رجب أبو سرية: ليس كل ما يتمناه ترامب يدركه
طوال فترة الدعاية الانتخابية، ظل المرشح الرئاسي دونالد ترامب، يعتمد سياسة الغموض تجاه كل ملفات السياسة الخارجية الأميركية، على عكس مواقفه الحادة تجاه الملفات الداخلية، ومنها ملفات الهجرة والإجهاض، والاقتصاد، وكان يعلق على الملفات الخارجية، خاصة حربي أوكرانيا والشرق الأوسط، اللتين كانت أميركا وما زالت متورطة فيهما بشكل كبير جدا، ويتضح ذلك من حجم الإنفاق المالي، وكذلك الدعم العسكري بالتسليح والتذخير، ومد كل من اوكرانيا وإسرائيل بالمعلومات الاستخباراتية وغير ذلك، كان ترامب يعلق بشكل تحريضي ضد كل من جو بايدن وكامالا هاريس خصميه في تلك المنافسة الانتخابية، بالقول بأنه لو كان رئيسا لما كانت الحرب بين روسيا وأوكرانيا ستقع أصلا، وفيما كان يطالب نتنياهو بأن يضع حدا سريعا للحرب في غزة.
وقبل أيام من الاقتراع، طالب ترامب نتنياهو بأن ينهي الحرب، قبل أن يتسلم رسمياً مهام منصبه، ويدخل البيت الأبيض في العشرين من كانون الثاني القادم، ومع بدء الحديث عن التوقعات لطاقم ترامب الرئيسي في الإدارة، أي وزير الخارجية، وزير الدفاع، ومستشار الأمن القومي، وكلما اقترب موعد انتقال السلطة، التي ستكون سلسة هذه المرة، ولن تكون كما كان عليه الحال قبل أربعة أعوام، أو كما تنبأ بعض المراقبين من أن اميركا قد تشهد حرباً أهلية، هذا لو أن ترامب خسر الانتخابات هذه المرة أيضاً، كلما بدأت ملامح سياسة ترامب الخارجية تتضح، في العديد من الملفات، خاصة ملفي روسيا_أوكرانيا، والشرق الأوسط.
وقد بدأت التنبؤات حول تلك السياسة تظهر للعلن، خاصة من قبل بعض وسائل الإعلام التي تبحث عن الترويج لأخبارها بالطبع، حيث نشرت صحيفة «نداء الوطن» اللبنانية ما وصفته بوثيقة ترامب، وتستند الى ما وصفته بفريق ترامب الانتقالي، وتعرض من خلال تقريرها الصحافي الخطوط العامة لتلك الوثيقة.
تقول الصحيفة بأنه بالنسبة الى الحرب الإسرائيلية على لبنان، فإن ترامب يسعى الى حل دائم وطويل، أي ليس كذلك الذي نشأ بعد حرب العام 2006، وانتهى بقرار مجلس الأمن 1701، والذي تعتبر الوثيقة أنه لم يعد مجديا، وأن الأحداث قد تجاوزته، وأن التفكير بالتالي يجب أن ينحصر في كيفية نزع سلاح حزب الله ومنع أي تهديد يمكن أن تتعرض له اسرائيل، كما لا يعتبر فريق ترامب بأن التحركات الفرنسية في لبنان وعموم المنطقة مفيدة، وهذا يعني بأنه يفكر في الاستغناء عنها، أما بالنسبة لفلسطين، فما زال حل الدولتين غير محسوم بالنسبة له، وفيما يخص ملف ايران فما زال يعتقد بأن الخطر كله يكمن في ملف ايران النووي، ولذلك فإنه سيضع ايران أمام أحد خيارين: إما التوافق مع أميركا أو مواجهتها.
لا بد من أخذ ما يمكن أن يتبعه ترامب من سياسات خارجية بالاعتبار عدة عوامل، منها مواقف حزبه الجمهوري من تلك الملفات، حتى وهو يجلس على مقعد المعارضة، أي خلال السنوات الأربع الماضية، وهي فترة ولاية الديمقراطي جو بايدن، حيث كان الحزب الجمهوري ضد الدعم العسكري لأوكرانيا، على عكس حماسه لدعم اسرائيل عسكريا وسياسيا وبلا حدود، لذا فإنه بات يمكن التوقع وبشكل شبه مؤكد، أن اوكرانيا تركت لمصيرها الذي يحدده ميدان المعركة بينها وبين روسيا، هذا اذا لم يكن هناك رأي آخر للأوروبيين، الذين لم يظهروا لا الحماس ولا السخاء المالي والعسكري الذي أظهرة بايدن تجاه اوكرانيا، وعلى الأغلب فإن ترامب يمكنه أن يعرض صفقة على فلاديمير بوتين، يبيعه خلالها الهواء، مقابل ثمن ما في الشرق الأوسط مثلاً، لكن بوتين الذي أظهر حنكته السياسية في مواجهة خبث بايدن، لن يعجز عن التعامل جيدا مع سذاجة ترامب.
العامل الثاني الذي لا بد من أخذه بعين الاعتبار، ليس تقدير البعض لعوارض تافهة، من مثل أن ترامب سيحقد على نتنياهو لأنه خذله قبل أربع سنوات وهنأ بايدن، لكن الأهم بتقديرنا، هو أن التجربة قالت بأن الرؤساء الأميركيين كلهم بلا استثناء كانوا في ولايتهم الثانية مختلفين عن ولايتهم الأولى، حيث هم فيها ليسوا بحاجة الى أصوات الناخبين، لأنهم لن يخوضوا غمار التنافس الانتخابي مرة أخرى، حتى لو كانوا يقدمون نوابهم أو زوجاتهم، لذلك فإن ترامب الثاني لن يكون كما كان ترامب الأول، وترامب في ولايته الأولى حتى أثبت بأنه يسعى لعقد الصفقات التجارية، وأنه أقل ميلا لخوض الحروب، وأنه يسعى وراء المال، كما لو كان يدير أميركا كما يدير شركاته العقارية، ونحن ما زلنا نتذكر، كيف أنه دخل البيت الأبيض لأول مرة قبل ثماني سنوات بتهديد كوريا الشمالية، وحين لاح في الأفق شبح الحرب تراجع، وكان بإمكانه أن يدفع بكوريا الجنوبية لخوض الحرب مع جارتها الشمالية، كما فعل بايدن مع اوكرانيا، رغم أننا نأخذ بعين الاعتبار بأن كوريا الجنوبية ليست في جيب أميركا تماما مثل اوكرانيا.
كما أننا نذكر بأن ترامب كان حدد الخصم متمثلا في الصين وليس في روسيا، كما فعل بايدن، وخاض صراعه مع الصين في الميدان الاقتصادي، ولم يفتح جبهة حرب بينه وبين الصين، وحتى فعل ذلك مع الحلفاء، أي الأوروبيين وكندا، حين رفع في وجوههم تعرفة جمركية أعلى مما كان عليه الحال من قبل، كذلك جاء الى الشرق الأوسط، وجمع الأموال وعاد الى بلاده سعيدا، وخلال أربع سنوات، عبّر عن تأييده لإسرائيل ليس بتشجيعها على شن الحرب، ولكن من خلال منحها القرارات السياسية، ومعاهدات التطبيع، وهذا ما ينوي فعله _على الأرجح_ هذه المرة أيضا.
لذا هو يريد أن ينتهي نتنياهو من هذا الفصل العسكري الذي لا يحبذ ترامب التعامل به قبل أن يدخل الى البيت الأبيض، ويبدأ في عقد الصفقات السياسية، لذلك فإن نحو شهرين يفصلان الشرق الأوسط اليوم عن دخول ترامب للبيت الأبيض، يبدوان مهمين جدا، لجهة أن يلقي نتنياهو بكل ما في جعبته من عتاد وسلاح، وقوة عسكرية، لأنه يعلم بأن ترامب سيكون هذه المرة مختلفا عما كان عليه قبل ثمانية أعوام، وأنه لا يحب خوض الحرب، لذلك فإن نتنياهو عاد ليهدد ايران بضرب منشآتها النفطية وحتى مفاعلاتها النووية، مرة أخرى، خلال هذه الفترة بالطبع، ويقول ذلك بمناسبة مواصلة ايران التهديد بالرد على ما قامت به اسرائيل، من عدوان جوي عليها في السادس والعشرين من أكتوبر الماضي.
السؤال بذلك لا يعود حول إن كان كل ما يتمناه ترامب يدركه، أي أن تتوقف الحرب قبل أن يدخل البيت الأبيض، ليتفرغ مع إدارته الأبيض الجديدة لإعداد ملفات الصفقات السياسية الخارجية، أم لا؟ ولكن هل يدرك نتنياهو كل ما يتمناه، وهو الذي سعى لإدامة الحرب حتى يظل في الحكم، وكان يمني النفس بأن تظل الحرب مستمرة حتى دخول الساكن الجديد للبيت الأبيض، أم لا؟ والجواب كما قال الشاعر بأنه ليس كل يتمنى المرء يدركه، تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، والرياح هي المواجهة في الميدان، والتي حتى اليوم قالت، بأن اسرائيل ومع كل الدعم العسكري الأميركي لم تنجح في فرضها كحرب خاطفة، ولا في وضع نهاية حاسمة لها وفق مشيئتها، وهذا ما يقصده ترامب أصلا حين يطالب نتنياهو بانهاء الحرب بسرعة، أي أن يحسمها، وعجز اسرائيل عن حسم الحرب طوال تلك الفترة رغم الدعم والإسناد والتغطية السياسية الأميركية بوجود بايدن، يعود الى ندية محور المقاومة في الميدان.
بقي شيء وحيد، لم يقع بعد، وهو سعي نتنياهو للزج بأميركا في حرب مباشرة مع ايران، وبجيبه تجربة ناجحة، عندما أقنع ترامب الأول بنفض يديه من ملف الاتفاق النووي، لكن حتى لو حصل هذا، فهل هذا يعني بأن أميركا قادرة على حسم الحرب مع ايران، في ظل عدم استخدام السلاح النووي؟ وسيشكل نووي إيران رادعا، في حال أعلنت عن امتلاكه كما يرجح المتابعون، وكما فشلت إسرائيل في مواجهة حماس وحزب الله عن تحقيق أهدافها، يمكن أن تفشل أميركا حتى لو تورطت في حرب مع إيران، في إجبار إيران على التوافق معها كما يريد ترامب.