أقلام وأراء

رفيق خوري: من “جز العشب” إلى “تجفيف المستنقع”

رفيق خوري 3-12-2025: من “جز العشب” إلى “تجفيف المستنقع”

تاريخ الحروب حافل بالدروس المستفادة من التصورات الخاطئة وحسابات التحركات المبنية عليها. وليس أخطر من الاندفاع في مغامرات عسكرية تقود إليها المبالغة في تقدير ضعف العدو سوى بناء الاستراتيجية السياسية على المبالغة في قوة الطرف الآخر. وفي الحالين خطأ مزدوج. المغامر يخطئ، لا فقط في تقدير ضعف العدو بل أيضاً في رؤية ضعفه هو.

والباحث عن تسوية يخطئ في تقدير قوة الطرف الآخر كما في حساب نقاط قوته هو فضلاً عن ضعفه. ويرى جيرالد بروتين في كتاب “إمبراطورية الخطأ”، أن “الأخطاء الإدراكية والمعرفية جزء من عملية تفكير عقلاني لكنه متأثر بالبيئة والنفسية”. أما وزير الدفاع الأميركي أيام حرب فيتنام روبرت ماكنمارا، فإنه يسجل ضمن كتاب “استعادة التراجيديا ودروس فيتنام” أن “القوى العظمى تفشل في رؤية حدود قوتها المعقدة والمتطورة أمام حروب عصابات شعبية”. أما الخبير العسكري والاستراتيجي البريطاني لورنس فريدمان، فإن الدرس الكبير الذي رآه في هجوم روسيا على أوكرانيا هو “محدودية القوة العسكرية”. والمفارقة أن الميليشيات والقوى المتوسطة، وفي طليعتها إيران تتصرف كأن قوتها بلا حدود.

والأمثلة لا تزال طازجة. “حزب الله” ذهب بعيداً من تقدير قوته والتصور مع حسن نصرالله أن إسرائيل “أوهن من بيت العنكبوت” وأن “حرب الإسناد” لغزة ستدفع العدو إلى الوقوف على “قدم ونصف القدم”. والنتيجة على الأرض هي ضربة شديدة دمرت أسلحة استراتيجية ومناطق وهجرت سكان الجنوب واغتالت قادة “الحزب العسكريين” ومعهم الأمين العام وخليفته. وإيران كررت المفاخرة بالقدرة على “إزالة إسرائيل خلال سبع دقائق ونصف” وأوحت أن “محور المقاومة” الذي تقوده ينتظر أمراً لتحرير فلسطين، فوجدت نفسها في حرب 12 يوماً عاجزة عن حماية أجوائها من الطيران الإسرائيلي، ورأت منصات صواريخها مدمرة وقادتها العسكريين قتلى.

إسرائيل استخدمت كل قوتها العسكرية المدعومة أميركياً في ضرب “حماس” وتدمير غزة و”حزب الله”، لكنها اكتشفت أن “القضاء على حماس” صعب التحقيق، وأن إخراج “حزب الله” من اللعبة يحتاج إلى إكمال الحرب من دون ضمان الحصول على “نصر كامل” من غزة ولبنان وترجمة المكاسب العسكرية إلى أرباح سياسية. والواقع محكوم بوقائع عنيدة. فخطة الرئيس دونالد ترمب المكونة من 20 نقطة لإنهاء الحرب في غزة والعمل لسلام في الشرق الأوسط تبدو في حاجة إلى اتفاقات متعددة وربما إلى معارك. وإنهاء المشروع الإقليمي الإيراني ونفوذ الجمهورية الإسلامية في لبنان والعراق واليمن بعد إخراجها من سوريا ليس المشكلة الوحيدة أمام واشنطن. فتوسيع “اتفاقات أبراهام” يصطدم برفض نتنياهو قيام دولة فلسطينية وحتى فكرة الدولة. وما يتعثر في غزة ويبقي على الفصل عن الضفة الغربية يفرض التعثر في سلام الشرق الأوسط.

ومع الوقت يكتشف الجميع أن إسرائيل القوية والمخيفة خائفة ومحتاجة إلى “مناطق عازلة” في جنوب لبنان وجنوب سوريا كما في غزة لتطمين سكان الشمال في الجليل وسكان غلاف غزة في الجنوب. وهي، على تفوقها العسكري والتكنولوجي ليست قوة عظمى ولا قادرة على تحقيق أسطورة الحكم من الفرات إلى النيل. أما مشروع تحرير فلسطين من غزة، فإنه في طريق مسدود كما كان منذ عام 1948، بصرف النظر عن أي تموضع لحركة “حماس”.

 

أما “تجنيد” لبنان وحده من كل البلدان العربية لإبقائه في حال حرب متحركة مع إسرائيل لخدمة إيران، فإنه انتهى بقوة الأكثرية الشعبية والرسمية اللبنانية وقوة الإجماع العربي والدولي واندفاع التحولات السريعة في المنطقة. وإذا كان “طوفان الأقصى” دفع إسرائيل إلى الانتقال من “الردع” إلى “الحسم”، ومن انتظار تراكم الأخطار إلى الحرب الوقائية، فإن التحول يبدو أمام نقاش داخلي.

والسؤال هو هل تكفي سياسة الضربات اليومية التي تدمر بنية تحتية لـ”حزب الله” والاغتيالات المستمرة لكوادره أم أنه لا بد من تكرار استراتيجية “جز العشب”؟، والجواب هو أن جز العشب يحتاج باستمرار إلى تكراره لأن العشب ينمو دائماً بعد جزه. والجواب الآخر هو أن سياسة الاغتيال اليومي للكوادر تبقى محدودة التأثير في “حزب الله” الذي يقول أمينه العام الشيخ نعيم قاسم إنه “رمم نفسه واستعاد قوته وجاهزيته”. وهناك من يدعو إلى الانتقال، بحسب النظرية القديمة، من سياسة “مطاردة البعوض” إلى استراتيجية “تجفيف المستنقع”. والتجفيف يعني عملية برية شاملة لا مجرد عملية جوية وصاروخية. ويعني أيضاً تجفيف المنابع المالية، فضلاً عن تغيير البيئة الملائمة لاستمرار البعوض.

ولا ضمان كاملاً لأي شيء. “حزب الله” خسر وتعرض لهزيمة عندما قاتل كجيش بالصواريخ والمدفعية. وإسرائيل لن تربح سياسياً في مواجهة حرب “غوار”، ولم تعد قادرة على إنهاء اللعبة بحروب سريعة. فالحروب السريعة فقدت قوة الدفع وتحولت الصراعات إلى شيء “عنيد جداً” بحسب لورنس فريدمان.

 و”يمكن اختصار تاريخ الفشل في الحروب بكلمتين “متأخر جداً”، كما نقل الرئيس نيكسون في كتاب “قادة” عن الجنرال دوغلاس ماكارثر.

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى