شؤون فلسطينية

د. وليد سالم يكتب- المقدسيون والمشاركة في الانتخابات الفلسطينية : المحتوى والآليات

د. وليد سالم  *- 13/2/2021

ترتب عن اتفاقيات أوسلو الأولى (1993) والثانية (1995) تعقيدات لا حصر لها للفلسطينيين المقدسيين المقيمين تحت حكم الاحتلال الإسرائيلي الكامل في المنطقة التي تسمى “قدس 1″، وذلك خلال المرحلة الانتقالية التي كان يفترض أن تنتهي بحل نهائي يشملهم عام 1999، وزادت هذه التعقيدات تفاقما على تفاقم مع عدم تحقق هذا الحل النهائي حينذاك وبالتالي تمديد المرحلة الانتقالية حتى اليوم، رغم تواتر عدد من الجولات التفاوضية حول ما أطلق عليه اسم “الحل الدائم”، إذ فشلت هذه الجولات جميعا.

خلال هذه السنوات الـ28 التي انقضت منذ أن نص اتفاق أوسلو على تأجيل بحث قضية القدس إلى المفاوضات النهائية، ترتب عن هذا التأجيل حالة مستحكمة في القدس الشرقية، حيث وصلت عملية تهويد الأرض وفرض المؤسسات الإسرائيلية على المدينة وطرد المؤسسات الوطنية منها إلى مرحلة غير مسبوقة، واشتملت “صفقة القرن” على اختراع أماكن توراتية لم تكن قائمة أصلا في القدس أبد الدهر، كما بيّن ذلك تقرير صادر عن مؤسسة “عيمق شافيه” الإسرائيلية ، وتجري محاولات لتقسيم الحرم القدسي الشريف بادعاء إبراهيميته، وبالتالي أهميته “الديانات السماوية الثلاث”. هذا فيما تستشري عمليات تغيير المكان والأرض والفضاء والمشهد في كافة أرجاء المدينة، ويجري التخطيط للانتقال من مشروع “القدس الموحدة” إلى مشروع “القدس الكبرى” الممتدة شمالا إلى منتصف الطريق نحو نابلس وجنوبا حتى مشارف مدينة الخليل، وشرقا حتى البحر الميت.
يغطي الاحتلال هذا التوسع الاستيطاني الاستعماري المحموم، بهدايا مسمومة مثل التأمين الصحي والتأمين الوطني، وكذلك دعوة الفلسطينيين المقدسيين للمشاركة في الانتخابات البلدية الإسرائيلية بعدما حل البلدية الفلسطينية للمدينة بعد أيام من احتلالها عام 1967، وهي دعوة لم تلق صدى لدى المقدسيين حيث لا يشارك منهم في انتخابات بلدية إلا نسبة ضئيلة جدا تتراوح بين 1 و3 في المئة. ومن جهة أخرى، منع الاحتلال شمول القدس في الانتخابات البلدية الفلسطينية بعدما حل بلدية
القدس الفلسطينية (أمانة القدس) عام 1967.

في ما يخص الانتخابات التشريعية والرئاسية، فقد أصر الاحتلال على أن تجري في “قدس 1” الخاضعة بشكل كامل للاحتلال في مكاتب البريد التابعة للبريد الإسرائيلي فقط، وترسل منها بمظاريف بريد لا تحمل أي شارة أو رمز فلسطيني، وأن لا يزيد عدد المصوتين عن القدرة الاستيعابية لمكاتب البريد الخمسة التي تم تحديدها لانتخابات عام 1996 وتم زيادتها إلى ستة مكاتب بريدية عام 2006. بناءً على هذه التقييدات صوت 5327 مقدسيا فقط في مكاتب البريد للانتخابات التشريعية والرئاسية عام 1996، وصوت 6300 منهم في الانتخابات التشريعية عام 2006 حسب إحصاءات لجنة الانتخابات المركزية الفلسطينية. فيما صوت مئات آخرون فقط من مقدسيي “قدس 1” في مراكز الاقتراع الفلسطينية في “قدس 2”. وخلال الانتخابات سُيّجت مكاتب البريد في “قدس 1” بحواجز شرطية إسرائيلية على كل مداخلها وحُوّلت إلى ثكنات عسكرية، كما سرت شائعات كثيفة مفادها أنه سيتم سحب الهوية المقدسية من كل من يشارك من المقدسيين في الانتخابات الفلسطينية. لم يخف المقدسيون من هذه الإجراءات بقدر ما أغاظهم حجم الإهانة التي نجمت عن هذه الترتيبات التي وضعت خصيصا لهم، وهو ما نجم عنه ضعف إقبال مقدسيي “قدس 1” على التصويت في الصناديق الفلسطينية في “قدس 2”.

لم تكن هذه الصيغة لمشاركة المقدسيين في الانتخابات التشريعية والرئاسية الفلسطينية مهينة فحسب، ولكنها انطوت على أبعاد أوسع جعلت المقدسيين يستنكفون أكثر عن المشاركة بها بكثافة، ولعل أهم هذه الأبعاد يتعلق بما يمثله المجلس التشريعي للمقدسيين على ضوء كون هذا المجلس هو الهيئة التي تشرع وتساءل وتراقب عمل سلطة وطنية فلسطينية انتقالية لحكم ذاتي وممنوعة من قبل إسرائيل، ووفق الاتفاقيات يمنع أن يكون لها دور بينهم. فبعد اتفاق “أوسلو 1” لعام 1993، و”أوسلو 2″ لعام 1995، أصدرت إسرائيل قانونين اثنين حملا نفس الاسم وهو “قانون تطبيق الاتفاقية المرحلية بشأن الضفة وغزة”، واشتمل القانونان على قيود تمنع عمل السلطة الوطنية الفلسطينية في القدس، فيما سمح لمؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية بالاستمرار في العمل في المدينة، وذلك حتى عام 2001 حين تم إغلاق مؤسسة الرئيسة التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية في القدس وهي بيت الشرق، كما تم إغلاق 13 مؤسسة أخرى كانت تتبع المنظمة في المدينة.

على ضوء هذه الحيثيات، أثيرت أسئلة مقدسية مختلطة بالتزامن مع الإعداد لانتخابات فلسطينية جديدة، ومن هذه الأسئلة: ماذا قدم أعضاء المجلس التشريعي في الدورات السابقة للقدس؟ هل ستسمح إسرائيل لأعضاء المجلس التشريعي والسلطة بالعمل في القدس؟ وماذا تقدم السلطة الوطنية الفلسطينية للمدينة؟ وبناء عليه، هل يمكن اعتبار مشاركة المقدسيين في الانتخابات التشريعية والرئاسية لعام 2021، مجدية؟

في ما يتعلق بالمجلس التشريعي، فإن نظامه الداخلي ينص على أنه يقوم بسن القوانين، ومنح الثقة للحكومة وحجب الثقة عنها، ومساءلتها، وإقرار خططها وموازناتها العامة، وإضافة لذلك يتضمن النظام الداخلي للمجلس التشريعي (المواد 100 – 104) قيام المجلس التشريعي بتلقي شكاوى المواطنين أفرادا وجماعات وبحثها ضمن لجانه ومتابعتها مع الحكومة.

وفي ما يخص ممثلي القدس في المجلس التشريعي الأول، فقد قاموا ومعهم بقية أعضاء المجلس بسن “قانون القدس العاصمة” ( قانون رقم 4 لعام 2002) والذي لم ينص على اعتبار القدس عاصمة لفلسطين فقط، ولكنه نص أيضا على اعتبار القدس منطقة “تطوير أ”، وتخصص لها الموازنات اللازمة بهذه الصفة. كما كان المجلس التشريعي قد ناقش “قانون أمانة القدس العاصمة” بالقراءات الثلاث، ورفعه للرئيس الراحل ياسر عرفات عام 2004، حيث قرر الرئيس عرفات تأجيل إصدار القانون “لأسباب سياسية” كما كتب بخط يده على نص القانون. عوضا عن ذلك كان لبعض أعضاء التشريعي الأول مكاتب في القدس وكانوا يلتقون المواطنين فيها ويتلقون شكاويهم ويتفاعلون معهم، وبقيت هذه المكاتب قائمة إلى أن أغلقها الاحتلال.

أما المجلس التشريعي الثاني الذي انتخب عام 2006، فقد كان حظه أقل من المجلس الأول من حيث سن قوانين تخص القدس، فقد قام الاحتلال باعتقال أعضاء حماس في هذا المجلس وسحب هوياتهم المقدسية في وقت لاحق، كما أن الانقسام الفلسطيني الذي حصل عام 2007 قد ترتب عنه شل عمل المجلس التشريعي وعدم تمكينه من القيام بعمله سواء تجاه القدس أو غيرها من المحافظات. وترتب عن هذا الشلل إعادة قضايا القدس إلى منظمة التحرير الفلسطينية، حيث قرر الرئيس محمود عباس تعيين أمانة للقدس عام 2012 (وكانت أمانة سابقة قد عينت من الرئيس ياسر عرفات عام 1998)، كما قرر المجلسان الوطني والمركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 2018 “إعادة انتخاب وفرز أمانة القدس وفق أفضل صيغة ديمقراطية وتمثيلية”، وهو قرار لا زال ينتظر التطبيق على أرض الواقع.

وفي ما يتعلق بالسلطة الوطنية فهي تصرف موازنات في القدس لا يعلن عنها كلها خشية من الإجراءات الاحتلالية التي قد تطال المشاريع والبرامج التي يتم دعمها، وفي عهد حكومات سلام فياض بين عامي 2007 و2013Kصار يُعلن عن بعض هذه المشاريع في التقارير الربعية للحكومة، ومع دخول الموازنة الفلسطينية مرحلة الأزمة في السنوات التالية، صار دعم السلطة الوطنية للقدس مرتبطا بتوفر الأرصدة والأموال. لا يعني ذلك أن كل شيء على ما يرام وعدم حصول تقصيرات مالية تجاه القدس، وهو أمر يحتاج إلى مقال مستقل حول أوجه التقصير القائمة.

إذن، لم يقم أعضاء التشريعي بدورتيه ولا السلطة بمسؤولياتهما كاملة تجاه القدس سواء لقصورات ذاتية أو نتاجا في الأغلب عن ممارسات الاحتلال المترتبة عن الاتفاقات المعقودة والتي تمنع أفعال وأنشطة السلطة في القدس، طالما لا يوجد حل نهائي يشملها.

ومع الانتخابات الفلسطينية لعام 2021 من المتوقع لهذه التعقيدات أن تزيد تفاقما، سيما بعد الإجراءات التي ترتبت على “صفقة القرن” من نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وقبول دولة الإمارات والبحرين الدخول إلى القدس عبر البوابة الإسرائيلية. في ظل ذلك كله، فإنه من غير المعروف بعد إذا ما كانت إسرائيل ستقبل بعقد الانتخابات التشريعية داخل القدس، والأكثر تعقيدا هو انتخابات الرئاسة الفلسطينية التي نص المرسوم الرئاسي للانتخابات على أنها “انتخابات لرئاسة دولة فلسطين” وهو الأمر الذي قد لا تقبل به إسرائيل لأنه لم يُتّفق على إقامة دولة فلسطين عبر المفاوضات بعد. بمعنى آخر، قد لا تقبل إسرائيل وحكومتها بعقد انتخابات تشريعية في القدس، وفق صيغة أوسلو، لتمديد فترة الحكم الذاتي في الضفة مع تأجيل موضوع القدس تفاوضيا، ولكنها قد ترفض إجراء انتخابات بعد ذلك لرئاسة دولة فلسطين حيث لم يتفق على تلك الدولة في المفاوضات.

في إطار ذلك، يجدر التساؤل حول أية انتخابات مناسبة للقدس؟ في ضوء الأسئلة المقدسية أعلاه، لا تبدو انتخابات تشريعية لتمديد فترة الحكم الذاتي مناسبة للمقدسيين، سيما وأنهم غير مشمولين في منطقة الحكم الذاتي المتفق عليها في أوسلو 1 و2، وبالتالي فإن السلطة ممنوعة من العمل بينهم ومعهم، كما أن صيغة كهذه ستكون مهينة لهم إذا ما وافقت عليها إسرائيل وحكومتها اليمينية – وهو أمر مستبعد، إذ أنها ستوجه قسما محدودا منهم للتصويت في مكاتب البريد داخل مدينتهم، فيما يكون على الغالبية من المقدسيين السفر للتصويت في مناطق الضفة الخاضعة للسلطة الوطنية الفلسطينية في المناطق المسماة بـ”قدس 2″.

من جهة أخرى، فإن الصيغة الأمثل للمقدسيين في ظل عدم إمكانية تحقيق تطلعاتهم الوطنية في إطار انتخابات لتمديد الحكم الذاتي المفروض إسرائيليا، هو مشاركتهم مباشرة في الانتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني الذي يجسد تطلعاتهم الوطنية تلك، كونه يمثل الشعب الفلسطيني بأسره في كافة أماكن تواجده. تقف أمام هذه الصيغة عقبة وهي النظام الانتخابي الفلسطيني الذي ينص على أن أعضاء التشريعي بمن فيهم المقدسيون يلتحقون بالمجلس الوطني الفلسطيني تلقائيا بمجرد انتخابهم للمجلس التشريعي. وإذا كان لا مناص من ذلك فهل من فرصة لجعل الانتخابات التشريعية في القدس محطة لمعركة شاملة مع الاحتلال على طريق التحرر الوطني تتضمن آليات لعقدها في القدس رغم رفضه، على طريق تمثيل المقدسيين في المجلس التشريعي والأهم في المجلس الوطني (الذي ينضم إليه أعضاء المجلس التشريعي) وذلك لتحقيق تطلعاتهم الوطنية التي يمثلها المجلس الوطني الفلسطيني؟ ينطبق الأمر ذاته على شمولية القدس في الانتخابات البلدية الفلسطينية حيث لم تعقد فيها منذ عام 1967، وآن الأوان لعقدها هي والانتخابات التشريعية والرئاسية في القدس ضمن آلية مواجهة مع الاحتلال وبالتعاون مع مؤسسات الأمم المتحدة والبعثات الدبلوماسية الموجودة في القدس الشرقية، وذلك من أجل تحقيق الترابط بين القدس وبقية المحافظات الفلسطينية.

* د. وليد سالم ، باحث وكاتب من القدس .

1

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى