راغدة درغام: أميركا وأوروبا انحرفتا بعيداً من طهران وإيران الغاضبة جاهزة للاستباق عسكرياً
راغدة درغام 27-11-2022م: أميركا وأوروبا انحرفتا بعيداً من طهران وإيران الغاضبة جاهزة للاستباق عسكرياً
حدث تغيير في مزاج الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والجمهورية الإسلامية الإيرانية في الآونة الأخيرة، أحد أهم أسبابه انخراط إيران مع روسيا عسكرياً في الحرب الأوكرانية، واضطرار أوروبا للاعتراف علناً بأنها تأخرت في فهم الخطر الإيراني الإقليمي والعالمي، وازدياد المخاوف من قدرات طهران النووية والسيبرانية مع ارتفاع نبرة التعهدات الإسرائيلية والأميركية بمنع إيران أن تتحوّل الى دولة نووية.
النظام في طهران غاضب ومتأهّب وجاهز لاختلاق أزمة كبرى تحوّل الأنظار عن متاعبه الداخلية. غاضب من انحراف أوروبا وإدارة جو بايدن بعيداً من الاتفاقية النووية JCPOA التي كانت ستؤدّي الى رفع العقوبات عن إيران وتمكين النظام من تنفيذ برنامج النهضة الاقتصادية والهيمنة الإقليمية. متأهّب بخطة عسكرية، إما ضربات استباقية على إسرائيل، أو للرد على عمليات عسكرية إسرائيلية ضد إيران إذا قرّر رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد بنيامين نتنياهو اعتمادها. الدول الأوروبية مبعثرة في سياستها الإيرانية- فهي أدركت أنها أخطأت لكنها لم تضع بعد استراتيجية استدراك.
إدارة بايدن مستاءة من إفشال طهران للاتفاقية النووية بشروطها التعجيزية للوكالة الدولية للطاقة الذرية. كما أنها غاضبة من دخول إيران طرفاً مباشراً في الحرب على أوكرانيا بجانب روسيا ضد الغرب ما يجعل العودة الى التفاوض لإحياء الاتفاقية النووية شبه مستحيل الآن. التحدّي أمام إدارة بايدن من تصنيع القنبلة النووية- مع ازدياد اقتراب إيران من تصنيع القنبلة -الأمر الذي تعهّد الرئيس جو بايدن بمنعه- ووسيلة تجنّب جرّ إسرائيل لها الى حرب مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
أثناء انعقاد “حوار المنامة 2022” الأسبوع الماضي، كان واضحاً أن القيادات الأوروبية والبريطانية والأميركية توجّهت الى البحرين متأبطة رسالة أساسية للدول الخليجية العربية هي: نحن هنا ولن نهجركم. منسّق السياسة الأميركية لشؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، بريت ماكغورك، كرّر مازحاً ما يُقال في الأوساط العربية: أميركا عادت، إنما لأية فترة من الزمن؟ America is back but for how long? قال ذلك ليعبّر عن تفهّمه للمزاج العربي الخليجي لكنه سارع الى شرح التغيير في المزاج السياسي الأميركي نحو الخليج وعرَضَ الاستثمارات الأمنية الضخمة الجديدة، وقال: ليس من الحكمة أن تكونوا ضد الولايات المتحدة في الوقت الذي نقوم فيه بالاستثمار العميق في هذه المنطقة.
أضاف، أن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط ليست فقط براغماتية وإنما هي أيضاً “طموحة” على أساس خمسة مبادئ هي: الشراكة، الردع، الدبلوماسية، التكامل والقيم. واعتبر ماكغورك أن هناك “موجة تغيير جذري” Sea change في نظرة العالم الى إيران في الآونة الأخيرة.
رسالة وكيل وزارة الدفاع الأميركية، كولن كال، الى الدول الخليجية العربية كانت لافتة لأنها ركّزت على إقناع هذه الدول بأن لا خيار بديل لها عن الولايات المتحدة الأميركية لأن روسيا ليست البديل ولا الصين هي البديل. قال إن لا مانع من تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الصين وغيرها، لكن العلاقة الأمنية الأساسية والمستمرة يجب أن تكون مع الولايات المتحدة لأن إدخال درجة معينة من التعاون الأمني مع الصين سيشكّل تحدّياً للعلاقة الأمنية الدائمة مع الولايات المتحدة.
ما تحدّث عنه المسؤول الكبير من البنتاغون هو “تنافس الكُتَل” اليوم وليس “تنافس الدول”. عرض الرؤية الأميركية القائمة على “الردع التعاوني” أو الردع المشترك collaborative deterrence في شراكة وآليات تستثني تواجد القوات الأميركية في ميدان القتال، واعتبر أن الشراكة الاستخبارية أساس مهمّ في الردع والتصدّي في إطار الهيكل الأمني الإقليمي. أما قائد القوات الأميركية المشتركة، الجنرال اريك كوريلا، فإنه عرض الإبداع التكنولوجي العسكري، مؤكداً أن “ثقافة الإبداع” والذكاء الاصطناعي تشمل العمل عن كثب مع “شركائنا” في الشرق الأوسط بوسائل جديدة ومفهوم جديد للأمن لضمان الاستقرار في المنطقة. وكما في كلام ماكغورك وكال، حرص الجنرال كوريلا على تكرار كلمة “معاً” عند مخاطبته الدول الخليجية العربية.
الجديد الذي برز مؤخراً هو التحوّل نحو إيران، أميركياً وأوروبياً، من اعتبارها خطراً اقليمياً الى تصنيفها خطراً عالمياً. التحوّل المهمّ يكمن أيضاً في الاحتياجات والاعتماد. الجديد هو أن الغرب اليوم هو الذي يحتاج ويعتمد على تعاون الدول الخليجية العربية، فيما بالأمس القريب كانت هذه الدول تعتمد أمنياً على الولايات المتحدة والدول الأوروبية.
رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين التي افتتحت “حوار المنامة” اعترفت “أن العديد من دول الخليج حذّرت منذ سنوات من خطر قيام إيران بإمداد الدول المارقة والخارجة عن القانون في كل أنحاء العالم بطائرات من دون طيار”. وقالت: “لقد استغرقنا وقتاً طويلاً لفهم حقيقة بسيطة للغاية وهي، أنه بينما كنا نعمل على منع إيران من تطوير أسلحة نووية، كان يجب علينا عدم الإغفال عن انتشار الأسلحة الأخرى، من الطائرات من دون طيار والصواريخ الباليستية. انه خطر أمني ليس فقط على الشرق الأوسط ولكن علينا جميعاً”.
أوروبا التي كانت منبطِحة في أحضان الجمهورية الإسلامية الإيرانية في المفاوضات النووية وأمام إصرار طهران على استبعاد الحديث عن السلوك الإقليمي والصواريخ والطائرات المسيّرة، هذه “الأوروبا” ذاتها التي تتحدّث بلغة الاعتراف بالخطأ اليوم، لكنها ما زالت بلا استراتيجية متماسكة نحو إيران. ما أثمرته أوروبا نتيحة صدمتها من دخول إيران طرفاً عسكرياً بمسيّرات وصواريخ بجانب روسيا في ميدان الحرب على أوكرانيا هو أنها أثارت غضب رجال طهران الذين ينظرون الى أوروبا اليوم أنها “خائبة” شأنها شأن الإدارة الأميركية. وإيران مستاءة جداً لأنها مطوّقة من الداخل غير قادرة على إيقاف الاحتجاجات الشعبية بالرغم من وسائل القمع، ومطوّقة من الخارج بسبب الانعطافة الأميركية والأوروبية بعيداً منها.
لكن إيران المطوّقة والمرتبكة لا تشعر بأنها ضعيفة لا سيّما أنها فاجأت العالم بمستوى تطوّرها عسكريّاً لدرجة استعانة روسيا بمسيّراتها وصواريخها. إنها واثقة من قدراتها وهي “جاهزة”، كما أكد أحد المقربين من صنع القرار في طهران واصفاً حكام إيران أنهم بدأوا “يفقدون أعصابهم” بعدما “فقدوا الأمل” خلال الأسبوعين الماضيين. وأشار الى امتلاك إيران تكنولوجيا صواريخ مشابهة لتلك التي تمتلكها كوريا الشمالية، مؤكداً أن لدى إيران صواريخ بعيدة المدى قادرة على وصول إلى مواقع في إسرائيل وأن قدرات إيران الصاروخية أقوى من قدرات إسرائيل، بحسب معلوماته.
خلاصة ما يؤكده صنّاع القرار في إيران، أو ما يسرّبونه للإيحاء به، هو التالي: أولاً، إن إيران أكملت خططها للحرب، وأن الحرب هذه المرة لن تأتي كمفاجأة لأن الخطط والاستعدادات تم وضعها في انتظار الحرب. ثانياً، إن الحرب قد لا تنتظر الاستفزاز الإسرائيلي وإنما قد يُقرَّر لها أن تكون استباقية بهدف تدمير البنية التحتية الإسرائيلية. فالقراءة الإيرانية هي أنه في حال شن ضربات عسكرية استباقية قاضية مباشرة من إيران وعبر “حماس” في غزة، فإن إسرائيل لن تمتلك الوقت اللازم للرد بضربة قاضية على إيران. وثالثاً، إن القدرات الإيرانية السيبرانية والتكنولوجية ستمكِنها من هجمات قرصنة فاعلة ضد الأجهزة الإسرائيلية والأميركية أيضاً. فالحروب هذه الأيام لم تعد جوية وأرضية وإنما هي تكنولوجية بامتياز ما يجعلها حروباً محلية ذات عواقب لا يمكن التنبؤ بها.
ما يقوله صناع القرار الإيراني للذين يثقون بهم هو أن لديهم خططاً مختلفة لضربات مختلفة داخل إسرائيل في هجوم متعدّد المواقع والوسائل Multiple Strike. تقويمهم هو أن الولايات المتحدة لن تنخرط في حرب مع إيران مهما كانت الأسباب بسبب انشغالها بالحرب الأوكرانية ولأن أميركا لا تريد الانجرار الى الحروب. وعليه، إن إسرائيل لن تنتقم من إيران إلا في حال ضمانها مئة في المئة أن الولايات المتحدة ستكون شريكاً لها- وهذا في رأي الإيرانيين مستبعد جدّاً.
رأي رجال الدين في طهران هو أن في إمكان الجمهورية الإسلامية الإيرانية تدمير دولة إسرائيل أو “الكيان الصهيوني” من خلال تدمير البنية التحتية الإسرائيلية بسرعة ساعات. فإيران لا تسعى وراء احتلال الأراضي في إسرائيل، وهي ستتجنّب توجيه ضربات ضد القوات الأميركية في سوريا. فاستراتيجيتها مركزة ولديها ما يلزم من الصواريخ المتفوقة والمسيّرات لشن حرب استباقية متعددة الجبهات. أو هكذا يريد رجال النظام الإيحاء به لإبراز القوة ودحض انطباع الضعف.
فإيران في حاجة لاختلاق أزمة كبيرة وليس عبر ساحات الحروب بالنيابة المعروفة مثل لبنان وإنما عبر سابقة التصادم المباشر مع إسرائيل. هذا ما يقوله المقربون الى رجال النظام في طهران على أساس أن ليس لدى النظام في إيران ما يخسره إذا خاض هذه المغامرة الضرورية لإنقاذ نفسه.
ماذا يحدث للتفاهمات الإيرانية – الإسرائيلية غير المباشرة والتي تجسّدت في اتفاقية ترسيم الحدود البحرية اللبنانية – الإسرائيلية بموافقة ضمنية لـ”حزب الله”؟ يأتي الجواب من مصدر مطّلع على تفكير “الحرس الثوري” الحاكم فعلياً في طهران، وخلاصته أن لا حاجة للبنان في مثل هذه التطورات، عكس الحاجة الى “حماس” في غزة الأقرب الى المواقع الإسرائيلية المستهدفة. ثم إن هناك فارقاً بين تفاهمات “الفوائد المالية” profitable وبين المواجهات الكبرى، ولبنان قد يكون مرشحاً لتفاهمات ما بعد المواجهات.
الأسبوع المقبل، من المتوقع أن يتحدّث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع بنيامين نتنياهو حيث من المتوقع لهما أن يتطرقا الى أوكرانيا والى إيران وسوريا. بعد ذلك قد يتضح ما إذا كان المسؤولون الإيرانيون يبعثون ببالونات ساخنة للاختبار أو إن كانت خططهم الاستباقية حقاً جاهزة وجدّية. فإخماد الثورة قد يتطلّب وقتاً طويلاً فيما الأزمة مع إسرائيل أقرب ولربما ضرورية.