السيناريو، هي حقيقة أن إسرائيل غير معنية أن تُصبح ورقة في صراع الولايات المتحدة – روسيا، وذلك لأسباب عدّة، أهمها: الوجود الروسيّ في الشرق الأوسط مقابل تراجع الهيمنة الأميركيّة، وخاصة في سوريا والعراق؛ عدم الدخول في صراع قوى عظمى ستغدو إسرائيل خاسرة فيه بسبب الاستقطاب الذي لا يصب في مصلحة كيان استعماريّ كإسرائيل – ديناميكيّ إلى حد بعيد، يحاول التوفيق بين جميع الأقطاب ولا يُصارع أيًا من أقطاب القوى العظمى.
خاتمة
السيناريو الأكثر ترجيحًا من بين السيناريوهات هو السيناريو الأول، وذلك لحقيقة أن التنسيق العسكريّ مصلحة مشتركة: إسرائيل تريد استهداف إيران وحزب الله ومشروعهما بسوريا؛ ومن مصلحة روسيا بقاء إسرائيل في الصورة لتستعملها كورقة ضغط أمام إيران من جهة، وأمام العالم الغربيّ من جهة أخرى، وخاصة أميركا التي تهتم بمصالح إسرائيل. ومن مبدأ المصلحة المشتركة، ترى الورقة أن استمرار التنسيق العسكريّ مرجّح.
وفي الوقت ذاته، أكدت إسرائيل ومنذ سقوط الطائرة أنّها ستواصل قصف أهداف إيرانية وشحنات أسلحة لحزب الله في سوريا، وهذا ما أكّد عليه الكابينيت الإسرائيليّ؛ لذلك ترجّح الورقة أن تصل كل من روسيا وإسرائيل إلى صيغة جديدة في سوريا تسمح لإسرائيل بضرب أهدافها “الإستراتيجيّة”، وتسمح لروسيا بوضع ضوابط جديدة على العمل الإسرائيليّ.