أقلام وأراء

راغدة درغام: هدنة أم تسوية في لبنان؟ تمنيات أم آليّات؟

راغدة درغام 29-09-2024هدنة أم تسوية في لبنان؟ تمنيات أم آليّات؟

لن يقبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ومؤسسته العسكرية بهدنة تحرمه الاستفادة من زخم تدميره البنية التحتية والطاقم القيادي في “حزب الله”. وبالتالي لن تتوقف إسرائيل عن حملة استهداف أركان الحزب ولا عن القصف المدمر لجنوب لبنان وبقاعه للأيام، وربما للأسابيع المقبلة. الدبلوماسيتان الأميركية والفرنسية تدركان هذا، ولذلك تعطيان إسرائيل المهلة قبل الهدنة فيما تبحث عن آليات التهدئة لفسح المجال للتسوية.

تلك التسوية المعقّدة والمتعددة الأطراف والرعاة تشمل في الطليعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تبحر بين سياسة ضبط النفس restraint واللجم الأميركي لها بحثاً عن صفقة لا تفرض عليها إعادة النظر في أذرعها من الميليشيات والقوات غير النظامية التي تمولها وتسلحها للقيام بمهمات نيابة عنها.

إدارة بايدن باتت إدارة التمنيات. إنها إدارة ترقّب الفرص وليست إدارة الفرض الذي تتطلبه القضايا الكبرى. اكتسبت سمعة العجز لأنها تبنّت منطق الإرضاء والاسترضاء فوجدت نفسها في المقعد الخلفي في عربة يقودها متهورون. وها هي إدارة بايدن تتمسك اليوم بمن ينتشلها من الغرق في طيات حرب إقليمية تنطلق من لبنان لا تريد أن تنجرّ إليها، فوجدت ذلك القاسم المشترك بينها وبين طهران.

للعدل، ما نجحت به إدارة بايدن حتى الآن هو لجم إيران عن التهوّر في حرب مع إسرائيل تضطر الولايات المتحدة إلى الدخول في الحرب بجانب إسرائيل. لم يكن الأمر صعباً لأن إيران منذ البداية لم ترد أن تدخل حرباً مباشرة مع إسرائيل بل اعتمدت أذرعها لهذه المهمة عبر جبهات المقاومة وما أسمته توحيد الجبهات رداً على العدوان الإسرائيلي على غزة.

إيران تملّصت من حركة “حماس” في أعقاب مغامرتها في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وها هي تقول اليوم بلسان أمثال نائب الرئيس محمد جواد ظريف إن دعم حقوق الفلسطينيين لا يعني أن على إيران خوض الحروب نيابة عنهم. القادة الإيرانيون يشيرون الآن إلى سأم الشعب الإيراني من الفلسطينيين وقضيتهم والناس، كما يقولون، يريدون من حكومتهم الاعتناء بهم وباقتصادهم وبمعيشتهم، وليس بعقيدة كلّفتهم غالياً.

هذا جديد يكشف أن تغييراً طرأ على أركان الحكم في طهران بحيث إن الأولوية تبقى للاحتفاظ بالقدرات النووية، لكن السياسة الإقليمية تتطلب التأقلم مع المعطيات والتطورات، وربما بعض التضحيات. طليعة التأقلم إعادة النظر في علاقات طهران بأذرعها إذا أرادت أن تتوصل إلى تلك الصفقة الكبيرة مع الولايات المتحدة التي تؤدّي إلى رفع العقوبات تدريجياً عنها وإلى تطبيع العلاقات الأميركية – الإيرانية.

إدارة الرئيس الديموقراطي الأسبق باراك أوباما رضخت كلياً لإصرار طهران على استبعاد سلوكها الإقليمي عن المفاوضات النووية، فأعطتها بذلك شيكاً مفتوحاً للتدخل في الدول وطمس سيادتها عبر الميليشيات التابعة لها في العراق وسوريا واليمن ولبنان. إدارة بايدن مضت في السياسة ذاتها، لا سيما أنها كانت غاضبة جداً من إدارة دونالد ترامب التي مزّقت الاتفاقية النووية مع إيران وأصرّت على تحدي أذرعها وسلوكها الإقليمي.

الاتفاق السعودي – الإيراني دفع طهران إلى لجم الهجمات الحوثية على السعودية. هذا إنجاز مقارنة بالجهود الأميركية التي فشلت في دفع طهران إلى التأثير الفعلي على الحوثيين لوقف هجماتهم على السفن وحرية الملاحة في البحر الأحمر. العراق بالغ التعقيد في طيّات العلاقة الأميركية – الإيرانية ويستحق تكريس مساحة له لاحقاً.

المفاجأة الكبرى أتت من تملّص القيادات في طهران من “حزب الله” والتخلي عنه في عزّ حاجته لها أمام انهيار بيئته القيادية العسكرية بضربات إسرائيلية نوعية وغير مسبوقة. إيران، بجميع قياداتها، اتخذت موقف الادعاء أن “حزب الله” قادر على الدفاع عن نفسه بنفسه.

وفيما كانت إسرائيل تقصف الجنوب اللبناني وتستهدف قيادات الحزب في الضاحية الجنوبية لبيروت، كان الرئيس الإيراني ووزير خارجيته ووفده الكبير يفاوضون الوفد الأميركي في نيويورك على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة بهدف التهدئة في العلاقات الثنائية والتعاون مع الغرب عامة برسالة واضحة: إيران لا تريد أن تحارب أيّ دولة.
للمرة الأولى، وبسبب التطورات على الساحة اللبنانية، طرحت إدارة بايدن بقوة ضرورة تغيير الجمهورية الإسلامية الإيرانية سلوكها الإقليمي وأن تستخدم نفوذها مع “حزب الله” – ومع الأذرع الأخرى – لمنع الانزلاق إلى حرب إقليمية كأولوية. طلبت أيضاً من إيران الفرض على “حزب الله” القبول بالانسحاب إلى شمال الليطاني كما ينص القرار 1701، والتوقف عن استهداف إسرائيل بالصواريخ، والكف عن التعهّد القاطع بمنع عودة سكان شمال إسرائيل إلى منازلهم كما أوضح الأمين العام للحزب حسن نصر الله في خطابه في أعقاب عمليات “البيجر” والاتصال اللاسلكي ضد طواقم “حزب الله”.

المفاوضات غير المباشرة بين الأميركيين والإيرانيين في نيويورك هدفت إلى تفاهمات كبرى تؤدي إلى لقاءات مباشرة إذا وافقت إيران على أن تلطّف عقيدتها وتتحول من دولة عدائية إلى دولة محايدة، والقيام بما يؤدي إلى وقف النار في غزة من خلال تأثيرها على “حماس” وإلى وقف حرب لبنان من خلال ممارسة نفوذها على “حزب الله”. المكافأة الأميركية في المقابل تدخل في خانة رفع عقوبات وتفاهمات نووية وفك العزلة عن إيران.

بحسب التفكير الأميركي، إذا أثّرت طهران على “حزب الله” وأقنعته بالهبوط من أعلى الشجرة والموافقة على الانسحاب إلى شمال الليطاني وتحييد ترسانته العسكرية، فستستطيع إدارة بايدن إقناع إسرائيل بوقف عملياتها العسكرية في لبنان والتوقف عن استهداف طواقم الحزب وأركانه إلى ما لا نهاية.

الأطروحات الأميركية – الفرنسية تنطلق من إدراك مستوى الحرج والخجل لإيران إزاء مشاهدة تدمير إسرائيل أغلى مقتنياتها المتمثلة في “حزب الله”، وكذلك إزاء عدم قدرة إيران على خوض حرب ضد إسرائيل بعدما قوّضت إسرائيل قدرات الحزب العسكرية بصميمها.

إنها اللحظة المواتية لإغراء إيران بمكافآت لأن تضحيتها بالجناح العسكري لـ”حزب الله” لم تأتِ بقرار منها، بل فُرِضت عليها. ثم إن إيران لن تضحي بـ”حزب الله” ككيان سياسي. فهي تريده أن يبقى مثل طائر الفينيق الخرافي الذي يجدد نفسه بنفسه مراراً وتكراراً، برعايتها.

إيران، بحسب مصدر مقرب منها، لن تتدخل في حرب إسرائيل على “حزب الله”، لكنها ستتدخل إذا قامت إسرائيل بعمليات برية في بيروت. هذا لافت لأن الجنوب يبدو ليس بالأهمية ذاتها كما بيروت بالنسبة إلى طهران الآن. هذا لغز صعب تفكيكه قد يكون منطقه عائداً إلى اضطرار طهران أن تضع خطاً أحمر، فاختارت بيروت.

ماذا عن إسرائيل؟ نتنياهو معروف بغروره وحماقته، وهو الآن في ذروة الثقة بالنفس في أعقاب عملياته العسكرية النوعية ضد “حزب الله”. لا يبالي نتنياهو بعدوانه على المدنيين وتهجيرهم وتحويل جنوب لبنان إلى شبه غزة بتدمير عشوائي ومنهجي. لم يعد هدفه موافقة “حزب الله” على الانسحاب إلى شمال الليطاني وتحويل تلك المنطقة حتى الحدود مع إسرائيل إلى منطقة عازلة. لقد قرر فرض الحزام الأمني رغماً عن “حزب الله” عبر تحييد قدرات الحزب وإجباره على تنفيذ القرار 1701 بشقه اللبناني.

نتنياهو يفرض الآن معادلة جديدة على “حزب الله” وعلى كل الوساطات لوقف النار وهي: العودة الآمنة لسكان شمال إسرائيل إلى بيوتهم بضمانات دولية. سيستمر في عدوانه على لبنان، وليس فقط في استهدافه “حزب الله”، إلى حين تحقيق أهدافه: تحييد “حزب الله” وضمان عودة سكان شمال إسرائيل إلى ديارهم. وهذا سيستغرق وقتاً أطول من هدنة 21 يوماً أو تهدئة لشهر أو شهرين.

المشهد الدبلوماسي المتفائل بهدنة تتيح لوزير الخارجية الفرنسي الذي يتوجه إلى لبنان مطلع هذا الأسبوع يليه المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين لأن يعملا على تهدئة ثم تسوية إنما هو مشهد يدخل في خانة التمنيات وليس في خانة الآليات الفاعلة. إدارة بايدن لم تتمكن من فرض وقف النار في غزة بعد 11 شهراً وهي الآن على عتبة ذكرى 7 تشرين الأول تلهث وتتوسّل جميع الأطراف بلا نتيجة.

زمام المبادرة يبقى في يد إسرائيل ما دامت تتدفق إليها المساعدات العسكرية الأميركية وما دامت تتعهد إدارة بايدن خوض الحرب بجانبها إذا توسعت إلى حرب إقليمية. وزمام المبادرة يبقى في يد إيران ما دامت لا توافق على الفصل بين لبنان وغزة وتصر على استخدام لبنان جبهة مساندة لغزة كي لا تضطر أن تقوم هي بالحرب نيابة عن الفلسطينيين.

الحركة الدبلوماسية المكثفة في الأمم المتحدة الأسبوع الماضي لربما نجحت في شق سكة منفصلة للتعامل مع التطورات في لبنان بمعزل عن غزة عبر المبادرة الأميركية – الفرنسية وعبر الدعم العربي والأوروبي لهذه المبادرة. لكن آليات هذه الدبلوماسية تبقى خجولة وبطيئة. ذلك أن الزخم الدبلوماسي بقي بلا أسنان واكتفت الدول بالعواطف المتدفقة نحو لبنان، وليس نحو “حزب الله”.

حقيقة الأمر أن معظم الدول أرادت إعطاء إسرائيل فرصة الانتهاء من مهمة تدمير بنية “حزب الله” لأن الحزب هو الذي عطّل ويعطّل تنفيذ القرار 1701 وهو الذي قلّص سلطة حكومة لبنان وسيادته فكبّل أيدي الدول التي أرادت الدفاع عن لبنان. في عام 2006 وبعدما كابر “حزب الله” زاعماً النصر الإلهي، توجه إلى الأمم المتحدة عبر قطر وغيرها ليقول: أنقذونا. صدر القرار 1701 وكان إنقاذاً للحزب، لكنه وإسرائيل أيضاً ضربا بـ1701 وبسيادة لبنان عرض الحائط، وها هما يغتصبانه مرة أخرى.

ستحتاج إسرائيل، كما “حزب الله”، إلى التهدئة عاجلاً أم آجلاً، وقد تكون في طيّات هذه النقلة النوعية في الحرب بينهما مساحة لتسوية نوعية. “حزب الله” خاسر الآن وهو في حاجة للرجوع إلى الوراء لأن قدراته تجبره على ذلك. إسرائيل خاسرة ما دامت متورطة في حرب على لبنان وحرب على غزة وهي أيضاً ستحتاج إلى هدنة وتهدئة ثم تسوية عاجلاً أم آجلاً.

لعله تفكير شرير ذلك الذي يتوجه إلى التساؤل: لماذا قررت إيران الاكتفاء بمراقبة تدمير إسرائيل “حزب الله” مع أنه أثمن ورقة لديها. لعله تفكير شرير ذلك الذي يشير إلى حركة دولية بلا بركة مقصودة لشراء الوقت ريثما تقضي إسرائيل أكثر فأكثر على البنية العسكرية لـ”حزب الله”. لعل تلاقي الأمرين ليس صدفة بل هو في إطار التمهيد لعودة إيران إلى الساحة الدولية دولة محايدة معززة وليس دولة معزولة محلها في الإعراب استخدام أذرع لها لتقويض سيادة الدول المجاورة، إذا صدقت حقاً في أنها تتحوّل وتتغير.

بقي أمر مهم وهو أنه مهما بلغت نشوة نتنياهو بانتصاراته، فإن إسرائيل ستبقى في حال حصار وعزلة ما دامت تفرض أمراً واقعاً تلو الآخر عبر الغارات والتهجير. لو كانت قيادة إسرائيل حكيمة لوافقت على فسح المجال للهدنة لأن الظروف ملائمة للتسوية مع لبنان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى