أقلام وأراء

رائد دحبور يكتب – ماذا لدى إدارة بايدن غير يوتوبيا جديدة على الصعيد الفلسطيني ؟

رائد دحبور *- 11/2/2021

على الأرجح، ستعيد إدارة بايدن إحياء النقاش حول فكرة حل الدولتين في مضمار النشاط الدبلوماسي المُفترض لها على صعيد الموضوع الفلسطيني، وفي ذات الوقت من الواضح أنها لن تُعيد تصويب كثيراً من الإجراءَات التي اتخذتها الإدارة السابقة، وخاصة حيال موضوع نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وحتى ربما حيال الاعتراف بضم هضبة الجولان؛ ويأتي تصويت مجلس الشيوخ المبكر من عمر الإدارة الجديدة لصالح إقرار نقل السفارة كأحد الدَّلائل على ذلك.

وغنيٌ عن القول أنَّ أحد ثوابت السياسة الأمريكية تجاه المنطقة هو الالتزام بأمن إسرائيل وتفوقها، ورعايتها سياسياً ومالياً، والالتزام حيالها إستراتيجياً على كل صعيد، لكن – وهذه تبدو كلازمة من لوازم أي إدارة إمريكية جديدة منذ عهد نيكسون على الأقل وحتى الآن – لا بد من القيام بمجهودٍ تبشيريٍ للسلام في الشرق الأوسط؛ فهكذا جرت العادة وبشكلٍ حثيثٍ، منذ مطلع السبعينيات من القرن الماضي وحتى عهد إدارة ترامب الأخيرة، لكن تلك الأخيرة كانت قد اتخذت منحىً مختلفاً قليلاً عمَّن سبقها؛ فقد مزجت الدبلوماسية باللَّاهوت وبالادِّعاءَات التاريخية في موضوع القدس -الأمر الذي حاولت الإدارات السابقة تجنبه – وتجاوزت معايير أمريكية تقليدية قديمة خاصة فيما يتعلق بموضوع الجولان على سبيل المثال، وحيال سياق مسار التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية بمعزل عن مسار العلاقة الفلسطينية الإسرائيلية المُفعمة بالتشنج والركود على مستوى التقدم في مسار ومنطق التسوية المُرتبك والمُتَلَعثم أصلاً.

لكن وبكل الأحوال سيواصل الجميع – باستثناء حكومات اليمين التي لا بديل عنها في إسرائيل كما يبدو – الاحتفاء بفكرة « حل الدولتين « ويأتي اليوم أيضاً، الاحتفاء بتوسيع الولاية القانونية للمحكمة الجنائية الدولية لتشمل الضفة الغربية وغزة – ودون إغفال أهمية ذلك من الوجهة الأخلاقية على الأقل – فإنَّ استمرار الاحتفاء بإحياء النقاش حول فكرة حل الدولتين، وكذلك مواصلة الاحتفاء بالتطور الحاصل في موضوع محكمة الجنايات الدولية، علماً أنَّ لا إسرائيل ولا الولايات المتحدة أعضاء في تلك الهيئة، يشبه احتفاءَ القُرَّاءِ بأفكارِ رواية « يوتوبيا « للكاتب الإنكليزي « توماس مور « فتعبير» يوتوبيا « الذي اتخذه توماس مور عنواناً لحكايته الطريفة يعني باليونانية: « ليس في أيِّ مكان « وطوباوِيَّةِ « توماس مور « تناولت مناقشة التقاليد السياسية والأعراف الاجتماعية والدينية في جزيرةٍ خيالية معزولة غير موجودة في الواقع.

أحد ثوابت السياسة الأمريكية تجاه المنطقة هو الالتزام بأمن إسرائيل وتفوقها، ورعايتها سياسياً ومالياً، والالتزام حيالها إستراتيجياً على كل صعيد، لكن – وهذه تبدو كلازمة من لوازم أي إدارة إمريكية جديدة “.

ربما أحد جوانب المقاربة بين كلا الحالتين يكمن في أنَّ أفكار «يوتوبيا – مور» تبدو ‏كأفكارٍ تعويضية عن واقع العجز حيال القدرة على إيجاد واقع، أو وقائع أقرب إلى المثالية المرجوَّة أو إلى التمنيات؛ فالذي يُسافر من شمال الضفة الغربية إلى جنوبِها، ومن شرقِها إلى غربِها؛ يرى الوقائع الاستيطانية – الدِّيموغرافية والجيوسياسية – التي فرضتها حقائق ومفاعيل القوة ‏خارج أي قانون، وخارج أي منطق يتصل بالعناية بأي معيارٍ من معايير السعي إلى حلولٍ وسَط كما اقترحت ذلك أفكار عملية التسوية – المُستَهلَكة والتي يُعادُ تدويرها مع قدوم كل إدارة أمريكية جديدة – وذلك منذ أن انطلقت تلك العملية بشكلٍ منهجي مطلع التسعينيات من القرن الماضي ‏وفي الغالب، نعم فتلك الوقائع الاستيطانية المتراكمة بكثافة يبدو واضحاً أنها تأتي ضمن معيار واحد، وهو مقدار وحجم الثمن السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي الذي تجبيه إسرائيل من ورائه؛ فقد تحول الاستيطان من استيطان نخبوي إلى استيطان شعبوي يجتذب الطبقات الاجتماعية المهمشة والأكثر فقراً والتي لا تستطيع مواصلة العيش في – ميتروبولين – إسرائيل المتمثل في منطقة تل أبيب وغوش دان، وحتى أنَّ جزءا مهما من الميزانيات المتعلقة بالاستيطان تبقى خافية غير مُدرجة بشكل واضح في الموازنات الحكومية، وذلك حسب تصريح سابق لـ « بايْغا شوحَط « أحد أشهر وزراء المالية الإسرائليين!.

ولدى مواصلة الاحتفاء بتدوير أفكار عملية التسوية ومُتَعَلِّقاتِها – اليوتوبيَّة، مرَّة أخرى – يجري التغاضي عن تناول حقيقة الرعاية الدولية لذلك السياق الطويل تاريخياً، لكنه المرتبك والمُتلَعْثم دوماً، أمام ما تفرضه حقائق القوة على الأرض.

وفي هذا المضمار؛ لا بأس من العودة إلى بعض الجذور الأصلية لذلك السياق من الاهتمام الدولي المرتبك وغير الجاد؛ فلدى المقارنة، وعلى سبيل المثال، نجد أنَّ مواقف «آرنِست بيفن» وزير خارجية حكومة حزب العمال البريطاني، في عهد رئيس الوزراء « كليمنت آتلي « وذلك في نهاية عهد الانتداب ‏كانت متقدمة جداً، بل وثورية إن صح التعبير، مقارنةً مع مواقف وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي راهناً والتي يُحتفى بها عادةً، ونجد أن مواقف إدارة «هاري ترومان» وما كان يُعرف بالقسم العربي في وزارة الخارجية الأمريكية في نهاية الأربعينيات، كانت متقدمة عمَّا قدمته إدارة كلينتون ‏أو إدارة باراك أوباما على سبيل المثال، ونجد أيضاً أنَّ فكرة الدولة الفلسطينية – أو بالأصح، فكرة الكيان الفلسطيني الأقل من دولة والأكبر من حكم ذاتي – كان قد طرحها هنري كيسنجر في عام 1974 عندما اقترح عقد مؤتمر دولي للسلام برعاية أمريكية، لكن – وكما أسلفنا ‏كانت كل تلك الأفكار تُساقُ لاستهلاك الوقت، ولتبرير النفاق والتحايُل الدولي، وكان يجري- كما الآن – تعمية الوقائع ووضعها في سياقات الذاكرة المُهْمَلة، وتهميش أهمية التذكير بها؛ وذلك لتبرير العجز والفشل، ولتسويغ حالة الاحتفاء والابتهاج بتدويرِ أفكار السلام الأمريكية مع كل عهدٍ جديد لإدارة أمريكية جديدة؛ حيث لا يُعبِّر كل ذلك إلَّا عن استمرار الدوران في حلقة مُفرغة مع بَريقِ أفكارٍ يوتوبية أو طوباوية لا مجال لتكريسها واقعاً، وكما لو كانت جزءً مما يجري من نقاشٍ في جزيرة توماس مور الخيالية – حيث « ليس في أيِّ مكان « حسب التعبير اليوناني القديم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى