ترجمات أجنبية

ذي أتلانتك»: لماذا انتصر بشار الأسد في الحرب السورية؟

كريستوفر فيليبس، ذي أتلانتك ٥-٨-٢٠١٨
 

إن العالم تواطأ مع الأسد للقضاء على التمرد في سوريا، بعد أن كان الثوار قاب قوسين أو أدنى من الإطاحة به، لكنه الآن يقبع فوق تلة من الركام كانت تُعرف بسوريا. فكيف حدث ذلك؟»

فبعد سبع سنوات عجاف من الحرب الطاحنة في سوريا، دُمرت البلاد وشُرد نصف السكان، وقضى نصف مليون شخص نحبه، وبات بشار الأسد على وشك الانتصار. فها هي درعا – مهد الثورة – تسقط في قبضة حلفائه الشهر الماضي؛ ليمثل ذلك سقوط الجنوب بأكمله، أحد آخر معاقل المتمردين.
لكن الحرب لم تنته بعد فما بزال الأكراد يسيطرون على شرق البلاد، ومحافظة إدلب في يد الثوار، وأي انتصار ستكون تكلفته باهظة. بيد أن الأسد باقٍ في منصبه، على عكس ما توقعه أوباما، وساركوزي، وكاميرون – وثلاثتهم تركوا مناصبهم – من أن سقوط الأسد «مسألة وقت» لا أكثر.
فكيف وصلنا إلى هذه النقطة؟ كان بعض المراقبين يرون أن نظام الأسد سيسقط مثلما حدث في تونس ومصر وليبيا. بيد أن القابعين في قصور الحكم لهم اليد الطولى في حروب التمرد، ولم يسجل التاريخ انتصار المتمردين في حروب كهذه، إلا في حالات قليلة. كان معارضو الأسد على وشك النيل منه، لكن عوامل داخلية وخارجية تدخلت لإنقاذه؛ ففي الداخل لجأ النظام إلى القوة الوحشية لسحق التمرد. وفي الخارج استطاع إقناع حلفائه بالتدخل في مقابل تردد خصومه في الغرب.

نظام مضاد للانقلابات العسكرية
كان للمؤسسات الأمنية السورية الفضل الأكبر في صمود الأسد في وجه الحرب؛ إذ بقيت على ولائها المطلق له دون أي محاولات للانقلاب عليه. وعلى الرغم من حدوث انشقاقات في الجيش السوري، إلا أن معظم المنشقين ليسوا من الأفراد ذوي التدريب العالي، ولا يمتلكون أسلحة ثقيلة، ولم يتجاوز عددهم 50 ألف متمرد، لكن الحرب أثرت بشدة على المؤسسة العسكرية السورية؛ فقد انخفض تعداد أفرادها بحوالي 200 ألف فرد بين القتلى والمنشقين.
أما على مستوى القيادات السياسية والعسكرية فمعظم المنشقين – مثل مناف طلاس اللواء في الحرس الجمهوري، ورئيس الوزراء رياض حجاب، والمتحدث باسم الخارجية جهاد مقدسي – لا يمتلكون سلطة مؤثرة. هذا يرجع بشكل رئيس إلى حصانة نظام بشار ضد الانقلابات العسكرية، الذي ورثه عن والده حافظ الأسد. كان الأخير قد بنى نظامًا من الموالين بشكل مطلق له، ومعظمهم من الأقلية العلوية. فقد أقنعهم أن عائلته هي الضامن الوحيد لنفوذهم في البلاد. لذا فقد عين على رأس الوحدات الهامة في الجيش أشخاصًا من الطائفة العلوية ومعظمهم من أقربائه. وعندما اشتعلت الحرب في 2011، كان أبرز القادة الأمنيين هم: شقيق الرئيس، وزوج شقيقته، وابن عمه.
وقد ظلت قطاعات رئيسة من الشعب السوري على ولائها لبشار الأسد. ولم يفوت الأخير فرصة اللعب المتعمد ببطاقة الطائفية. لطالما انحاز العلويون والمسيحيون «8% من السكان»، والدروز «3%» لأسرة الأسد، فضلًا عن العديد من العلمانيين من العرب السنة – وهم الأغلبية. كانت حجتهم هي أنهم مدافعون عن التعددية الدينية. وعند اندلاع التمرد في عام 2011، ادعى الأسد زورًا أن المتظاهرين مثيرو شغب، وإسلاميون متطرفون، وظهرت ملصقات حكومية محذرة من الانقسامات الطائفية. وقد أفلحت الحيلة في نهاية المطاف. كانت الاحتجاجات في بدايتها تشمل كل الطوائف، ولكن مع مرور الوقت، بقي العلويون والمسيحيون والأقليات الأخرى بعيدًا. وظل كثير من السنة العلمانيين محايدين، أو دعموا الأسد.
المعارضة في سوريا
كما استغل الأسد ورقة الأجور. كان تردي الوضع الاقتصادي أحد محفزات التمرد؛ إذ بلغ الفقر قمته في المناطق الريفية، وبين الشبان الذين تبلغ نسبة البطالة بينهم 25%. ومع ذلك لا تزال الدولة توفر 20% إلى 30% من الوظائف، وقد خشي البعض من فقدان الراتب. في الواقع واصل الأسد بذكاء دفع الرواتب، بل رفع رواتب الدولة طوال الحرب «رغم التضخم السيئ»، بما في ذلك في المناطق الخارجة عن سيطرته. كما أن الطبقة الوسطى التي استفادت من سياسات الأسد كانت بطيئة في التخلي عنه. وفي حين أن البعض في حمص قام بتمويل المعارضة، إلا أن السكان ظلوا هادئين إلى حد كبير في دمشق وحلب.
منذ البداية أصر الأسد على أن التمرد مؤامرة خارجية، ومع خضوع الشعب سنوات طويلة للدعاية الحكومية، فقد صدقه البعض. وقد خشي آخرون من عدم الاستقرار السياسي. لقد خدع النظام أنصاره عن طريق إدخال إصلاحات وهمية، مثل الدستور الجديد. في حين أن خصومه رفضوا مثل هذه التنازلات باعتبارها بلا معنى، فإن المؤيدين اعتبروها هامة.
ومثلما لعب الأسد بورقة زيادة الأجور، فقد لجأ إلى أساليب الترهيب. اعتقد المعارضون خطأً أن حاجز الخوف قد سقط، بيد أن الكثيرين لم ينسوا المجزرة التي ارتكبها حافظ الأسد في حماة عام 1982، وراح ضحيتها قرابة 10 آلاف شخص. والفظائع التي يرتكبها بشار الأسد هي نسخة مكبرة عن مجزرة الثمانينات؛ مما دفع الكثيرين إلى الوقوف على الحياد.

النظام خلط الأوراق وأجج الصراع عمدًا
نجاح النظام في تفتيت وشيطنة المعارضة هو سبب رئيس لانتصاره. كانت المظاهرات في أول الثورة سلمية وتنادي بالديمقراطية، لكن النظام قابلها بالعنف المفرط. وعندما انتقل الثوار إلى الكفاح المسلح دفاعًا عن أنفسهم، لجأ إلى وصف المتظاهرين بالمتطرفين الإسلاميين الأجانب. وحتى يثبت صحة مزاعمه – ينوه فيليبس – قام النظام باستهداف منظمي الاحتجاجات السلمية، واعتقل منهم قرابة 8 آلاف شخص، واختفى حوالي 75 ألفًا آخرين، وقد تعرضوا لتعذيب وحشي في السجون. أما من حالفهم الحظ وأُفرج عنهم، فإما أنهم قد هربوا أو اتجهوا للتطرف.

قوات أمريكية على الحدود السورية-التركية
وفي المقابل، أطلق النظام سراح آلاف الجهاديين على أمل تزعمهم التمرد حتى يصدق العالم كذبة أنه عنف إسلاميين متشددين. من بين هؤلاء حسن عبود – القيادي في «أحرار الشام» – وزهران علوش – زعيم «جيش الإسلام» – وغيرهم من الآلاف الذين كانوا سجناء لدى الأسد في بداية الثورة، ثم أصبحوا مقاتلين لدى «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش». جل المجهود العسكري للنظام استهدف المعارضة المعتدلة، وليس داعش وأخواتها، إذ إن الأخيرة كانت تسيطر على مناطق بعيدة أقصى الشرق، أما الثوار فكانوا يهددون معاقله الرئيسة في الغرب. وكان الهدف أيضًا هو القضاء على المعارضة المعتدلة حتى لا يتبقى أمام العالم سوى داعش والنظام للاختيار من بينهما.
كانت هذه الحيل المحلية كافية لصمود نظام الأسد، لكن الانتفاضة سرعان ما أصبحت عالمية. دعت الحكومات الغربية الأسد إلى التنحي في أغسطس (آب) 2011 وفرضت عقوبات عليه. وسارعت دول إقليمية مثل قطر وتركيا والسعودية إلى قطع العلاقات مع النظام، وساعدت المتمردين المسلحين وخصومه النظام السياسيين. ومع ذلك كان ذلك نقطة أمام بحر المساعدات التي قدمها حلفاء النظام، إيران وروسيا.
لقد دعم أصدقاء الأسد حليفهم بكل ما لديهم فقدموا الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري الحيوي. كما تصدت روسيا بـ«الفيتو» في مجلس الأمن 12 مرة لحماية الأسد من القرارات الغربية. ومنحت موسكو وطهران مساعدات اقتصادية لتعويض تأثير العقوبات والحرب. فطبعت روسيا مذكرات مصرفية سورية للالتفاف على عقوبات الاتحاد الأوروبي، في حين وافقت إيران على تقديم قروض لسوريا بقيمة 4.6 مليار دولار، والتي سددت ثمن الأسلحة والرواتب، وأبقت الدولة المتعثرة متماسكة.
كما قدمت روسيا وإيران مساعدات عسكرية أساسية. أرسلت إيران الأسلحة والمستشارين، وزادت من دورها بعد عدة هزائم للأسد في 20122013. وجلبت الميليشيات الشيعية الأجنبية، على رأسها «حزب الله» اللبناني، وأعادت تنظيم القوات السورية. كما قدمت روسيا الأسلحة، وتدخلت مباشرة بسلاحها الجوي في عام 2015، عندما بدا الأسد ضعيفًا. وهذا ما قلب ميزان المعركة، وسمح للأسد باستعادة المناطق الرئيسة من المتمردين وداعش. باتت روسيا سيدة القرار في سوريا، فراحت تعقد صفقات مع إيران وتركيا والولايات المتحدة لتجميد الصراع مع المتمردين. ومع ذلك، فقد انتهك الأسد وقف إطلاق النار في عام 2018 بدعم من بوتين.
أما المعارضة السورية فقد انقسمت على نفسها بسبب تضارب أجندات الراعين الأجانب إذ تفضل الحكومات الأجنبية المهاجرين على النشطاء الداخليين، مثل ائتلاف المعارضة السورية. بينما عملت كل من تركيا وقطر على تمكين الإسلاميين داخل هذه الهيئات، وعلى الأخص الإخوان المسلمين السوريين المنفيين. وقد أثار هذا غضب السعودية التي تعادي الإخوان المسلمين، لتتناحر الفصائل المدعومة من قطر والمملكة العربية السعودية داخل المعارضة. وقد أدى ذلك في النهاية إلى استقالة الرئيس الأول للائتلاف بعد بضعة أشهر فقط. ومثل هذه الانقسامات الداخلية كانت هدية للنظام.
وقد أدى ذلك إلى إضعاف المعارضة المسلحة. معظم الميليشيات تشكلت محليًا، وكانت نتائج محاولات توحيدها في إطار هيكل قيادة وطني متباينة. فقد تسببت الخلافات الإيديولوجية في زيادة الانقسام بين المقاتلين. وكان للتنظيمات المتشددة، مثل: أحرار الشام، وجيش الإسلام، وجبهة النصرة، وداعش، اليد العليا على العلمانيين والإسلاميين المعتدلين. كما أدى هذا إلى تجاهل الأكراد، الذين اضطهدهم الأسد طويلًا، لكنهم علمانيون إلى حد كبير؛ مما دفعهم إلى أن يصبحوا قوة محايدة ثالثة تعارض الأسد والمتمردين، وفي وقت لاحق: داعش.
كان الرعاة الخارجيون هم السبب في هذا الانقسام، فقد زعمت قطر أنها تدعم ميليشيات الجيش السوري الحر المعتدلة فقط، لكنها تدعم في الواقع مجموعة من المقاتلين، جلهم إسلاميون. وفضلت تركيا الجماعات المتحالفة مع الإخوان المسلمين ثم رعت أحرار الشام. أما السعودية، التي فضلت في البداية أيضًا الجيش السوري الحر، انتهت بدعم السلفية الإسلامية. لعدة سنوات لم تفعل دول الخليج سوى القليل لمنع التبرعات المالية المتجهة إلى سوريا. ومن ثم فإن الرعاة الأجانب يشجعون ميليشيات المعارضة على التنافس على الأموال الخارجية، بدلًا عن توحيدها. وقلة منهم أحبطت التحول نحو التطرف.
ولو كان الغرب قد تدخل بشكل أكثر حسمًا، لأطاح بالنظام، لكن باراك أوباما أعطى الأولوية إلى مخاوف أخرى بخلاف تنحية الأسد. دعمت الولايات المتحدة المتمردين منذ البداية، وأشرفت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية على تسليحهم. وعلى الرغم من تأييد هيلاري كلينتون وديفيد بترايوس فكرة أن تعزز الولايات المتحدة دورها عن طريق دعم المتمردين المعتدلين، لكن أوباما رفض ذلك، معتقدًا أن هذا لن يغير ميزان القوى، وكان يخشى من أن تنتهي الأسلحة بيد الجهاديين. كان المتطرفون قد تزعموا التمرد بمساعدة الأسد. كما أن الدعم الأمريكي للمتمردين في ليبيا لم يمنع قطر وغيرها من دعم الجماعات المتطرفة. ففي وقت لاحق من الحرب، عندما بدأت الولايات المتحدة برنامج تدريب وتجهيز للمتمردين، سرق الجهاديون بعض المقاتلين المسلحين، بينما باع آخرون أسلحتهم.

القوات الروسية في سوريا
وقد تكرر الأمر مرة أخرى إذ كان أوباما قد توعد الأسد برد حازم حال قيام الأخير باستخدام الأسلحة الكيميائية في الحرب باعتبار ذلك «خطًا أحمر». بيد أنه عندما استخدم الأسد السلاح الكيميائي بالفعل في الغوطة الشرقية في 2013، تراجع أوباما عن شن عمل عسكري، وفضل التفاوض مع روسيا بشأن نزع الترسانة الكيميائية للنظام. ربما لو تدخل أوباما حينها لما وقعت هجمات كيميائية أخرى، أو لمالت الكفة لصالح الثوار. بيد أن شبح الفوضى التي تضرب ليبيا في أعقاب التدخل الغربي للإطاحة بمعمر القذافي جعلت أوباما مترددًا، لكن أمريكا تدخلت في سوريا بعد سيطرة داعش على مساحات كبيرة من سوريا والعراق، وهنا مجددًا يتجلى أن الأولوية هي قتال الجهاديين، وليس تنحية الأسد.
لم يتغير الحال بعد وصول دونالد ترامب إلى السلطة إذ كان تركيز ترامب في سوريا على قتال داعش، واستمرارًا لسياسات أوباما لدعم القوات الكردية على الأرض، وتجاهل انتصارات الأسد في الغرب الذي يسيطر عليه المتمردون. ورغم مهاجمة الجيش الأمريكي الأسد مرتين بعد تكراره استخدام الأسلحة الكيميائية، بدا أن أولوية ترامب هي الظهور أقوى من أوباما، وليس إسقاط النظام. وقد أدى تقاربه مع روسيا إلى التواطؤ بعدم القيام بشيء لمنع الأسد من استعادة السيطرة على درعا، على الرغم من وقوعها في منطقة وقف إطلاق النار التي أسسها ترامب نفسه في عام 2017. وعلى الرغم من سعيه إلى أن يبدو مختلفًا عن أوباما، واصل ترامب سياسة أسلافه المتمثلة في إعطاء الأولوية لقضايا أخرى بخلاف هزيمة الأسد؛ مما مكن الأخير من الصمود.
قد يجادل البعض بأن ما انتهى إليه الحال لا يعد انتصارًا للأسد على الإطلاق فهو يطل على بلد مدمر من قصره الرئاسي. وما تزال مساحات شاسعة من الأراضي خارج سيطرته، ويواجه هجمات إرهابية مستمرة من خلايا نائمة للجهاديين. ويجب عليه أن يعيد بناء اقتصاد مثقل بالديون، مع فقدان البلاد الكثير من ذوي المهارات التقنية والفكرية. وهو يعتمد على حليفين أجنبيين قويين هما: روسيا وإيران، واللذان تسللا إلى مؤسسات الدولة، ويمارسان نفوذًا هائلًا. ويجب عليه أن يسترضي ملايين السوريين الموالين له الذين ضحوا بدمائهم وأموالهم لإبقائه على عرشه.
لكن بالنسبة للأسد وأركان نظامه، الذين يلعبون لعبة طويلة، لا بد أنهم يظنون أن التغلب على هذه المشاكل ممكن، حتى لو استغرق الأمر عقودًا. فبالنسبة لهم كانت الحرب حربًا وجودية، وبهذا المعنى فازوا. وقد مكنتهم الوحشية والقسوة في الداخل – إلى جانب المساعدة الحاسمة من الخارج – من البقاء في السلطة. كان هذا وحشيًا وغير إنساني، ولكن من وجهة نظرهم، فقد نجحت الخطة. وهذا درس مروع للدكتاتوريين الآخرين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى