#شوؤن دولية

د. محمد عباس ناجي: كيف تفكر قيادة الصين في الأزمات الإقليمية والدولية؟

د. محمد عباس ناجي 14-5-2024: كيف تفكر قيادة الصين في الأزمات الإقليمية والدولية؟

د. محمد عباس ناجي
د. محمد عباس ناجي

ظهرت الصين كثيراً في مُحرِّكات البحث خلال العامين الماضيين. ربما لا يكون ذلك جديداً أو مُفاجِئاً، خاصة أن الصين عملاق اقتصادي وشريك تجاري كبير على المستوى الدولي. لكن الجديد في الأمر هو أن هذا الظهور لم يكن نابعاً فقط من هذه القوة أو الشراكة، وإنما أيضاً من الدور الجديد الذي بدأت تضطلع به بكين، والذي بات يكتسي طابعاً سياسياً على الأقل في عناوينه الرئيسة.

يكفي أن تُطالِع “جوجل” لتجد أن كلمات مثل “اتفاق بكين”، و”الوساطة الصينية”، و”محادثات بكين”، أصبحت قاسماً مشتركاً في كثير من الأحداث والأبحاث. ويعود ذلك في المقام الأول إلى المبادرات التي طرحتها الصين بشأن قضايا دولية مثل “الأمن العالمي”، فضلاً عن الجهود التي بذلتها في بعض الملفات الإقليمية والدولية، على غرار الحرب الروسية-الأوكرانية، والتوتر الإيراني-السعودي، والخلاف بين حركتي حماس وفتح الفلسطينيتين.

انخراط متصاعد

طرحت الصين، في 20 فبراير 2023، مبادرة “الأمن العالمي”، والتي تهدف -بحسب رؤيتها- إلى القضاء على العوامل التي تؤدي إلى تفاقم الأزمات الدولية. كما تبنت، في 24 فبراير 2023، مبادرة لتسوية الأزمة التي فرضتها الحرب الروسية-الأوكرانية بالتوافق مع حلول الذكرى الأولى للحرب التي اندلعت في فبراير 2022. وقد تجدد الحديث عنها مع الجولة الأوروبية التي قام بها الرئيس الصيني شي جين بينج، في الفترة من 6 إلى 10 مايو 2024، وشملت كلاً من فرنسا وصربيا والمجر. وقامت الصين أيضاً برعاية اتفاق استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، في 10 مارس 2023. كما أعلنت عن استضافة محادثات بين حركتي فتح وحماس الفلسطينيتين، في 30 أبريل 2024.

وقد دفع ذلك اتجاهات عديدة إلى ترجيح سعي الصين نحو ممارسة دور دولي جديد كـ”وسيط دبلوماسي” وليس “شريكاً تجارياً” فقط. بل إن قوى دولية عديدة، بما فيها قوى مُنافِسة للصين، اندفعت إلى مطالبة الأخيرة بالانخراط في بعض الأزمات، على غرار الولايات المتحدة الأمريكية، التي طالبت الصين بالتدخل لدى إيران ومليشيا الحوثيين من أجل وقف الهجمات التي تشنها الأخيرة في البحر الأحمر وتسببت في تهديد وارتباك حركة التجارة العالمية منذ 19 نوفمبر 2023.

وكان لافتاً أن هذا الزخم الذي حظي به دور “الوسيط” الذي تمارسه الصين، توازى مع حلول الأخيرة في المرتبة الأولى عالمياً كـ”أكبر قوة دبلوماسية” على مستوى العالم، متفوقة بذلك على الولايات المتحدة الأمريكية التي جاءت في المرتبة الثانية، وفقاً لتقرير “مؤشر الدبلوماسية العالمية لعام 2024″Lowy Institute Global Diplomacy Index 2024، الذي أصدره معهد Lowy Institute، ومقره في مدينة سيدني، في 24 فبراير 2024، ويضم 66 دولة، ويعتمد على متغيرات عديدة من بينها عدد البعثات الدبلوماسية للدولة على مستوى العالم.

متغيرات رئيسة

رغم كل ما سبق، يبدو أن ترجيح اتجاه الصين إلى ممارسة دور دبلوماسي واسع كـ”وسيط” على المستويين الإقليمي والدولي مغامرة كبيرة. إذ يمكن القول إن ثمة متغيرات أربعة رئيسة سوف يكون لها دور في ضبط مساحة هذا الدور الذي يمكن أن تقوم به الصين، وتتمثل في:

1- مدى تأثر المصالح الاقتصادية: ما زالت المصالح الاقتصادية تُمثل المُحرِّك الرئيس للدور الذي تقوم به الصين على المستويين الإقليمي والدولي، حتى لو كان عنوانه الرئيس سياسياً. وهنا، فإن المقارنة بين موقفي بكين في أزمتين مختلفتين يمكن أن تكشف المدى الواسع لتأثير هذه المصالح على هذا الدور، وهما التوتر الإيراني-السعودي، والتصعيد الحوثي-الغربي في البحر الأحمر.

ففي الحالة الأولى، قامت الصين برعاية اتفاق بكين، الذي تم توقيعه بين السعودية وإيران في 10 مارس 2023، وقضى باستئناف العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين بعد سبع سنوات من قطعها نتيجة الاعتداء على مقار البعثة الدبلوماسية السعودية في إيران في يناير 2016. وعقب الإعلان عن هذا التطور، بدأت التكهنات تشير إلى أن الصين تسعى إلى الاضطلاع بدور دبلوماسي أكبر في منطقة الشرق الأوسط، بل ومزاحمة الولايات المتحدة الأمريكية كقوة دولية رئيسة في المنطقة.

لكن التمعن في قراءة المعطيات التي صاحبت التوقيع على هذا الاتفاق وما تلاه من تطورات يوحي بأن المصالح الاقتصادية كانت العنوان الأبرز للدور الصيني في هذا الملف. إذ إن الصين هي الشريك التجاري الأول للرياض وطهران، فضلاً عن أن نصف وارداتها من الطاقة يأتي من منطقة الشرق الأوسط وتحديداً من منطقة الخليج العربي. ومن هنا، فإن بكين اعتبرت أن استمرار التوتر بين إيران والسعودية يمكن أن يؤثر على تلك المصالح الحيوية بالنسبة لها، على نحو دفعها إلى القبول بممارسة دور الوسيط بين الطرفين.

أما في الحالة الثانية، فلم تسجل الصين حضوراً لافتاً في التوسط من أجل وقف التصعيد العسكري بين المليشيا الحوثية والدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، بعد أن بدأت الأولى في احتجاز سفن تجارية في البحر الأحمر، منذ 19 نوفمبر 2023، وما أعقب ذلك من تشكيل القوة البحرية “حارس الازدهار” في 18 ديسمبر 2023، ثم قيام الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بشن ضربات ضد مواقع المليشيا بداية من 12 يناير 2024.

وهنا، فإن اتجاهات عديدة ربطت بين عزوف الصين عن الانخراط بقوة في جهود إنهاء هذا التصعيد وبين التباين في المواقف الصينية والأمريكية إزاء الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، حيث حرصت الولايات المتحدة الأمريكية على الفصل بين الحرب في غزة والتصعيد في البحر الأحمر، فيما أصرت بكين على وجود علاقة طردية بينهما.

لكن هذا الربط، الذي يكتسب طابعاً سياسياً بامتياز، لا يُفسر أسباب عزوف الصين عن التدخل لوقف هذا التصعيد بشكل كامل. فالمسألة ليست بعيدة بدورها عن مصالح بكين الاقتصادية، التي كان لافتاً أنها لم تتضرر بصورة كبيرة جراء هذا التصعيد.

صحيح أن هذا التصعيد أدى إلى ارتفاع أسعار التأمين، ودفع كثيراً من الشركات إلى استخدام طريق رأس الرجاء الصالح كبديل لقناة السويس؛ إلا أنه في الوقت نفسه لم يسجل استهدافاً واسع النطاق للسفن الصينية، بل إن وكالة “بلومبيرج” كشفت، في 21 مارس 2024، أن الصين وروسيا اتفقتا مع مليشيا الحوثيين على عدم استهداف سفنهما. وأشارت الوكالة نفسها، في 6 فبراير 2024، إلى أن الشركات المملوكة للصين تتحمل تكاليف تأمين أقل عند المرور عبر البحر الأحمر مقارنة بالشركات المملوكة للدول الغربية.

2- التكلفة المحتملة للدور الدبلوماسي: تعي الصين أن الاضطلاع بدور دبلوماسي في بعض الأزمات الإقليمية والدولية بقدر ما يمكن أن يساهم في حماية مصالح محددة، بقدر ما يمكن أن يفرض تكلفة ربما لا تبدو في وارد دفعها على الأقل في المرحلة الحالية. وهنا، فإن ذلك يضع حدوداً للتكهنات التي كانت تُرجِّح اتجاه بكين إلى مزاحمة أو منافسة الولايات المتحدة الأمريكية في مواقع نفوذها التقليدية في الشرق الأوسط أو أوروبا على سبيل المثال. إذ إن اضطلاع واشنطن بهذا الدور كان له تأثير بالفعل في حماية مصالح أمريكية محددة، لكنه في الوقت نفسه اضطرها إلى دفع تكلفة لذلك. فضلاً عن أنه في بعض الأحيان فرض تداعيات عكسية على تلك المصالح، على نحو دفعها إلى إعادة صياغته في بعض الحالات، مثلما حدث عندما انسحبت من أفغانستان في أغسطس 2021.

بل إن واشنطن اضطرت في بعض الأحيان إلى التدخل عسكرياً للدفاع عن مصالحها، وهو خيار أصبح أكثر تكلفة بالنسبة لها، على غرار ما حدث عندما تعرضت قاعدتها العسكرية في شمال شرق الأردن “البرج تي 22” لهجوم بمسيرة في 28 يناير 2024، بشكل أدى إلى مقتل 3 جنود أمريكيين. وقد ردت واشنطن على ذلك بتوجيه ضربات عسكرية ضد بعض المليشيات المسلحة في العراق وسوريا في 3 فبراير 2024.

هنا، يمكن القول إن هذه التكلفة المحتملة للدور ربما كانت السبب الرئيس الذي دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى ما يمكن تسميته بـ”التغاضي” عن هذا الدور الذي تحاول الصين ممارسته أو تُدعَى إلى ذلك. إذ إن ذلك قد يمثل استدراجاً لبكين للاشتباك مع ملفات إقليمية ودولية عديدة، وبالتالي تشتيت جهودها وتقليص إصرارها على إضفاء طابع اقتصادي على تحركاتها في الخارج، والأهم هو إجبارها على دفع تكلفة لهذا الدور.

3- التخوف من استقطاب الخصوم: رغم أن الصين في سعيها لممارسة دور دبلوماسي في بعض الملفات تستند إلى عناوين رئيسة مثل “دعم الاستقرار” و”نبذ النزاعات”، إلا أن ذلك لا ينفي أن هذا الدور يمكن أن يستقطب مزيداً من الخصوم لها. ويعود ذلك إلى أنه لا يمكن افتراض أن كل القوى والأطراف المعنية بهذه الملفات سوف تقبل بهذا الدور أو بالمعطيات الجديدة التي سوف ينتجها.

ومن دون شك، فإن الصين لا تبدو في حاجة إلى توسيع “قائمة الخصوم”، وهي قائمة مرشحة لذلك بالفعل. فعلى سبيل المثال، لا يمكن استبعاد أن تتعرض مصالح بكين للتهديد من قبل التنظيمات الإرهابية، على غرار تنظيم “داعش”، أو عصابات القرصنة التي بدأت تظهر مجدداً في منطقة القرن الأفريقي، وهو ما يمكن أن يستدرجها إلى خيارات لا تبدو في وارد الاستناد إليها حالياً.

فضلاً عن ذلك، فإن سعي الصين إلى الظهور في صورة “الوسيط المحايد” قد لا يحقق نتائج كبيرة. ويبدو ذلك واضحاً في محاولاتها للتوسط في الحرب الروسية-الأوكرانية. فرغم اهتمام الدول الأوروبية باستمرار التواصل معها، على نحو بدا جلياً في الزيارات التي قام بها بعض القادة الأوروبيين مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز إلى بكين، فضلاً عن الجولة الأخيرة التي قام بها الرئيس الصيني في فرنسا وصربيا والمجر؛ إلا أن ذلك في مجمله لا ينفي أن هناك توجهات أوروبية ترى أن الصين أقرب إلى روسيا، وهو ما يقلص من أهمية ووجاهة المبادرة السابقة التي طرحتها لتسوية الأزمة.

4- تحسين الصورة الدولية للصين: وهو اعتبار مرتبط بحسابات داخلية تحظى باهتمام خاص من جانب بكين. إذ تواجه الأخيرة اتهامات وانتقادات مستمرة في ملف حقوق الإنسان، بعضها يتم توظيفه سياسياً في إدارة العلاقات معها، على غرار النهج الذي تتبناه الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الصدد.

لكن بصرف النظر عن توظيف ذلك الملف من عدمه، فإن الصين تبدو مهتمة بتحسين صورتها في هذا الملف. وربما يكون ذلك أحد العوامل التي دفعتها إلى الانخراط في ملفات سياسية محددة، مثل ملف المصالحة بين حركتي فتح وحماس الفلسطينيتين. إذ أثار حرص بكين على استضافة محادثات بين الحركتين، أعلن عنها في 30 أبريل 2024، تساؤلات عديدة عن دوافعها ومصالحها في هذا الصدد.

واكتسبت هذه التساؤلات زخماً خاصاً مع الوضع في الاعتبار أنه لم يكن متوقعاً أن تسفر تلك المحادثات عن تجسير الفجوة الواسعة بين الطرفين، اللذين حرصا على شن حملات متبادلة حتى بعد تلك المحادثات.

وهنا، لا يمكن استبعاد أن يكون من ضمن حسابات الصين تحسين صورتها والترويج لأنها تسعى إلى تسوية خلافات بين قوى وأطراف “عربية وإسلامية” لمواجهة الاتهامات التي تتعرض لها بارتكاب انتهاكات ضد أقلية الإيغور المسلمة. ومن دون شك، فإن ذلك بدوره لا ينفصل عن سعيها لحماية مصالحها الاقتصادية، التي يعتمد قسم كبير منها على علاقاتها القوية مع دول عربية وإسلامية عديدة.

ويلاحظ هنا، أن دور الصين في هذا الصدد كان أكثر بروزاً على الصعيد الفلسطيني-الفلسطيني، وليس الفلسطيني-الإسرائيلي. ورغم أن بكين تبنت سياسة مختلفة عن سياسات الدول الغربية إزاء الحرب الإسرائيلية في غزة، وانعكس ذلك في مواقفها في مجلس الأمن الدولي؛ إلا أنها بدت عازفة عن الانخراط بدرجة أكبر في هذا الملف على الأقل حتى الآن.

وهنا، فإن ذلك بدوره يطرح دلالة أخرى تنصرف إلى أن الصين تدرك حدود دورها على الأرض في بعض الملفات، وفي مقدمتها الملف الفلسطيني-الإسرائيلي، الذي تعد الولايات المتحدة الأمريكية القوة الدولية الرئيسة المنخرطة فيه، وهو ما أثبتته الحرب الأخيرة التي بدأت في 7 أكتوبر 2023. إذ تدرك بكين أن رصيدها لا يبدو كافياً لممارسة دور في هذا الملف، في حين أنها تمتلك رصيداً أكبر في الملف الفلسطيني-الفلسطيني، سواء في ظل تبنيها لمبدأ “حل الدولتين”، أو تأسيسها علاقات مع بعض الفصائل الفلسطينية، وفي مقدمتها فتح، منذ عقود عديدة.

عمليات حسابية

في النهاية، يمكن القول إن ما سبق في مجمله يوحي بأن الصين لديها قدرة على إجراء عمليات حسابية على الأرض، تستطيع من خلالها تقييم الفرص والمخاطر التي يمكن أن يفرضها أي دور دبلوماسي تضطلع به على الساحة الدولية. وسواء كانت لدى بكين رغبة في ممارسة هذا الدور أو دُعِيَت إليه من قبل قوى أخرى، فإنها في النهاية تستبق ذلك بإجراء دراسة جدوى لاستشراف تأثير ذلك على مصالحها الاقتصادية في المقام الأول.

انترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى