أقلام وأراء

د. مصطفى الفقي يكتب مستقبل القضية العربية الأولى

د. مصطفى الفقي ٢٤-٥-٢٠٢١م

أنتمي إلى جيل عربي يسبقه جيلان أو ثلاثة على الأقل عاصروا محنة شعب فلسطين منذ ثورته المبكرة في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين. حينها، بدأت مخاطر الوجود الإسرائيلي في أرض فلسطين، خصوصاً أن وعد بلفور عام 1917، كان بمثابة إنذار مبكر للعرب والفلسطينيين معاً، بأن وطناً قومياً لليهود هو هدف صريح وواضح. ولقد تواكبت على قيادات الشعب الفلسطيني شخصيات وطنية ورموز دينية لعل أكثرها شهرة كان هو المفتي “أمين الحسيني” الذي وصلت جهوده إلى برلين، حيث لقيت قضية الشعب الفلسطيني تعاطفاً من الحكم النازي الذي كان ينطلق من قناعة مؤداها أن اليهود هم من خانوا الألمان، وكانوا سبباً في هزيمتهم خلال الحرب العالمية الأولى، وصحا العرب في أعقاب الحرب ليكتشفوا أن الوعود الغربية لليهود أصبحت واقعاً في فلسطين، وانطلق ميثاق إنشاء الجامعة العربية ليعطي ملحقاً وحيداً للقضية الفلسطينية دون غيرها، اعترافاً بأنها القضية المركزية الأولى للعرب والهاجس الأكبر في المستقبل، وبرزت جهود عربية للحد من مخاطر ميلاد دولة إسرائيلية في المنطقة، خصوصاً أن اليهود عاشوا مع العرب جنباً إلى جنب لقرون طويلة، وأن دار الإسلام قد احتوتهم دون تفرقة، أو غضاضة. ولقد بذل العاهل السعودي الملك عبدالعزيز بن عبد الرحمن جهداً في لقائه الرئيس الأميركي روزفلت حينذاك لإظهار مخاوف العرب من مخاطر قيام دولة إسرائيل، وبذل العرش المصري أيضاً مجسداً في الملك فاروق جهوداً أخرى في الميدان ذاته، ولكن السهم كان قد نفذ، والرؤية اتضحت، ومخطط هرتزل في مؤتمر بازل قد أصبح قيد التطبيق العملي فوق الأراضي الفلسطينية، ودخلت الجيوش العربية غداة انسحاب القوات البريطانية لكي تملأ الفراغ وتحمي الشعب الفلسطيني من ممارسات الجماعات اليهودية وعصابات الهاجاناه، ولكن سبق السيف العذل، واعترفت الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي بدولة إسرائيل لتصبح حقيقة واقعة في قلب المنطقة العربية، ومنذ ذلك الحين، وأظن شخصياً أن محاولات حل ما سمي مشكلة الشرق الأوسط، كانت محاولات واهية لا تقدم بديلاً حقيقياً للصراع المحتدم فوق أرض فلسطين.

وتوالت الانتكاسات العربية بعد نكبة 1948، ثم العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، فالنكسة الكبيرة عام 1967، التي لا تزال بصماتها فوق الأراضي العربية حتى اليوم! ويهمني أن أسجل الآن ملاحظات جوهرية على هامش تاريخ قضية العرب الأولى، وأعني بها قضية الشعب الفلسطيني، الذي سلبت أرضه، وهدمت بيوته، وقتل أطفاله في مشاهد مأساوية اعتاد عليها الرأي العام العالمي على مر السنين، كما تعود العرب على سلسلة متصلة من الهزائم السياسية والخسائر العسكرية، وتنامت قوة إسرائيل بدعم من بريطانيا أولاً، ثم فرنسا لفترة محدودة، إلى أن أصبحت الولايات المتحدة الأميركية الراعي الأول لدولة إسرائيل، ولم تفلح قرارات الشرعية الدولية، ولا جهود الأمم المتحدة في وضع إطار قانوني مشترك للتعايش بين العرب واليهود في دولتين مستقلتين كما نصت على ذلك قرارات الأمم المتحدة في مراحل متتالية، فلم يعد أمامنا إلا أن ننظر حولنا لكي نرى شرق أوسط جديداً له ملامح مختلفة، وبه قوى متعددة. وهنا يعنّ لنا أن نطرح الملاحظات الآتية:

أولاً: دعنا نعترف أن العرب عبر العقود الأخيرة، وحتى الآن، لم يكونوا على مستوى المسؤولية التاريخية التي وضعت على كاهلهم جزءاً كبيراً من أعباء القضية الفلسطينية، معترفين بأن الشعب الفلسطيني قد تحمل الكثير من مأساته، ودفع بقوافل الشهداء في بسالة نادرة، وقدم من التضحيات ما لا يجادل فيه أحد، فضلاً عن أنه دفع فاتورة الدم من رجاله ونسائه وأطفاله، ولكن الخطر الإسرائيلي متعدد الجوانب مضى في طريقه وساعده بشكل واضح التشرذم الفلسطيني والصراعات المشهودة على الساحة الفلسطينية على نحو غير مسبوق، والمعروف أن الحركات الوطنية التحررية إذا ابتليت بالانقسام، ودخلت في صراعات داخلية، فإنها تقف على أول طريق العجز عن ممارسة دورها الوطني ومسؤوليتها القومية، لذلك شهدت السنوات الأخيرة منذ رحيل الزعامة الفلسطينية المقبولة نسبياً؛ وأعني بها زعامة ياسر عرفات، فإن الأمر قد اختلف وبدت صورة الشعب الفلسطيني شاحبةً تنزف كل يوم جزءاً من قدراتها على ساحة العمل الفدائي، ولكن كما يقولون فإن القوة تهزم الشجاعة، كما أن أساليب الحرب الحديثة والتكنولوجيا المتقدمة وضعت الإسرائيليين في موضع أفضل، كما سمح الاختراق الأميركي للمجتمع الدولي بانتهاكات واضحة، منها إعلان واشنطن في ظل رئاسة الرئيس الأميركي السابق ترمب أن القدس هي عاصمة أبدية للدولة الإسرائيلية، بل وبدأ الإسرائيليون يتحدثون علانية عن دولة عبرية يهودية أصبحت أمراً واقعاً تدعمها فيه قوى غير متوقعة، ولا أخفي دهشتي من أن النمسا رفعت أعلام إسرائيل فوق دار المستشارية في فيينا أثناء أحداث الحرب الأخيرة في غزة على نحو يمثل استفزازاً غير مسبوق للمجتمع الدولي المعاصر.

وجدير بالذكر أن النمسا هي دولة المستشار اليهودي النمساوي الراحل برونو كرايسكي الذي كان وسيطاً ظاهرياً من أجل السلام بين العرب والإسرائيليين، ويبدو المشهد حالياً غير مبشر بالخير للعرب والفلسطينيين، على الرغم من البسالة المطلقة للشعب الفلسطيني الذي يدفع بقوافل الضحايا كل يوم وهم يستقبلون الرصاص بصدور عارية ونفوس راضية من أجل وطن يعتزون به ويتمسكون بترابه سعياً نحو دولة فلسطينية مستقلة لها عاصمة في منطقة القدس وضواحيها.

ثانياً: إن الجوار العربي المباشر يضم دولتين إسلاميتين كبيريين لكل منهما نظرة سلبية تجاه العرب، فالأطماع الإيرانية في منطقة الخليج معروفة، بل امتدت أيضاً إلى المشرق العربي في سوريا ولبنان، وتجاوزت ذلك إلى جنوب الجزيرة العربية في اليمن، أما الجار التركي فإن نظرته التاريخية للعرب سلبية، وهو يرى أنهم مسؤولون عن هزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولى مثلما كان اليهود مسؤولين عن هزيمة الألمان في تلك الحرب ذاتها، وترتبط تركيا بعلاقات متواصلة مع الدولة العبرية كما أن بينهما تعاوناً تجارياً وعسكرياً وتنسيقاً سياسياً لا يخفى على أحد، في الوقت الذي يبدو فيه الوضع في إيران وعلاقتها مع إسرائيل وضعاً ملتبساً تحيط به علامات الاستفهام والرؤى المتضاربة، خصوصاً بعد قيام الجمهورية الإسلامية في طهران منذ عام 1979.

ثالثاً: لا بد أن نعترف بأن إسهامنا كعرب في حضارة العصر محدود للغاية، وأننا أصبحنا أمة استهلاكية على الرغم من بعض الجهود الفردية لعدد من الدول العربية، ومع ذلك فالأمر لا يبشر بخير كثير، فالتعليم العربي متراجع، والبحث العلمي متخلف، والانطلاق نحو آفاق المستقبل يبدو بطيئاً في وقت أصبحت فيه إسرائيل جزءاً لا يتجزأ من الكيان الغربي المتقدم مع ترسانة نووية وقدرات عسكرية مدعومة بقوة سياسياً واستراتيجياً من الولايات المتحدة الأميركية، كذلك فإن الثقافة العربية التي تحدد الإطار العام لمدونة السلوك القومي قد تغيرت هي الأخرى وما كان محرماً بالأمس أصبح مباحاً اليوم، وغاب الحياء القومي لتطل من خلاله الضغوط الخارجية والتدخلات الأجنبية. إننا نقف على مفترق طرق لا نعرف معه أين نحن في عالم اليوم بصراعاته وتجاوزاته، بل وجرائمه.

رابعاً: سيقف تاريخ المنطقة طويلاً أمام ما سمي الربيع العربي، بدءاً من عام 2010، الذي بشرت به عبارات كوندليزا رايس عن الفوضى الخلاقة التي غيرت وجه الشرق الأوسط وجعلتنا أمام خريطة سياسية مضطربة لا تخلو من مفاجآت قومية تدور حول الثوابت، ولكنها تسرع الخطى بأسباب لا مبرر لها وهي تدعو في النهاية إلى عالم مختلف وشرق أوسط جديد، فالأحداث متسارعة والتطورات متلاحقة والعمل العربي المشترك في غيبة عن المشهد الراهن بكل مشكلاته وأسباب انهياره.

خامساً: إن النقد العربي الذاتي يلزمنا بأن نكون أمناء مع الحقيقة كي نؤكد أن الانكفاء القطري لكل دولة عربية على شؤونها الداخلية وتغليب الأجندات الوطنية على الأجندة القومية الواحدة قد ترك آثاراً واضحة على المسرح السياسي في العالم العربي، فأصبحت كل دولة تفكر بمنطق القطر الواحد، وليس بمشاعر الأمة الواحدة، وكثيراً ما نكتشف تعارضاً في الأجندات الوطنية نتيجة ارتباطات أجنبية أو التزامات خارجية، بينما كل الشعارات مرفوعة والكلمات الطيبة مكررة، ولا أمل لنا إلا في تحول جذري داخل العقل العربي بحيث يعي ما يجب أن يفعل وأن يحسب بدقة خطواته المقبلة حتى لا يتكرر المشهد الأليم الذي نراه هذه الأيام، معترفين بأن اختراقات أمنية لا تزال تمزق الصفوف الفلسطينية وتعبث بالتماسك المطلوب في ظل حالة الانقسام التي لم نرَ لها مثيلاً من قبل.

إن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية العربية الأولى عشنا معها وعليها لسنوات طويلة حتى انتقلنا من مرحلة حل الصراع إلى مرحلة إدارة الصراع، وقد حان الوقت لكي نبرأ من أمراضنا ونستيقظ من غفوتنا وندرك أننا أمام منعطف تاريخي خطير يستوجب منا اليقظة التامة والشفافية الكاملة والوعي الشديد دون شعارت جوفاء أو ضجيج أحمق، فالعبرة تكون بالسياسات الرشيدة والمواقف البناءة والقدرة الشجاعة على مواجهة التحديات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى