رجب أبو سرية: قواعد الاشتباك: من التناسب إلى الحساب المفتوح
رجب أبو سرية 24-9-2024: قواعد الاشتباك: من التناسب إلى الحساب المفتوح
نجحت إسرائيل في تحقيق اختراق أمني مثير، تمثل في تفجير أجهزة اتصالات الـ”بايجر” التي يستخدمها “حزب الله” يومَي الثلاثاء والأربعاء الماضيَين، أتبعته باغتيال قائد “قوة الرضوان” إبراهيم عقيل في الضاحية الجنوبية، وذلك بعد أسابيع قليلة على نجاحها في اغتيال رئيس أركان الحزب فؤاد شُكر، في معقل الحزب، واغتيال رئيس “حماس” إسماعيل هنيّة في قلب العاصمة الإيرانية، وهذا يؤكد قوة إسرائيل الاستخباراتية، كذلك “تجرؤها” على القانون الدولي، من حيث أنها أضافت لجريمة حرب الإبادة في غزة، وجرائم الحرب العديدة والمتواصلة في الضفة والقدس، جريمة حرب أخرى ضد المدنيين اللبنانيين، بتفخيخ أجهزة الاتصالات، لكنّ كل ذلك لم يخفِ حقيقة إسرائيل المرتبكة عسكرياً، والحائرة ما بين عدة جبهات، خاصة جبهتَي الجنوب والشمال، فيما جبهة الشرق على الطريق، كذلك فإن قوة إسرائيل الاستخباراتية التي حققت لها الاختراق آنف الذكر، لا يخفي إخفاقاتها الاستخباراتية من جهة أخرى، إن كان على صعيد مباغتة “حماس” لها في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أو على صعيد فشلها في الوصول إلى قادة المقاومة في غزة، يحيى السنوار ومحمد الضيف ورفاقهما في كل فصائل المقاومة.
والغريب حقاً، أن تظهر غزة أكثر منعة من الناحية الأمنية الخاصة باختفاء قادة المقاومة، وكأن أنفاق غزة أكثر أمناً وقدرة على حماية السنوار والضيف من طهران حيث استشهد هنيّة، ومن بيروت حيث استشهد شُكر وعقيل، لكن مع ذلك فإن ارتباك إسرائيل ما زال يتأكد بشكل أوضح عن ذي قبل، وكأن الحرب في عامها الثاني، بدأت تظهر نسبياً مؤشر الغلبة لصالح محور المقاومة، وذلك لأكثر من سبب: أول الأسباب بالطبع، هو أن إسرائيل تفضل دائماً، كما اعتادت، أن تخوض حروباً خاطفة وعلى أرض الخصم، بحيث يتجنب الداخل الإسرائيلي تأثيرات الحروب التي خاضتها من قبل، أعوام 56، 67، 73، 82، وحين تخوض الحروب تعتمد بشكل رئيس على سلاح الجو حيث تتفوق بشكل شبه مطلق، كما أنها كانت كل مرة من يحدد متى وأين وكيف تندلع الحرب، لكنها هذه المرة بوغتت بها، والأهم أن محور المقاومة فاجأها بمنعها من الاستفراد بغزة، أما هذه المرة فقد فُرضت عليها حرب طويلة الأمد، ولم ينجح الدعم العسكري والسياسي الأميركي في إغلاق جبهات الإسناد، أو مساعدة إسرائيل على تحقيق نصر خاطف في غزة.
ورغم أنه بدا مع الأسابيع وحتى الأشهر الأولى للحرب أنه من الصعب أن يتمكن بنيامين نتنياهو في مواصلة الحرب أكثر من بضعة أشهر، وهو كان يظن أنه سيكون قادراً على تحقيق النصر متمثلاً بأهداف وشعارات بعيدة المدى، سارع الفاشيون إلى إطلاقها تباعاً بعد أسابيع قليلة على إطلاق حرب الإبادة على غزة، من دعوات التهجير وإعادة الاستيطان، إلى سحق “حماس” عسكرياً وإسقاط نظام حكمها في غزة، إلى إطلاق سراح المحتجزين بالقوة، وكذلك منع غزة من تهديد إسرائيل لاحقاً، إلا أن نتنياهو أخذ من الوقت كثيراً، وأمضى عاماً كاملاً دون أن يحقق أي هدف، حتى تلك الأهداف العسكرية التي بدت ممكنة، فما زالت المقاومة تواجه قواته في غزة، بعد أن أنهت عمليتها البرية فيها، وليس هناك سوى قتل المدنيين، والعمليات المحدودة بناء على معلومات استخباراتية، تهدف إلى اصطياد قادة المقاومة، أو تحرير المحتجزين.
