راغدة درغام: الصراع الوجودي بين يحيى السنوار وبنيامين نتنياهو: عجز عربي وأميركي عن التأثير عليه
راغدة درغام 24-3-2024: الصراع الوجودي بين يحيى السنوار وبنيامين نتنياهو: عجز عربي وأميركي عن التأثير عليه
تضيق الفجوة ثم تتسع لتضيق مكرراً فيتضاعف الخوف من فشل الجهود الديبلوماسية الرامية الى هدنٍ في حرب غزة يرافقها العمل على أسس لتسوية دائمة وما يترتب على الفشل من عواقب وتداعيات فلسطينية وإقليمية ودولية. ما زال الأمل بنجاح الديبلوماسية حيّاً لأن المعالجة العسكرية مكلفة للجميع، ولأن بين طيات تعنّت كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس حركة المقاومة الإسلامية، “حماس”، في غزة يحيى السنوار معركة وجودية للرجلين ولمنطق التطرف الإسرائيلي والفلسطيني الذي يؤمن كل منهما بأنه السبيل لتحقيق أهدافه العقائدية.
المشكلة الرئيسية هي أن لا أحد يمون فعلاً على نتنياهو أو على السنوار في هذا المنعطف من حرب غزة. لا إدارة الرئيس جو بايدن قادرة على استخدام أدوات النفوذ لديها للفرض على نتنياهو وحكومته ما تعتبره في المصلحة الإسرائيلية والأميركية والإقليمية لأن الشعب الإسرائيلي يدعم هدف القضاء على “حماس” وسحق قياداته العسكرية، ولأن هذه سنة انتخابية ستكلف الحزب الديموقراطي الرئاسة إذا أخطأ. ولا مصر أو قطر أو تركيا- وربما لا إيران أيضاً- قادرة على الضغط على السنوار ليضع المصلحة الوطنية الفلسطينية فوق معركته الوجودية ومعركة “حماس” العقائدية لأن الرجل يعتبر الرهائن الذين أُسِروا في 7 تشرين الأول (أكتوبر) ورقة التفاوض المصيرية له ولحركته وللمستقبل الفلسطيني كما يراه.
وهنا المعضلة. هنا العصا في دواليب الديبلوماسية التي أدّت بوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن للعودة للجولة السادسة الى الشرق الأوسط متأبّطاً باللطف والنعومة في الأداء الديبلوماسي والسياسي مع جميع الأطراف المعنية، آملاً بأن يتمكن من إنجاز تلك النقلة النوعية التي يمكن للرئيس جو بايدن أن يتأبّطها في حملته الانتخابية مثالاً على نجاحه. بلينكن بات يخشى من طموحاته ومن آماله بتلك الصفقة الكبرى Grand bargain التي تأتي مراراً في أعقاب حدث ضخم مثل حدث 7 أكتوبر الذي تصوّره وصمّمه ونفذه يحيى السنوار. لذلك قلّص بلينكن تطلعاته وأهدافه الى الاكتفاء بإيجاد حلول انتقالية ومؤقتة عبر الضغوط الناعمة خوفاً من أن تؤدي الضغوط الصارمة الى نتائج عكسية للإدارة الأميركية.
وصل وزير الخارجية الأميركي الى المنطقة عبر البوابة العربية متأبّطاً استعداد إدارته لدعم مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي يدعو الى وقف النار- وهذا لأول مرة منذ أن دأب البيت الأبيض على منع مجلس الأمن من تبني أي قرار يدعو الى وقف النار في غزة، ولاقى انتقادات عالمية وكذلك محلية قد تكون مكلفة له انتخابياً.
من ناحية، شكّل ذلك الاستعداد مؤشراً على اتساع الفجوة بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو. إنما من ناحية أخرى، حرصت الديبلوماسية الأميركية على الربط بين وقف النار وبين إطلاق سراح الرهائن، وهذا الربط المتين بين الاثنين هو رسالة الى الدول العربية التي تريد وقف المجزرة الإسرائيلية بحق المدنيين الفلسطينيين، لتقول لها: الطابة ما زالت في ملعبكم والرهائن ما زالوا المفتاح الأساسي الى وقف النار في السياسة الأميركية الثابتة.
المعضلة تكمن بأن يحيى السنوار هو الذي يمتلك ورقة الرهائن والتي يريدها للمقايضات الكبرى التي تخدمه وتخدم أهدافه. المعضلة أن السنوار يرفض أن يستمع الى ما تريده قطر أو تركيا أو حتى مصر وإيران. وبحسب مصادر مطّلِعة على تفكير قيادة حماس في غزة، ما تقايض عليه بالرهائن وما تطالب به هو الحصول على ضمانات- وليس فقط وعود وتعهدات- بالأمور الثلاثة التالية: استمرار وجود حماس. وقف العمليات الإسرائيلية ضد حماس. دور لحماس في حكم غزة.
بكلام آخر ما تريده حماس هو ضمانات وجودية في الوقت الذي ما تريده إسرائيل هو سحق وجودي لحماس في غزة أو تصدير جميع المقاتلين في حماس الى قطر، مصر، أو تركيا- الأمر الذي لا يبدو سهلاً أو وارداً.
أما الطرح الأميركي فإنه ينطلق من أن على العرب ضمان تعاون حماس وموافقتها على حل وسط قوامه نزع سلاحها في رفح، وانسحاب جميع القوات المسلحة وهي بالآلاف انسحاباً منظماً خارج رفح بالذات وغزة عموماً كمفتاح أساسي لإنقاذ المدنيين. فإدارة بايدن توافق حكومة إسرائيل على إنهاء الوجود العسكري لحماس. إنما كيف؟ هوذا السؤال. الانسحاب الى أين؟ هذا هو السؤال.
المعادلة البديلة عن عمليات عسكرية إسرائيلية إبادية في رفح للتخلص من البنية التحتية العسكرية لحماس هي، في رأي الأميركيين، أن يمارس العرب ضغوطهم لإقناع يحيى السنوار بالموافقة على المغادرة، وتسليم الرهائن كي يُنقذ هو المدنيين الفلسطينيين من الإبادة ومن التهجير القسري.
فإما الهلاك التام لأن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تضغط على نتنياهو لينفذ عملية التدمير الكامل لحماس حتى النهاية، وذلك بدعم شعبي إنما مع تحفظ البعض الذين يخشون على مصير الرهائن في حال الحسم العسكري. وإما نجاح الدول العربية بإقناع يحيى السنوار بأن المتاح أمامه هو فرصة إنقاذ حماس من الهلاك لإعادة ترتيب بيتها للتأهل لاحقاً للمشاركة في حكم غزة بعدما تتحوّل الى كتلة مدنية تشارك سياسياً في حكومة ما بعد الحرب.
المعضلة أن القادة العرب غير قادرين على التأثير في يحيى السنوار- فهو ليس في مزاج الاستماع اليهم بالرغم من أنه في ورطة. بل انه ليس مقتنعاً بأنه في ورطة لأنه يعتبر ورقة الرهائن كنز في أياديه لا يريد التفريط به- وهو يعتبر أن نتانياهو في ورطة.
ما يقدمه القادة العرب لجهة التأثير في الجانب الفلسطيني ليس حماس وإنما هو إعادة إحياء السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية بضرورة إصلاحها وتمكينها كسلطة معتدلة يتم تأهيلها لأخذ زمام المسؤولية في إدارة غزة ما بعد الحرب.
كان واضحاً أثناء زيارة بلينكن الى القاهرة واجتماعاته السداسية أن الأولوية المصرية هي التصدّي لتهجير الفلسطينيين من غزة الى سيناء. هذا كابوس تخشاه مصر وكذلك الأردن الذي يرى أن نجاح التهجير القسري من غزة الى سيناء يعني نجاح خطط التهجير القسري من الضفة الغربية الى الأردن الذي يسميه الإسرائيليون الوطن البديل للفلسطينيين.
القادة العرب أبلغوا بلينكن خوفهم ليس فقط من التهجير وإنما من توسّع الحرب. أبلغوه جهوزيتهم للسلام والتطبيع الجماعي مع إسرائيل بكل ما في ذلك من فوائد وبضمانات أمنية. قالوا له إنهم على استعداد لخريطة طريق الى التسوية الدائمة التي تؤدّي الى دولة فلسطينية قد لا تكون تلك التي كان يتصورها العالم قبل عقود إنما دولة قادرة على التعاطي الجدّي مع إسرائيل تضمن الاستقرار الفلسطيني الداخلي. دولة قائمة على الإصلاحات والشفافية ومشاركة الجيل الجديد ببنائها. دولة إذا كان لحماس دور فيها، فإنه دور لحماسٍ يكون قد تم إعادة اختراعها وتحييدها.
واقع الأمر ان سلاح “الفيتو” على كل هذه التطلعات ما زال اليوم في يد كل من يحيى السنوار وبنيامين نتنياهو. لا القادة العرب قادرون على deliver ضمان السنوار، ولا إدارة بايدن قادرة على ضمان نتنياهو. إنها معارك بين المصير السياسي لكل من الرئيس الأميركي جو بايدن ونتنياهو، وهي معارك المصير الوجودي بين السنوار ونتنياهو. لا أحد جاهز للانتحار. الضمانات المطلوبة تكاد تكون مستحيلة لكن الحديث عن المقايضات لم ينتهِ بعد وعنوانه الرئيسي هو الرهائن مقابل وقف النار.
السنوار يريد أن يكون مالك قرار الحرب والسلم للفلسطينيين في غزة، وهو قد استنتج أثناء سجنه أن الورقة الأثمن للمقايضات مع إسرائيل هي احتجاز الرهائن. وهذا ما كان في طليعة استراتيجيته في 7 أكتوبر إيماناً منه أن إسرائيل ستخضع لإملاءاته، وأن الكلفة الإنسانية الضخمة للفلسطينيين من قتلى وجرحى ومهجّرين هي من أجل هدفٍ أكبر.
فكيف سيقايض السنوار؟ حتى الآن، إنه يضع مصيره الوجودي ومصير حماس فوق مصير الشعب الفلسطيني الذي دفع الثمن. فالسنوار يراهن على التحول في الرأي العام الأميركي، وعلى الرأي العام الإسرائيلي ومعارضته لنتنياهو. انه مخطئ في كلا الرهانين.
عملية 7 أكتوبر نفّذت طموحات متطرفة لإسرائيل أبرزها التهجير من غزة وتدمير ساحق للمباني- فإلى أين سيعود أهل غزة، ان لم يكن قد تم دفعهم الى سيناء ودول عربية، قسراً أو تفاهماً بالرغم من علو صوت الرفض القاطع الآن؟
كلام جاريد كوشنر صهر الرئيس الأسبق دونالد ترامب يقشعر البدن لأنه هو الذي سيتولى ملف الشرق الأوسط إذا عاد ترامب الى الرئاسة. كوشنر يتباهى بما سمّي “صفقة القرن” وأسفر عن التطبيع بين إسرائيل وعدد من الدول العربية وفي مقدمتها الإمارات. انه يتحدّث الآن بلغة “سرقة القرن” عندما يدعو الى تحويل شاطئ غزة الى أهم استثمار سياحي الى جانب ثروة النفط والغاز الضخمة إنما يقرن ذلك بضرورة تحويل أهل غزة الى صحراء النقب والى دول عربية، وليس الى بيوتهم وأملاكهم على شاطئ غزة. انها عملية سطو تاريخية تلك التي يتحدث بها رجل الاستثمارات الذي لا يخفي ولاءه لإسرائيل على حساب الفلسطينيين الذين وقعوا ضحية حسابات السنوار في عملية 7 أكتوبر.
السباق بين الديبلوماسية والحسم العسكري ما زال على أرجوحة. تارة يرتفع الأمل بالتوصل الى هدنة أو استراحة محارب يتم خلالها صياغة وتهيئة وتجهيز أسس السلام الدائم. وتارة ينخفض التفاؤل ويشتد الخوف والقلق. انها مرحلة البحث في “البدائل” عن عملية برية في رفح تعطي إدارة بايدن ذخيرة للقول إنها تمكنت من النجاح، مهما كان نسبياً أو عابراً. فالمهم وقف النزيف والجوع وإراقة دماء المدنيين الفلسطينيين. أما العمليات العسكرية الجراحية الإسرائيلية فهي مستمرة بهدف “تنظيف” رفح من حماس وقادتها وحلمها القضاء على السنوار.