رجب أبو سرية: سفراء بالجملة في فلسطين
رجب أبو سرية 2023-09-29: سفراء بالجملة في فلسطين
لهذا فإنه من العبث القول إن الحل بين الفلسطينيين والإسرائيليين بات ممكنا من خلال المفاوضات الثنائية، أو أن حل الدولتين بات ممكنا باقتناع يهبط من السماء على إسرائيل، بل لا بد من فرضه عليها، بما يعني اتخاذ إجراءات تتجاوز الموقف النظري وحسب، ومن ضمن ذلك مطالبة المجتمع الدولي، إن كان بشكل جماعي، أي من خلال الأمم المتحدة، أو بشكل فردي، لأن تسارع الدول إلى الاعتراف بدولة فلسطين، كترجمة لقناعتها بحل الدولتين، فحيث إن إسرائيل قائمة، فإن معنى ذلك الحل هو إقامة دولة فلسطين، وهي الدولة الناقصة لتحقيق الحل، وحتى لترجمة كل قرارات الشرعية الدولية، بدءا من قرار التقسيم 181، ومرورا بقرار المنظمة الدولية الاعتراف بإسرائيل نفسها وضمها كعضو في المنظمة، وليس انتهاء بقرار 2334 لوقف الاستيطان الإسرائيلي، ذلك أن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 67 يعني وقف ذلك الاستيطان وتفكيكه، وبالتالي إزالة عبء عن كاهل البشرية يتمثل في كون ذلك الفعل منافياً للقانون الدولي.
ليس مطلوبا ولا ممكنا بالطبع مطالبة دول العالم، بفرض عقوبات رادعة على إسرائيل تجبرها على الانسحاب فورا من أرض دولة فلسطين المحتلة، وذلك توطئة لإقامة تلك الدولة وتجسيد حل الدولتين على الأرض، لكن يمكن القيام بإجراءات عملية، تبدأ من بعض الدول ذات الوزن والتأثير، بحيث تشق الطريق الذي تعجز إسرائيل بحكومتها المتطرفة وتركيبتها الحالية، وحتى بسبب من أوضاعها الداخلية ومشاكلها العديدة، وأهمها بالطبع تأرجحها ما بين الشرق والغرب، ما بين استحقاقات الدولة المدنية الديمقراطية، ودولة الشرق، حيث كلما ابتعدت إسرائيل عن الغرب وذهبت للاندماج في الشرق الأوسط، اقتربت بنظامها السياسي من أنظمة الشرق الأوسط المستبدة.
الدولة التي تبدو رائدة في هذا السياق، بحكم وزنها الاقتصادي ومكانتها السياسية، والتي باتت تقود العالمين العربي والإسلامي بشكل واضح وقوي وصريح، هي المملكة العربية السعودية، والتي قدمت منذ أكثر من عقدين من السنين مبادرتها المعروفة للسلام، والتي جوهرها مقايضة السلام، الذي يتضمن تطبيع العلاقات بين العالمين العربي والإسلامي مع إسرائيل بانسحابها من الأرض الفلسطينية والعربية المحتلة، أي باختصار أن كل أحلام الإسرائيليين المعلقة بالتطبيع مع السعودية، هي في حقيقة الأمر، تقف عند باب الجواب الإسرائيلي على السؤال السعودي القديم، وهي مبادرة الملك فهد، التي سميت المبادرة العربية، العام 2002.
وطوال عقدين من الزمان تجاهلت إسرائيل ذلك الجواب، بما يعني أنها ترفضه، وقد تجرأت بعد اتفاقيات أبراهام، لدرجة أن تحلم بتطبيع مجاني للعلاقة مع السعودية، وهي تعلم أن ذلك يفتح لها الباب واسعاً لتطبيع واسع وشامل، حيث ستتبع السعودية دول الشرق الإسلامية، مثل إندونيسيا، بنغلاديش وماليزيا، ودول عربية أخرى، أما السعودية، فهي تعمل بالمثل الشعبي الذي يقول «اللي عند أهله على مهله»، وبحنكتها السياسية، حتى وهي تفتح أبوابها أمام مستقبل يجعل منها دولة إقليمية عظمى، بل واحدة من أهم عشر دول في العالم، بإطلاق اقتصادها على قيم ومفاتيح العصر، بعدم الاعتماد فقط على النفط، وتفعل ذلك ليس «نكاية» بجو بايدن، الذي بدأ ولايته السابقة برفع شعارات انتخابية تهدد النظام السعودي، وها هو على أبواب الانتخابات القادمة يمني النفس بدخولها بإنجاز ما هو إلا بيد السعودية بالتحديد.
تدرك السعودية حاجة بايدن العظيمة لإنجاز بهذا الخصوص، من أجل أن يعزز فرصته الضعيفة بالبقاء في البيت الأبيض، كما تدرك حاجة نتنياهو أيضا لتلك الفرصة، حتى يبقي على نفسه في الحكم، ويتجاوز التهديد الداخلي بإسقاطه على خلفية حربه ضد القضاء، لذا فإن السعودية، وكما أشرنا في مقال سابق، وقد تجاوزت فترة سابقة كان فيها ضغط التطبيع عليها أكبر، لم تغلق هذا الباب، حتى لا يعود ضغط عليها، هي بغنى عنه، ولهذا فقد وضعت شروطاً تبدو تعجيزية على الجانب الإسرائيلي، وهي لم تفتح باب التفاوض المباشر مع إسرائيل بعد، ولن تفتحه إلا في حال قدمت إسرائيل تنازلات ملموسة، في الملف الفلسطيني وفيما يخص مطالب السعودية الخاصة.
صحيح أن السعودية، لم تغلق باب السماح ببعض الإشارات العملية أو الميدانية، التي لا تعني بأي حال أن العلاقات صارت طبيعية، أو أنها تسير هكذا بشكل تلقائي، مثل فتح أجوائها للطائرات الإسرائيلية للمرور عبرها، أو حتى مشاركة وزراء إسرائيليين في مؤتمرات أممية تنعقد على أرض المملكة العربية، ومثل هذه الأشياء تحدث مع عمان وقطر، لكن العلاقات بين إسرائيل وكل من الدولتين العربيتين المهمتين، أي عمان وقطر، ليست طبيعية!
ومقابل ذلك فإن السعودية تقدمت بخطوة مهمة للغاية باتجاه الشقيق الفلسطيني، متمثلة بالطبع باعتماد سفير رسمي لها في دولة فلسطين، أعلن مجرد قبول أوراق اعتماده أن بلاده تعمل على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس الشرقية، أي أن السعودية لا تمضي الوقت بالجدل البيزنطي على الطاولات وعبر الوسيط الأميركي، فهي تفرض على الأرض موقفها سلفا، وكما هو معروف، فإن أقل ما تطالب به دولة فلسطين أشقاءها وأصدقاءها، هو أنهم حين يتبادلون مع إسرائيل السفراء، فإنه عليهم بالمقابل أن يفعلوا الشيء نفسه مع دولة فلسطين، وهذا ما سبق وفعلته كل من مصر والأردن، اللتين لهما سفيران لكل دولة في كل من تل أبيب ورام الله.
والسعودية تضع سفيرها أولاً في رام الله، قبل أن يصبح احتمال ظهور سفير لها في تل أبيب ممكنا، وهي من الطبيعي أن ترفع من سعر التطبيع مع إسرائيل، لأنها كما يعلم الإسرائيليون والجميع أن التطبيع معها سيحقق لإسرائيل إنجازاً غير مسبوق، وعلى أي حال فقد حققت فلسطين عبر السفير السعودي لديها إنجازاً، لا بد أن يتبعه تدافع السفراء العرب والمسلمين بالجملة، حتى يكون ذلك حافزاً للدول الأوروبية ومعظم دول العالم التي تؤمن بحل الدولتين، لأن تفعل الشيء نفسه، وأكثر من ذلك يمكن للسعودية أن تقود إجراء فرض حل الدولتين على إسرائيل خطوة خطوة، بتحقيق الخطوة المهمة المتمثلة برفع تمثيل دولة فلسطين في الأمم المتحدة من مراقب لعضو كامل العضوية، وذلك ليس من خلال الاستمرار في مطالبة المنظمة الدولية بتقديم مشروع القرار للجمعية العامة، بل من خلال اعتماد نص مشروع القرار بتوقيع نحو خمسين أو ستين دولة عربية وإسلامية.
أما التطبيع مع إسرائيل ورغم أنه في السياسة دائماً هناك حلول وسط، بين المتفاوضين، فإن السعودية التي قد لا تصر على اشتراط إقامة الدولة الفلسطينية أولاً، فقد قال سفيرها إن بلاده تعمل على إقامة تلك الدولة، لكنها قد تصر على وقف الاستيطان، وكذلك الحفاظ على السلطة بوقف قرصنة أموالها، بل ربما توافق السلطة على «مفاوضات إقليمية»، أي أنها تقبل بنتيجة تفاوض العرب ومنهم فلسطين مع إسرائيل، والسعودية وضعت فلسطين فعلاً في خضم مفاوضاتها حول التطبيع، والسعودية تطالب بمفاعل نووي قد يفضي لامتلاك القنبلة النووية في حال امتلكتها إيران، وتطالب بحلف أمني مع أميركا، وهكذا فإنه ليس أمام نتنياهو إلا إغلاق الباب أو التخلي عن التطرف الداخلي، والشراكة مع بيني غانتس.