وقد أغلقت الأبواب منذ وقت أمام صفقة التبادل، التي كانت طبيعتها ستظهر من الذي انتصر أخيراً، حيث حاولت أميركا أن تبيع “حماس” في المعروض من الصفقة بضاعة فاسدة، فإسرائيل قد أنهكت عسكرياً في غزة، ولم يعد للجيش ما يفعله هناك، بل إن وجوده بحد ذاته يعرضه للكمائن، وهكذا فإن وقف الحرب رسمياً لم يعد يستحق مقابلاً باهظاً، وإزاء ذلك فضل لنتنياهو ألا يعلن عن وقف الحرب رسمياً حتى لا ينهار الائتلاف الحاكم، وأن ينتقل بجيشه من الجنوب إلى الشمال، كما طالبه بذلك الجيش نفسه، والذي حاول كثيراً مع الأجهزة الأمنية منذ أشهر أن يقنعه بقبول الصفقة، حتى يتخلص الجيش من وحل غزة، وهذا ما بدا واضحاً في مطالبة قادة الجيش بنقل مركز الثقل العسكري من الجنوب إلى الشمال، وقد قال هذا كل من وزير الدفاع يوآف غالانت ورئيس الأركان هرتسي هاليفي وحتى قائد المنطقة الشمالية أوري غوردين.
لكن نتنياهو نفسه بدا مرتبكاً وحائراً، وهو يدرك أن مبادرة إسرائيلية لشن الحرب مع “حزب الله” لا تواجه معارضة أميركية وحسب، ولا أنها تقطع عليه طريق المشاركة الأميركية في الحرب الشاملة، حيث تشترط واشنطن أن تبدأ إيران تلك الحرب، وهكذا فإن “الحل الوسط” داخل إسرائيل كان اللجوء إلى توجيه الضربات الأمنية والقصف الجوي، وبالطبع فإن الهجوم السيبراني الإسرائيلي على أجهزة اتصالات “حزب الله” ومن ثم الضربة الجوية في الضاحية، كانا تجاوزاً فادحاً لقواعد الاشتباك بين إسرائيل و”حزب الله” التي سار عليها الطرفان قبل حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، وخلال تلك الحرب، منذ سارع الحزب إلى فتح جبهة إسناده لغزة، كانت أقل من المشاركة الكاملة في الحرب، وأعلى من الاشتباك المتقطع الذي كانت عليه الجبهة بين الطرفين منذ العام 2006.
وهكذا فإن انتقال مركز ثقل الحرب من الجنوب، من غزة إلى الشمال، حيث الجنوب اللبناني، انتقل أيضاً بالمواجهة بين الحزب وإسرائيل من قواعد الاشتباك التي سارا عليها خلال العام الأول من الحرب لمستوى أطلق عليه الخبير العسكري اللبناني، إلياس حنا، مصطلح قواعد التناسب، وذلك بالإشارة إلى رد “حزب الله” الذي اعتبره أولياً على مجزرة يومي الثلاثاء والأربعاء، وعملية اغتيال عقيل، حيث استهداف العمق بالعمق، وحيث طال الرد مدن صفد والناصرة، وطبريا وحيفا، واستهدف مجمع الصناعات العسكرية “رفائيل” كذلك قاعدة رامات ديفيد، وذلك لأول مرة منذ 2006، وبنحو مئة وخمسين صاروخ “فادي 1″ و”فادي 2” ومسيّرات، وبمدى يصل إلى نحو مئة كيلومتر، وهكذا تأكد تماماً مع إصرار “حزب الله” على إفشال الهدف الإسرائيلي من التصعيد المتمثل بإعادة نحو 70 ألف مستوطن يسكنون شمال إسرائيل، ووقف جبهة إسناد غزة من جنوب لبنان، أن الحرب مستمرة، ولن تتوقف في المدى المنظور، أما نائب أمين عام “حزب الله” نعيم قاسم فوصف المرحلة الحالية من الحرب بالحساب المفتوح، مشيراً إلى الرد الأولي وأن الرد يكون متتابعاً على دفعات، وذلك في مراسم تشييع عقيل.
ولأن الحرب سجال، فإن مجرد استمرارها أولاً للعام الثاني على التوالي، يعني أن إسرائيل على طريق خسارة الحرب، التي لن تنتهي أو تتوقف عند حدود انسحابها من الأرض الفلسطينية والعربية التي تحتلها، وقطع الطريق على أحلامها الإقليمية وحسب، كما هو حال إسقاط أميركا بالتلازم مع إسرائيل عن عرش النظام العالمي أحادي القطب، وفي سياق حرب طويلة الأمد، لا أحد يعلم تطوراتها، وعلى الأغلب أنها لن تبقى عند هذه الحدود، أي عند حدود مشاركة جبهتَي غزة ولبنان فيها، فهناك جبهة الحوثي والعراق، رغم البعد الجغرافي، وقد أظهر إطلاق الصواريخ والمسيّرات، بأنه ليس سلاحاً لمواجهة التفوق الجوي الإسرائيلي وحسب، ولكنه يعالج البعد الجغرافي.
ويبقى بهذا السياق احتمال توسيع الحرب، لتصبح حرباً إقليمية شاملة، قائماً، ولكن بالتدريج والتدرج، ومع مرور الوقت، حيث إن استمرار الحرب لسنوات قادمة قد يجعل من ساحات أخرى ساحات حرب بين إيران وإسرائيل حرباً طويلة الأمد يفرضها محور المقاومة على إسرائيل التي لا تقوى إلا على الحروب الخاطفة.