أقلام وأراء

رجب أبو سرية: النظام العالمي يخرج من فلسطين

رجب أبو سرية 2023-11-03: النظام العالمي يخرج من فلسطين

في العام 1990 قادت الولايات المتحدة الأميركية، وبهدف تأكيد نظامها العالمي، الذي كان قد ولد للتو من رحم سقوط جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية العالمية، 30 دولة، وشنت حرباً على العراق، لأنه كان قد احتل الكويت قبل ذلك ببضعة أشهر، وحينها انخرط الشرق الأوسط في جدل، اتهمت فيه أميركا بالكيل بمكيالين، ما دفع إدارة البيت الأبيض الجمهورية في ذلك الوقت، إلى عقد مؤتمر مدريد للسلام، ولم يكن عقد ذلك المؤتمر سهلا، فقط اضطر جيمس بيكر، وزير الخارجية الأميركي في ذلك الوقت إلى زيارة تل أبيب العديد من المرات، مترافقا مع ضغط من الرئيس جورج بوش الأب، تضمن التهديد بوقف نحو عشرة مليارات من القروض، كانت واشنطن تنوي منحها لتل أبيب، وهكذا أدى ذلك الضغط إلى جر الليكودي المتشدد اسحق شامير، إلى مدريد وهو كاره، لأنه وجد في الطرف الآخر من الطاولة وفدا أردنيا فلسطينيا مشتركا، يفاوضه على إنهاء احتلاله للأرض الفلسطينية، حتى يمكن التوصل للسلام.

ورغم أن الولايات المتحدة، تفاجأت باتفاق أوسلو، الذي صنعه المفاوضان الفلسطيني والإسرائيلي، إلا أنها باركته وصادقت عليه في حديقة البيت الأبيض، بحضور الرئيس بيل كلينتون الديمقراطي الذي كان قد خلف جورج بوش الأب، وهكذا ترافق البحث عن حل للقضية الفلسطينية مع ظهور النظام العالمي الجديد قبل ثلاثة عقود، ورغم أن مؤتمر مدريد قد غلف بإطار أممي، كذلك تم تشكيل الرباعي الدولي لمتابعة ملف التفاوض الفلسطيني/الإسرائيلي الخاص بالحل النهائي، إلا أن ذلك الملف حظي بالرعاية الأحادية للولايات المتحدة بوصفها زعيم النظام العالمي الجديد، ولأنها تدرك أيضا أهمية هذا الملف المرتبطة بأهمية الشرق الأوسط، الذي كان ومازال أكبر مصدري الطاقة النفطية ومن ثم الغازية في العالم، تلك الطاقة الهامة جدا للدول الصناعية، ولأهم حلفاء أميركا، أي الغرب الأوروبي.

وقد لاح في الأفق احتمال حقيقي للحل، ولإحلال السلام في الشرق الأوسط، وذلك لأن مؤتمر مدريد ومن ثم اتفاق أوسلو، قد تليا أولاً الانتفاضة الشعبية الفلسطينية، التي كانت كفاحاً تحريرياً وكذلك استفتاء شعبياً على رفض الاحتلال، ولم تكن عملاً تخريبياً أو فعلاً جاء من الخارج، كما كانت إسرائيل تصف العمل الفدائي، كذلك تليا انتهاء الحرب الباردة، التي كانت خلالها قضية فلسطين تخضع لحسابات تلك الحرب، وهكذا صار حل القضية الفلسطينية، وجوهره إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لغزة والضفة والقدس، اختباراً حقيقياً للنظام العالمي الأميركي الذي ظهر منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي.

وكما كانت قضية فلسطين اختباراً قبل ذلك للأمم المتحدة، التي كانت إطاراً جامعاً للمجتمع الدولي، تضم بين دفتيها معسكري الحرب الباردة، اللذين حين كانا يتفقان على حل قضية إقليمية فإنها كانت تجد طريقها للحل، وحين كانا يختلفان، يلجأ احدهما إلى استخدام حق النقض (الفيتو)، وهكذا فإن قضية فلسطين تعرضت لاستخدام أميركي لحق النقض 47 مرة، بما يدل على أنها كانت دائماً تحسب على المعسكر الآخر، المقابل للمعسكر الإمبريالي الذي تقوده أميركا.

كان ذلك إبان الحرب الباردة، لكن وحيث أن ثلاثة عقود من نظام عالمي أميركي، لم تكف واشنطن لتجد حلا لقضية فلسطين، بل هي تساوقت مع تل أبيب خلال العشر سنوات الأخيرة، في إغلاق ملف التفاوض، ووقف العمل باتفاقيات أوسلو، والعمل على تجاوز ذلك الملف، بتسويق إسرائيل إقليميا، عبر تطبيع ظالم، لا يعالج أسباب التوتر الإقليمي، وذلك بالبحث عن سلام بين الأعداء، المهم أن واشنطن، قد فشلت بنظامها العالمي الأحادي في إنهاء آخر احتلال في العالم.

هكذا ظهرت أميركا ما بعد الحرب البادرة، غير مختلفة كثيرا عما كانت عليه قبل وخلال الحرب الباردة، أي دولة مسكونة بالعقيدة الامبريالية، بالهيمنة والسيطرة على العالم، ولعل الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة، وقبلها حرب إسرائيل المتواصلة على القدس والضفة، بآخر فصولها، وهو «كاسر الأمواج» المتواصل منذ آذار  العام 2022، قد كشفت عودة الغرب الذي ما زال مسكونا بالنظرة الاستعمارية لدول وشعوب ما كان يسميهم بالعالم الثالث، وذلك حين تشكل التحالف الخماسي، أي أميركا والغرب الأوروبي (أميركا، بريطانيا، ألمانيا، ايطاليا، وفرنسا) لحماية إسرائيل وهي دولة احتلال، ودولة فصل عنصري، وكذلك هي دولة دينية طائفية متطرفة.

وجاءت هذه الحرب، بعد الحرب الروسية الأوكرانية، لتظهر أميركا مجددا تكيل بمكيالين، أي دون معيار العدالة الدولية، فإذا كانت أوكرانيا دولة تعرضت بعض أراضيها لاحتلال روسي، فإن كامل أرض فلسطين محتلة من قبل إسرائيل، أي أن منطق الكيل بمكيال واحد، يفترض أن تجمع أميركا أوكرانيا مع فلسطين، وروسيا مع إسرائيل، فتقف مع فلسطين كما تقف مع أوكرانيا، وتقف ضد إسرائيل كما تقف ضد روسيا، لكنها فعلت عكس ذلك تماما، والأنكى من ذلك أنها سعت في مجلس الأمن إلى أن تحدث انقلابا في معيار العدالة الدولية، حين حاولت أن تأخذ قرارا من مجلس الأمن، يعتبر حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة دفاعا عن النفس، ذلك أن المنظمة الدولية تشرع للشعوب المحتلة مثل الشعب الفلسطيني في غزة والضفة والقدس أن يقاوم الاحتلال بكل الوسائل الممكنة.

ثم واصلت أميركا ممارسة عمى الألوان السياسي، حيث رأت فقط من الحرب يومها الأول، أي يوم السابع من أكتوبر الماضي، حين اخترقت قوات القسام بلدات غلاف غزة، وهاجمت كتيبة غزة، المسؤولة عن التوغلات والاجتياحات والحروب الخمس السابقة، والتي هي عصا الحصار الغليظة، ولم تر واشنطن كل ما تلا ذلك من مجازر ودمار وحرب إبادة، رغم أن كل العالم، اعتبر قطع الماء والكهرباء والاتصالات وإلقاء ما يعادل قنبلة نووية أودت بحياة 30 ألفا بين شهيد وجريح، 70% منهم من الأطفال والنساء، بمثابة جرائم حرب، وطالب إسرائيل في أسوأ الأحوال_وذلك أضعف الإيمان، بالالتزام بقوانين الحرب وبجوانبها الإنسانية.

وحيث لم تشهد كل حروب غزة السابقة، ولا أي حروب داخلية تجري منذ تشكيل النظام العالمي الأميركي، ولا حتى الحرب الروسية الأوكرانية مثل ما تشهده الحرب الإسرائيلية على غزة من تفاعل شعبي، وحتى رسمي لمعظم دول وحكومات العالم، لذا فإن الغرب الأوربي، الذي كان قد أظهر إرثاً استعمارياً في بداية الحرب، تراجع في التصويت في الجمعية العمومية على القرار الذي يطالب بخفض التصعيد واحترام حياة المدنيين، واحتياجاتهم، حين صوتت فرسنا مع القرار، وامتنعت بريطانيا وألمانيا عن التصويت، فيما مشاريع القرارات التي عرضت قبل ذلك على مجلس الأمن، شهدت الانقسام الدولي، حيث استخدمت أميركا حق النقض الفيتو ضد مشاريع قرارات تقدمت بها البرازيل الرئيس الدوري للمجلس، وروسيا، فيما استخدمت روسيا والصين الحق ذاته لعدم تمرير مشروع القرار الأميركي الذي سعى إلى تشريع حرب الإبادة الجماعية، وأن يجعل من المجرم ضحية، ومن المحتل معتدى عليه.

وهكذا فإن فلسطين عادت مجددا لتبدو كمحطة مركزية للعالم بأسره، فيها التقى النقيضان أيام الحرب الباردة، ليمنعا وضع حد للاحتلال، وفيها فشل النظام العالمي الأميركي عن الظهور كنظام عادل، أو على أقل تقدير قدرته على أن يقدم لشعوب العالم، حلماً طال انتظاره بإنهاء معاناة شعب طالت لأكثر من سبعة عقود متواصلة، واليوم يخرج من فلسطين، نظام عالمي جديد، متعدد الأقطاب، أو أنه عالم مختلف عن العالم الأميركي_الغربي، ظهرت معه الأمم المتحدة بمجلس أمنها وجمعيتها العامة منقسمة وغير قادرة على توحيد العالم، رغم أن أمينها العام وكبار موظفيها ومعظم مؤسساتها انتصروا للحق الفلسطيني في الحياة والحرية، وفيما بدت الجمعية العامة كبرلمان الشعوب، ظهر مجلس الأمن كحكومة مستبدة، الكلمة فيه للمستبد الأميركي، ولهذا ظهر متعاكساً دائماً في قراراته مع الجمعية العامة، التي فيها أميركا وإسرائيل أقلية منبوذة عن المجتمع الدولي بمعظمه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى