أقلام وأراء

د. مصطفى البرغوثي يكتب – فلسطين : الانتقال من الدفاع إلى الفعل المبادر

بقلم  د. مصطفى البرغوثي *- 9/12/2020

منذ انهيار مفاوضات كامب ديفيد وانطلاق الانتفاضة الثانية في فلسطين عام 2000، وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من ايلول عام 2001، عملت الحكومات الإسرائيلية، واذرعها من المنظمات الصهيونية، على شن هجوم متعدد الجوانب على الحركة الوطنية الفلسطينية، هدفه نزع إنسانية الفلسطينيين ونضالهم، وتشويه صورتهم، ووضعهم على النطاق الدولي في موقف الدفاع، من خلال اغتيال الرواية الفلسطينية وتكريس الرواية الإسرائيلية، للتاريخ، والأحداث، والواقع برمته.

وتركز الهجوم الإسرائيلي على خمسة محاور:

المحور الأول : أن الفلسطينيين هم الذين يضيعون فرص الحل عبر التفاوض، وأن العروض الإسرائيلية لإقامة دولة فلسطينية قوبلت بالرفض الفلسطيني لأن الهدف الحقيقي للفلسطينيين هو تدمير إسرائيل. والخبث العميق في مضمون هذا الطرح أنه يسعى لإلباس إسرائيل رداء الضحية، وجعل الفلسطينيين في موقع المعتدي. ورغم أن الأمر يبدو جنونياً، عندما يتذكر المرء أن إسرائيل هي التي تحتل أرض الفلسطينيين وليس العكس، وهي التي نفذت واحدا من أسوأ أشكال التطهير العرقي في القرن العشرين ضدهم، وأنها تمارس تجاه الفلسطينيين نظام الأبرتهايد الأسوأ في التاريخ البشري، وأن الساسة الإسرائيليين كافة دأبوا على رفض ومنع قيام دولة فلسطينية مستقلة، ولكن المنهج الإسرائيلي ترسخ في الوعي السياسي والدبلوماسي العالمي، بل إنه دخل وعي المحيط العربي، عبر جهود التطبيع، وفي إطار تبريره.

المحور الثاني:وسم النضال الفلسطيني بالإرهاب، ومقاومته الشعبية بالعنف، واتهام قادته بالتحريض، كلما تصدوا ولو بالكلام، للاحتلال والأبرتهايد.

المحور الثالث:الهجوم على حركة المقاطعة (BDS) ووصفها، رغم طابعها السلمي والحضاري، باللاسامية، وتمديد مصطلح اللاسامية بعد إحتكار الانتساب للعرق السامي من قبل اليهود ورغم أن اليهود وكل العرب ساميون، ليشمل أي انتقاد لإسرائيل وسياساتها، أي الخلط المقصود بين العداء لليهود كبشر، وبين انتقاد ومكافحة سياسات الحكومة الإسرائيلية، والاحتلال الذي تمارسه، ونظام الأبرتهايد الذي أنشأته.

ويعزز هذا المحور بانتظام جعل إسرائيل وحكامها وحركتها الصهيونية فوق القانون الدولي ومنح الحصانة لهم من المساءلة والمحاسبة.

المحور الرابع :الهجوم على الأسرى الفلسطينيين وشهداء الشعب الفلسطيني ووصفهم بالإرهابيين، حتى لو كانوا شهداء برصاص جيش الإحتلال وهم في بيوتهم ومدارسهم ومظاهراتهم الشعبية، أو خلال أكثر أشكال النضال سلمية.

ومن المؤسف أن هذا الهجوم تصاعد ليصل إلى إجبار البنوك المقيمة في فلسطين، والتي تجني أرباحها من الفلسطينيين، على إغلاق حسابات الأسرى، وليصل إلى درجة الضغط على السلطة الفلسطينية لتغيير آليات دفع مخصصاتهم .

أما المحور الخامس: وهو ليس الأخير، فهو الاستمرار في الهجوم على المناهج الدراسية الفلسطينية لتغييرها ونزع السمات الوطنية عنها، مع تجاهل تام لكل التحريض العنصري الذي تتضح به المناهج الإسرائيلية، ووسائل الإعلام الصهيونية، وتفوهات عدد كبير من الساسة ورجال الدين الإسرائيليين، الذين لم يتورع بعضهم عن وصف الفلسطينيين “بالحشرات والصراصير”.

ودون الاستمرار في شرح محاور أخرى للهجوم الاحتلالي، سنتركها لمقالات قادمة، لا بد من الإشارة إلى الآثار الخطيرة التي خلفها الهجوم الإسرائيلي في مختلف المحافل.

ومنها إدراج الاتحاد الأوروبي لخمس حركات سياسية فلسطينية وطنية في قائمة الإرهاب، وإقدام برلمانات أوروبية كالبرلمانين الفرنسي والألماني على حظر المقاطعة، في إعتداء فظ على حرية الرأي والتعبير التي تمثل أساس الفكر الديمقراطي، ومحاولات فرض شروط لتقييد التعاون مع مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني، والتضييق على ميادين عمله.

وتتولى ثلاث مؤسسات إسرائيلية، تديرها أجهزة الأمن الإسرائيلية تنفيذ هجمات متتالية على المؤسسات الفلسطينية الرسمية والأهلية، وعلى مؤسسات الأمم المتحدة، ومختلف وكالات التنمية الدولية . والهدف المركزي لكل هذه المحاور والمنظمات والهجمات هو تجريد الفلسطينيين من قدرتهم على الصمود والمقاومة ومن حقوقهم، بما في ذلك حقهم الذي يقره القانون الدولي والمعاهدات الدولية والأديان السماوية، في مقاومة الظلم والاضطهاد، ومحاولة سلبهم حتى حق التعبير عن الرأي، وإجبارهم على البقاء في مواقع الدفاع السلبي دون القدرة على القيام بمبادرات هجومية ضد من يضطهدونهم ويحتلون أرضهم ويسلبون حقوقهم.

ولا يمكن التصدي للإستراتيجية الهجومية الإسرائيلية بالبقاء في مواقع الدفاع، والاستمرار في تقديم التنازلات، على أمل تخفيف حدة الهجوم.

القانون الدولي، والقانون الإنساني الدولي، ومواثيق وقرارات الأمم المتحدة، والتاريخ الإنساني يعطي الفلسطينيين كامل الحق للإنتقال إلى سياسة مبادرة هجومية، والإصرار الكامل على روايتهم، وعلى حقوقهم.

وأهم عنصر في انتزاع زمام المبادرة الهجومية، هو تعرية نظام الأبرتهايد والتمييز العنصري الإسرائيلي، الذي أنجبه الإحتلال الأطول في التاريخ الحديث. والانتقال الفوري إلى بناء شبكات ضغط مؤثرة، تلتحم بحركات التضامن مع الشعب الفلسطيني، ومنظمات المقاطعة، والقوى والعناصر التقدمية ووسائل الإعلام في كل المجتمعات الأوروبية والدولية.

المبادرة الإستراتيجية الهجومية المطلوبة تحتاج إلى رؤية واضحة وراسخة، وتنظيم نشط مبادر، ومنهجية مثابرة لا تترك مسؤولاً، أو هيئة، أو حزبا، أو حكومة دون محاولة اقناعها بعدالة الرواية الفلسطينية .

وذلك لا يمكن أن يتحقق بجهود الفلسطينيين وحدهم، بل من خلال إحياء وخلق شبكات التضامن في عودة لما كان تقاليدا لحركة التحرر الوطني الفلسطينية قبل أن تتعثر طاقاتها في غياهب إتفاقيات ظالمة، وسلطة تحت الاحتلال.

*الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى