رجب أبو سرية: الحرب تستنزف أميركا اقتصادياً وسياسياً

رجب أبو سرية 2023-11-10: الحرب تستنزف أميركا اقتصادياً وسياسياً
لا بد من التذكر في البداية، أن الإنهاك الاقتصادي، كان سببا في كسب أميركا والغرب الرأسمالي للحرب الباردة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية التي كانت حليفة له، وذلك لأن سباق التسلح من جهة، وتقديم السوفيات للمساعدات المختلفة، ومنها الأسلحة لحركات التحرر من الاستعمار الغربي، أثقل كاهل الاقتصاد السوفياتي، فيما تقدم ونما اقتصاد ألمانيا واليابان اللتين خسرتا الحرب العالمية الثانية، لأنهما لم يكن يسمح لهما بالاقتراب من حقل السلاح، فيما عوضت أميركا مصاريف سباق التسلح مما كانت تنهبه من ثروات الحلفاء الغربيين، ومما تنهبه من دول العالم الثالث، من دول الخليج وأميركا اللاتينية وأفريقيا.
اليوم وبعد ثلاثة عقود على انتهاء الحرب الباردة، وحيث تغيرت خريطة الاقتصاد الكوني، فإن أميركا وبعد جدل قبل سنين طويلة، خاصة في أوساط المحافظين الجدد، حول تحديد العوالم العدوة، ومن منها للبدء بشن الحرب عليه أولا، بدؤوا بالعالم الإسلامي، باحتلال كل من العراق وأفغانستان، وقد عوضوا ما خسروه من أموال في العراق مما سرقوه من نفطه وثروته، ثم احتاروا في تحديد الحلقة التالية، حيث حددها الرئيس السابق دونالد ترامب بكوريا الشمالية، ثم تراجع، ومع محاولة إسرائيل بدافع يخصها هي إلى أن تدفعهم تحو إيران، اندفع الرئيس الحالي جوزيف بايدن باتجاه روسيا، وصحيح أنه لم يدخل معها الحرب بشكل مباشر، أي عبر قواته العسكرية، لكنه سارع إلى تشجيع أوكرانيا على الحرب، وإغلاق أبواب التفاوض السياسي، ومن ثم تقديم كل أشكال الدعم السياسي والإسناد العسكري، بل ودفع الغرب الأوروبي إلى مشاركته في ذلك.
لكن حرب أوكرانيا التي تهدف بالنسبة للأميركيين إلى تحطيم طموح روسيا بالاستقلال عن الإرادة الأميركية، والخروج من تلك الحالة التي كانت عليها خلال ولاية بوريس يلتسين، التي تلت تفكك الاتحاد السوفياتي، قد كلفت كثيرا الخزانة الأميركية التي ما كادت تخرج من تكلفة كورونا حتى دخلت في دوامة الصرف المالي على الحرب الأوكرانية، والتي بلغت حتى مطلع تشرين الأول الماضي، 46،6 مليار دولار، وحيث إن الحرب لم تنتهِ بعد فإن بايدن طلب مؤخرا من الكونغرس الموافقة على صرف 61،4 مليار أخرى، مع نحو 14 مليارا لإسرائيل، لكن الكونغرس بأغلبية نوابه الجمهوريين فصلوا ما بين حزمة الدعم الإسرائيلية التي يوافقون عليها، والأوكرانية التي يرفضونها ويريدها بايدن، وهكذا ما زالت تلك المنحة التي تخص أوكرانيا معلقة بانتظار غرفة الشيوخ من الكونغرس بأغلبيته الديمقراطية، فيما منحة إسرائيل تمضي قدما.
إن الحرب الروسية الأوكرانية كلفت الاقتصاد الروسي الكثير، لكن روسيا ربحت من الحرب تلك الأراضي التي اقتطعتها من الشرق الأوكراني، كذلك دمرت آلة الحرب الأوكرانية التي كانت تهددها، وربحت قوة سياسية، بعد أن اقتربت من الصين، وشكلت معها قطبا دوليا فاعلا، شجع الكثير من الدول على تحدي أميركا، فيما بات نظام عاملي جديد متعدد الأقطاب بديلا عن النظام العالمي الأميركي أحادي القطب على الأبواب.
أما تلك الحرب فقد كلفت الاقتصاد الأميركي حتى الآن نحو مئة مليار دولار، وحيث إنه لن يكون بمقدور بايدن أن يذهب إلى دول الخليج العربي لتعويضه تلك التكلفة، كما فعل سلفه دونالد ترامب، وفيما ظهرت الحرب مع إسرائيل فجأة لتزيد من أعباء الاقتصاد الأميركي، والذي ليس أمامه من خيار سوى أن يفكر في التعويض من حلفائه الأوروبيين المتعبين اقتصاديا هم أيضا بركود اقتصادي اجتاح معظم دول الشرق والجنوب الأوروبي، كل ذلك يعني أن بايدن أثقل كاهل الاقتصاد الأميركي بسبب حربين شارك بهما.
إن أحد أشكال تداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة، في حال طالت، كما يعتقد الإسرائيليون أنفسهم، فإنها بالتأكيد ستفتح جبهات أخرى، وليس بالضرورة أن تكون على درجة عالية من السخونة، أي المشاركة تماما في الحرب، بتحويلها إلى حرب إقليمية، لكن وكما يفعل اليوم حزب الله، وكما تفعل فصائل أخرى في سورية والعراق، فإن هناك حالة من الاشتباك، هي فوق التهدئة وتحت التوريط، كما اعتادت الجبهة الشعبية أن تفعل قبل العام 67، للحفاظ على عدم جر عبد الناصر لحرب مع إسرائيل قبل أن يكمل استعداده لها، وها هي أميركا ترد اليوم على قصف قواعدها في العراق وسورية، والأهم أن «طوفان الأقصى» قد فرض على بايدن أن يلغي خطته بل أن يتراجع عن إستراتيجيته السياسية في الشرق الأوسط القائمة على الخروج منه.
والخروج الأميركي من الشرق الأوسط، بعد الخروج من الشرق الأدنى، من أفغانستان تحديدا، كان يدفع أميركا إلى ترتيب أوضاع إسرائيل الإقليمية، بالتركيز على ملف التطبيع، حيث كان بايدن يراهن على إعلان الخروج من العراق وسورية نهائيا، بعد توقيع اتفاق تطبيع بين إسرائيل والسعودية، ليدخل به انتخابات الولاية الثانية بثقة.
لكن الحرب الإسرائيلية/الفلسطينية عكست إستراتيجية بايدن رأسا على عقب، فقد طوت صفحة التطبيع مع السعودية، في المدى القصير على أقل تقدير، أي حتى نهاية العام الحالي كما كانت إسرائيل تمني النفس، أي قبل أن تنشغل الإدارة الأميركية بالانتخابات، فيما ازدادت كراهية الشعوب العربية وحتى شعوب العالم بأسره لإسرائيل بعد مشاهدة كل جرائم الحرب وإبادة العائلات والأطفال والنساء، وهذه الحرب – كما أسلفنا – إن دخلت في البعد طويل المدى، أي إن لم تتوقف عند حدود القصف الجوي، والتوغلات البرية المحدودة، ومن ثم الدخول في مفاوضات تبادل الأسرى كما أرادت حماس أصلا، وفي مفاوضات للتوصل لحل الدولتين، كما تريد منظمة التحرير والشعب الفلسطيني بأسره، فإن أميركا ستجد نفسها عالقة في حرب استنزاف عسكرية في الشرق الأوسط، حيث لم تعد «وكيلتها» إسرائيل قادرة على فرض سيطرة الغرب على المنطقة.
أي أن أميركا بعد روسيا، ستجد نفسها قد تورطت مجددا في صراع الشرق الأوسط، إن لم تجد له حلا سياسيا، سعيها له سيضعها في خلاف مع إسرائيل نفسها لأنها يمينية متطرفة، تريد التطبيع مع العرب ولا تريد السلام مع الفلسطينيين، فيما تجاهله قد يفرض عليها مواجهة الجماعات المسلحة التي تملأ المنطقة في حروب استنزاف عسكري ومالي وسياسي.
وإذا كانت حرب استنزاف أميركا وإسرائيل في الشرق الأوسط، قد جرت أمريكا للوحل، فإنه بالمقابل قد خف الضغط عن روسيا، وبمجرد اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس، لم يعد أحد يتابع ما يجري على الحدود بين روسيا وأوكرانيا، وهكذا صار بإمكان روسيا أن تحسم الحرب هناك بسهولة وسرعة، أما الصين فإنها ستواصل نموها الاقتصادي بعيداً عن الاستنزاف العسكري لاقتصادها، وهكذا باتت متأكدة من تجاوز اقتصادها للاقتصاد الأميركي بعد بضع سنوات قليلة قادمة.
هذا مع أنه صار بإمكانها أيضا أن تتحرر من الضغط الأميركي عليها عبر تايوان، بل إنه صار بمقدورها أن تواصل حصار تايوان، وأن تحجم طموحها بمواصلة الاستقلال عن البر الصيني، فيما يؤدي الحصار إلى تراجع الاقتصاد التايواني الذي كان قبل عقود يصدر الكثير للعالم الخارجي، بل وأكثر من ذلك صار بإمكان الصين مع انشغال عدوها اللدود الأميركي في حروب الشرق الأوسط، أن تبقى بجاهزية تامة للانقضاض على تايوان في اللحظة المناسبة، من الزاوية السياسة، لتضمها إليها، وتغلق هذا الملف.
أما تكلفة الحرب في الشرق الأوسط وفي حال لم يتم احتواؤها قريبا، وفي حال تصاعدت بالطبع، فإنها ستكون باهظة على الاقتصاد العالمي، وقد أشارت وكالة أنباء بلومبرغ في تقرير لها قبل أسابيع، إلى أنها قد تبلغ تريليون (1000 مليار) دولار، بسبب انخفاض النمو وارتفاع التضخم، وارتفاع سعر برميل النفط ليصل إلى 150 دولارا، وبالطبع فإن فاتورة أميركا وأوروبا ستكون هي الأكبر من تلك التكلفة، والمؤكد بأن ذلك سيعني إعادة ترتيب مؤكدة للنظام الدولي على الأساس الاقتصادي، حيث حينها ستقتنع أميركا نفسها تماما، بنظام متعدد الأقطاب، بل ربما سيكون منتهى طموحها أن تكون أحد أقطابه فقط.