أقلام وأراء

د. مصطفى الفقي يكتب – روسيا والعرب والمصالح

د. مصطفى الفقي *- 2/11/2021

تضرب العلاقات بين روسيا والعرب في جذور التاريخ، ولقد صادفت مؤخراً مذكرات قديمة لبعض علماء الأزهر الشريف ممن زاروا روسيا منذ قرنين من الزمان وكيف كانت رؤيتهم للأوضاع العامة في ذلك البلد الأرثوذكسي الكبير؛ إذ إن الكنيسة الأرثوذكسية واحدة من أكبر الكنائس الشرقية على الإطلاق ولها علاقة وثيقة بروسيا، ولعلنا نتذكر البابا القبطي بطرس الجاولي عندما زاره مبعوث القيصر الروسي عارضاً عليه حماية روسيا للأقباط المصريين، فرد عليه ذلك البابا الوطني المستنير قائلاً: إن لي سؤالاً هل يموت القيصر أم يعيش إلى الأبد؟ فقالوا له: إنه يموت كغيره من البشر. فرد عليهم: «إننا هنا في حماية الحي الذي لا يموت مشيراً إلى الرب الذي يرعى الجميع من مختلف الديانات والطوائف». ولعلنا نجازف فنقول إن نظرة الروس إلى الإسلام والمسلمين لا تخلو من قلق وحذر واضحين. ولقد تنامت العلاقات بين الروس والعرب على المستوى السياسي في القرون الثلاثة الأخيرة وربما كانت سيطرة الدولة العثمانية على المنطقة العربية أحد عوامل الجذب التي شدت الروس إلى الشرق الأوسط وفتحت شهية أبناء القومية السلافية نحو العرب والعروبة وذلك بسبب العلاقات شديدة الحساسية تاريخياً بين الروس والترك نتيجة الصراع حول المضائق والتنافس المحتدم لرغبة روسيا الدائمة في الوصول إلى المياه الدافئة.

والذي يعنينا الآن بصفة خاصة هو طبيعة العلاقات السياسية بين الدول العربية والاتحاد الروسي في ظل المتغيرات التي شهدتها أقاليم العالم المختلفة خصوصاً بعد انتهاء الحرب الباردة والدخول في منافسات اقتصادية حادة تلعب فيها الصين دوراً ملموساً، وتسعى من خلاله روسيا إلى تثبيت أوضاعها في مناطق مختلفة من العالم وذلك حماية لمصالحها ورغبة في المزيد من السيطرة على بعض البقاع، خصوصاً في الشرق الأوسط وإفريقيا. ولقد دخلت روسيا الشرق الأوسط من البوابة المصرية في مرحلة تصفية الاستعمار الغربي وتنامي حركة التحرر الوطني في ظل العصر الناصري، لكن ذلك لا يعني أبداً أنها كانت متعاطفة تماماً مع العرب في مسألة القضية الفلسطينية، فهي واحدة من الدول الأولى التي أعلنت تأييدها لقيام دولة إسرائيل فور الإعلان عنها في الأمم المتحدة، كما أن المكون السكاني لليهود في فلسطين يضم نسبة كبيرة من اليهود الروس الذين شكلت هجرتهم نسبة ملحوظة من الجانب اليهودي في إسرائيل، وقد يكون من المفيد أن نعرض في ملاحظات ثلاث النقاط الآتية:

*أولاً: تتطلع موسكو دائماً إلى وجود موضع قدم لها في الشرق الأوسط وخصوصاً في المنطقة العربية، فإذا أخرجها السادات من بوابة مصر فإنها تدخل من بوابات أخرى في مقدمتها الآن سوريا، فهي الدولة العربية ذات الأهمية الاستراتيجية الخاصة وتعتبر مفتاح الأمن القومي في المشرق العربي، لذلك أقامت روسيا قاعدة بحرية في اللاذقية وزادت على ذلك اهتماماً خاصاً بالدولة السورية، وقد أصبحت الركيزة المهمة الوحيدة للروس في الشرق الأوسط.

*ثانياً: ظلت العلاقات الدبلوماسية متجمدة بين دول الخليج العربي وروسيا لسنوات طوال، وجرى حسبان روسيا على المعسكر المعادي لها بسبب دعمها طويل المدى لمصر، لكن الأمور تغيّرت وما زلنا نتذكر ذلك المشهد الحميم للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومعه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان منذ سنوات قليلة، وهكذا تبدلت الأدوار في ظل الفهم الجديد للتحالفات الناقصة التي لا تستلزم تطابقاً كاملاً في السياسات الخارجية أو الداخلية، فقد أصبح مقبولاً أن تقيم دولتان علاقات طيبة لمجرد أنهما متفقتان في سياستهما على 60 في المئة من وجهات النظر، باعتبار أن ذلك يكفي، وأن التطابق لم يعد هو سمة العصر، لذلك تزايدت العلاقات الروسية الخارجية وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من السياسة الإقليمية لمنطقة غرب آسيا بدءاً من الخليج العربي وصولاً إلى شمال إفريقيا، ولم يعد في مقدور كل دولة عربية أن تقيم علاقات حرة مع روسيا الاتحادية دون قيود ترتبط بملابسات الماضي وأوضاعه السابقة.

*ثالثاً: لا ينكر أحد أن الشهية الروسية قد تفتحت على القارة الإفريقية خصوصاً في شرقها؛ حيث منطقة القرن الإفريقي بما تمثله من أهمية استراتيجية كمدخل مؤثر للقارة السمراء من البحر الأحمر وحتى بحر العرب، والذين تابعوا أزمة سد النهضة وتحدثوا كثيراً عن مواقف الدول في مجلس الأمن واستغربوا الموقف الروسي المؤيد ضمناً للجانب الإثيوبي غاب عنهم أن ذلك يحدث لأسباب تتصل بالمصالح الحالية والمحتملة للدولة الروسية في شرق القارة الإفريقية خصوصاً أن موسكو قد وصلت تاريخياً للحدود القصوى لعلاقتها مع السودان ومصر، فالدول تبحث عن مصالح جديدة ولا ترتبط بمبادئ تشدها في اتجاه واحد.

هذه ملاحظات سريعة حول العلاقات العربية بالاتحاد الروسي وتأثيرها على المستقبل، وهي كلها تشير إلى اتجاه يتصل بالمصالح القومية للروس وليس بالأيديولوجية الماركسية المعروفة لهم كما كان الأمر من قبل.. أجل لقد سقطت الأيديولوجيا بأفكارها وجاءت القومية بالتزاماتها.

* دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب .

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى