أقلام وأراء

د. وليد السالم يكتب – أنا وأنت وحالتنا الراهنة

د. وليد السالم  *- 2/1/2021

“ومن العدل أن يأتي الرجل من الحجج لخصومه بمثل ما يأتي به لنفسه، أعني أن يُجهد نفسه في طلب الحجج لخصومه كما يُجهد نفسه في طلب الحجج لمذهبه، وأن يقبل لهم من الحجج النوع الذي يقبله لنفسه “. (ابن رشد)

لربما يجدر البدء بحكمة الفلاسفة من أجل تحديد قواعد الجدل في زمن العنتريات والتخوين والتعصب، والتزمت وإملاء المواقف والاستبداد داخل المجتمع الواحد، وكيان الدولة الواحدة. يعبر موقف ابن رشد هذا كما كتبت مرة في العام 1999 عن قبول الآخر كما هو، وتقبل مواقف الآخرين الفكرية والعملية، سواء وافقنا أم لم نوافق عليها، كما يعبر عن الإيثار الذي يتمثل في “إعطاء الأولوية لحق الغير” كما كتب محمد عابد الجابري، أي أن الإيثار يتجاوز التسامح إلى ما هو أرقى منه، إلى أن أعطي الاولوية لأن يأخذ الغير حقه قبلي.

ويقوم التسامح والإيثار، الذي هو أعلى منه، على قاعدة تقبل الآخر بما هو “موقف فكري وعملي قوامه تقبل المواقف الفكرية والعملية التي تصدر من الغير، سواء كانت موافقة أو مخالفة لمواقفنا”، كما كتب الجابري أيضًا؛ ويتطلب تقبل الآخر ليس فقط التعايش المتوازي معه على قاعدة “أنت بحالك وأنا بحالي”، ولكنه يتطلب أيضًا التفاعل والعمل المشترك مع الآخر، كما نصح الروائي العربي الشهير عبد الرحمن منيف.

والتسامح مع الآخر ليس منة أو منحة مني، ولكنه ينبع من حقيقة أنني والآخر متكاملان، فهو “متمم لوجودي، ووجودي متمم لوجوده”، كما نصح مُنظر الديمقراطية روبرت دال. وقد عبر عمارة بن رمضان عن العلاقة مع الآخر على أنها تقوم على عدم وجود حقيقة مسبقة جاهزة، فرأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب، كما ” الآخر هو الوجه الثاني للذات”، أي أنه كامن في داخلي كإنسان نتماثل معًا في الإنسانية والكرامة والحقوق.

ومن الفلاسفة في الغرب الذين اهتموا بالأنا والآخر؛ أذكر مارتن بوبر (1878 – 1965)، وإيمانويل ليفيناس ( 1906 – 1995). الأول أصدر كتابًا صغيرًا بعنوان “أنا وأنت”ـ ترجمه إلى العربية الكاتب السوري الراحل أكرم أنطاكي. وخلاصة الكتاب أن فرقا بين أن أتعامل مع الآخر كـ”أنت”، وبين أن أتعامل معه كـ”هو”. في الحالة الأولى أنظر إلى عيني الآخر وأوجه الكلام له مباشرة كتعبير عن نسج علاقة متساوية مع الآخر، أما التعامل مع الآخر كـ”هو”، فهي تعبير عن التوجه نحوه كشخص غريب، أحتقره أو أكرهه أو أستغله، أو أعتبره موضوعًا لممارسة العنف ضده وحتى قتله وإبادته.

للأسف تنكر مارتن بوبر لآرائه هذه واستحوذ على بيت أسرة إدوارد سعيد في القدس الغربية بعد قيام دولة إسرائيل، معتبرًا أن ما ورثته دولة إسرائيل هو حق له أيضًا كيهودي.

والفيلسوف الآخر هو إيمانويل ليفيناس، الذي شرح المفهوم الليبرالي للحرية الفردية المطلقة، باعتباره مفهومًا يحقق مصالح الفرد على حساب الآخر ويطلق العنان للأنانية على حساب الحرية الاجتماعية، التي يعرفها ليفيناس بأنها تتضمن اعتراف الذوات بارتباطها ببعضها البعض. وفي إطار هذه الحرية الاجتماعية يكون الآخر غيرًا تامًا عني، لا حق لي بالسلطة عليه، ولا أقدم له التسامح كمنة أو كجميل مني، ولا أتعامل معه بلغة الحقوق بل بمنطق الأخلاق، أي انطلاقًا من فعل الخير تجاهه.

وهنا ينتقد ليفيناس الفكر الغربي، بأنه فكر الحقوق الذي أعلى الحقوق الفردية ما أهدر الأخلاق سيما الأخلاق في التعامل مع الآخر الذي هو غير مطلق عني.

بغض النظر عن اعتبار ليفيناس للآخر على أنه غير مطلق عن الذات، وهو أمر قد يتم الجدال حوله، إذ إن الآخر هو مثلي في بعض الجوانب (مثل الإنسانية والكرامة والحقوق)، ومختلف عني في جوانب أخرى (مثل طريقة التفكير والآراء التي يحملها، وطباعه وذوقه، ونمط حياته وأنواع لباسه، وغير ذلك من عناصر الاختلاف)، إلا أن ما يطرحه ليفيناس هدف لكبح أي نزوع للسيطرة على الآخر بصورة تامة، بحيث لا يترك أي منفذ تتسرب منه هذه السيطرة سواء بشكلها الكلي أو الجزئي.

في الغرب، تعزز الفردية المطلقة استغلال الآخر واضطهاد، وتعزز الاتجاهات الأفنجليكانية المواقف المسبقة ضد الآخر، وتتنامى الشعبوية التي ترفض الآخر، بما في ذلك ظاهرة كره الأجانب والإسلاموفوبيا.

وفي العالم العربي يؤدي التزمت الديني إلى احتراب بين اتجاهات سنية وشيعية، وعربية وكردية، وتجاهل الحقوق المتساوية للأمازيغ، وذبح للمسيحيين وتفجير كنائسهم كما جرى غير مرة في العراق على أيدي جماعات مسلحة متطرفة.

أما فلسطين المعروفة بوسطيتها التي أشاد بها إدوارد سعيد، واعتمادها التعددية والمشاركة والانتخابات في تاريخها المعاصر كما استنتج إبراهيم أبو لغد، منذ تشكل الجمعيات الإسلامية والمسيحية فيها عام 1918، واعتماد هذه الجمعيات للجنة تنفيذية مشتركة بينها لقيادة الكفاح الوطني ضد الانتداب البريطاني والصهيونية، فقد بدأت تتسرب إليها في السنوات الاخيرة مظاهر لم تكن مألوفة سابقًا. ففي السابق كانت الأعياد المسيحية والإسلامية هي أعياد مشتركة للجميع، يحتفلون بها معًا، ويعايدون بعضهم بعضًا بفرحة وود كأهل وشعب واحد، لا تمييز بين أفراده على أساس الدين.

أما اليوم، فقد بدأت الاتجاهات الدينية المتزمتة تطفو على السطح لتندد باحتفالات الكريسماس في غزة، وتحرق شجرة عيد الميلاد في سخنين. كما اتسع نطاق كره الاتجاهات غير الدينية واتهامها بالمجون، كما جرى بشأن الاحتفال في مقام النبي موسى، الذي قد يكون مناسبًا لو جرى في مكان آخر غير هذا المقام، ولكن ما رافقه من اتهامات للمسيحيين في البداية وللماجنين لاحقًا، يقرع جرس الإنذار حول استمرار تعايش الاتجاهات الإسلامية والوطنية واليسارية معًا في فلسطين، وهو تعايش استمر في فلسطين على مدى عقود، وهناك أيضًا احترام فلسطين لمسيحييها الذين يجب ألا ينظر إليهم على أنهم مجرد أقلية يجب أن تخضع لحكم الأغلبية، فعلى العكس من ذلك، هم جزء من تاريخ بلد ولد فيه المسيح وعاش فيه وصُلب فيه، أي أنهم جزء لا يتجزأ من أصل البلد وتراثها ووجودها، وهو ما يجب أن نعتز به، حيث أطلق المسيح عيسى بن مريم رسالة محبة لكل البشرية من أرض فلسطين، وليس من غيرها من بقاع الارض.

لا مناص للفلسطينيين أن تتجاوز اتجاهاتهم التعامل مع بعضها البعض بلغة الـ”هو”، أو بإطلاق تسمية “البعض” على من أختلف معهم داخل الاتجاه نفسه أو خارجه، ما يعكس استصغارًا لهم وتهميشًا لمواقفهم.

كما لا مناص من التنازل عن لغة التجريم والتخوين، وعقليات إدارة الفصائل والمجموعات من خلال الوصاية، أو استحواذ القيادة أو اللجنة التنسيقية على صلاحية اتخاذ القرار من دون مشاركة، مما يلغي المشاركة ويعكس قلة احترام لحق الآخرين بالمساواة معنا. ومن الضروري أيضًا الانفتاح في التفكير؛ فليس كل شيء هو ثنائيات، إما أسود وإما أبيض، بل توجد ألوان أخرى دائمًا إذا ما أعملنا التفكير جيدًا.

*باحث وكاتب من القدس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى