أقلام وأراء

د. محمد أبو رمان: 7 أكتوبر… التداعيات الجيوسياسية الكبرى

د. محمد أبو رمان 7-10-2025: 7 أكتوبر… التداعيات الجيوسياسية الكبرى

شكّلت عملية طوفان الأقصى نقطة تحوّل في التاريخ السياسي في منطقة الشرق الأوسط، وكانت لها أبعادها وتداعياتها الاستراتيجية، ليس فقط إقليمياً ومحلّياً فلسطينياً، بل حتى عالمياً، على صعيد السياسات الخارجية للقوى العظمى تجاه المنطقة. اللحظة التي جاءت فيها العملية اتسمت بأنّها انتقالية في النظام الإقليمي، مع عدم وجود توافق بين اللاعبين الدوليّين والإقليميّين على قواعد اللعبة الإقليمية، بالرغم من وجود قدر من الردع والتوازن في القوى، بين ما يطلق عليه محور الممانعة بقيادة إيران (معها النظام السوري وحزب الله والقوى السياسية – الشيعية في العراق و”الحوثيون” في اليمن وحركتا حماس والجهاد الإسلامي) وإسرائيل التي كانت تعيش مرحلة جديدة من العلاقة بالإقليم، تتمثّل بالتطبيع الإقليمي عبر الاتفاقات الإبراهيمية مع عدة عواصم عربية، والأخرى كانت في الطريق، وهو ما أوجد حالةً غير مسبوقة من تموضعات الدول والحكومات العربية، مقارنةً بالعقود السابقة، بخاصّة مع تراجع دور الدول المركزية تقليدياً في المنظومة السياسية العربية، مثل مصر والعراق وسورية، في مقابل صعود الخليج العربي، أو ما أصبح محلّلون سياسيون يطلقون عليه “الشرق الأوسط الجديد” (الثري والاقتصادي والبعيد عن المشكلات الإقليمية التاريخية، في مقابل الشرق الأوسط القديم الذي تعشش فيه الأزمات والصراعات التاريخية والكبرى).

أمّا تركيا، التي كان لها دور داعم لحركة التغيير في “الربيع العربي”، ولتيارات إسلامية عديدة إقليمياً، فقد كانت هي الأخرى في مرحلة جديدة من إعادة التموضع، وإعادة تعريف الدور الإقليمي والمصالح الاستراتيجية، والتصالح مع دول عربية، ومحاولة التوافق مع نظام بشّار الأسد (الأخير هو الذي تعنّت وتمسّك بالرفض)، مع التركيز في الأمن القومي التركي والحدود السورية الشمالية.

فلسطينياً، كانت هنالك حالة من الاسترخاء الإسرائيلي تجاه قطاع غزّة، وشعور بعدم وجود دافع لحركة حماس بخرق الوضع القائم (Status Quo)، في مقابل حالةٍ من التوتر في الضفة الغربية مع صعود مجموعات مقاومة صغيرة في بعض المخيمات في نابلس وطولكرم وجنين، وكان هنالك تنظير لدى بعض السياسيين الإسرائيليين والغربيين حول سيناريو “دويلة في غزّة” بديلاً من الدولة الفلسطينية.

دولياً، وإن لم تكن إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن تحمل الحماس نفسه للاتفاقات الإبراهيمية أو حتى لصفقة القرن، إلا أنّها لم تقد مقاربةً سياسيةً بديلةً، بل كانت تتمسّك عملياً بما طرحته إدارة ترامب في مرحلتها الأولى، وفي المسار نفسه، الذي يقوم على مفهوم “السلام الإقليمي”؛ بمعنى إقامة نظام إقليمي اقتصادي جديد يدمج إسرائيل في المنطقة، والتعامل مع الفلسطينيين عبر تفاصيل الحياة اليومية الاقتصادية والخدماتية، وحل مشكلات البطالة وتوفير فرص عمل وتحسين الظروف الاقتصادية في الضفة وغزّة.

إذن، جاء “طوفان الأقصى”، وما تبعه من حرب الإبادة التي استمرّت عامَين، ليعيدا تشكيل الحسابات الاستراتيجية بصورة جذرية، على المستويات الاستراتيجية السابقة كافّة، وهو ما يجعل من مسألة الحكم عليه إيجاباً أو سلباً، خدم القضية الفلسطينية أو أضرّها، مسألةً أكثر تعقيداً وعمقاً ممّا قد يطرح في نقاش عام أو مقالة قصيرة. على صعيد القضية الفلسطينية، هنالك تغيّر استراتيجي وجوهري يتمثّل بعودة الاهتمام بها، وبالاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، وبتراجع سياسات خليجية عن النظرية الأمنية الإقليمية، التي سادت (في مرحلة ما قبل “الطوفان”)، التي تقوم على أنّ إيران هي الخطر الكبير وإسرائيل لا تشكّل مشكلة، بل ربما هي حليف، مع تراجع الدور الأميركي في المنطقة، وأنّ القضية الفلسطينية ليست مركزيةً، وبالتالي فصل أمن الخليج عن أمن منطقة الشرق الأوسط. سقطت هذه النظرية بالكلّية خليجياً، وأصبحت القناعة واضحةً وراسخةً لدى الاتجاه العام في الخليج العربي بعدم القدرة على الانفصال والانعزال عن القضية الفلسطينية أولاً، وبمراجعة نقدية جذرية لفكرة “الصداقة الإسرائيلية”.

سيقول قائل: وما الفائدة من هذا التحوّل، طالما أنّه لا يعني تغييراً وتعديلاً في موازين القوى؟… وهو قولٌ صحيحٌ نسبياً، لكنْ هنالك شطر آخر لا يقلّ أهميةً على مستوى السياسات الدولية والإقليمية، فالمسار السابق لـ”طوفان الأقصى” كان باتجاه قتل القضية وإخفاء الجريمة والأدلة (إغلاق وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ونقل السفارة الأميركية إلى القدس والتطبيع الإقليمي والضمّ العملي والواقعي للضفة الغربية)، فيما اليوم هنالك إدراك جديد عربي وعالمي بأنّ المشكلة هي في سياسات إسرائيل وأنها أساس الصراعات وحالة عدم الاستقرار، وليست الأطراف الإقليمية الأخرى، كما كانت القناعة سابقاً. وهي النتيجة التي وصل إليها أحد أبرز أساتذة العلوم السياسية والمحلّلين السياسيين في الإمارات، عبد الخالق عبد الله، في تغريدة له في “إكس” (نشرها في 25 سبتمبر/ أيلول الماضي) قائلاً: “عند النظر أيهما أكثر خطورة على أمن الخليج العربي واستقرار المنطقة؛ إسرائيل أم إيران، كل الوقائع تشير إلى أنّ إسرائيل المتوحّشة أصبحت حالياً أكثر خطورة من إيران المنهكة. لذلك المطلوب من دول الخليج العربي رؤية واستراتيجية دفاعية وأمنية وجيو سياسية مختلفة لمرحلة الشرق الأوسط ما بعد إيران”.

هنالك اليوم اختلال فاضح في موازين القوى الإقليمية. لدى إسرائيل شعور بفائض القوة، تريد أن تفرض أجندةً سياسيةً وأمنيةً جديدتَين، ليس فقط في الأراضي المحتلة، بل حتى على باقي دول المنطقة، ولا تريد دخول بوابة التطبيع والنظام الإقليمي من منظور التعاون الاقتصادي فقط، بل قوةً إقليميةً متفرّدةً، مع تفكّك الحلف الإيراني، ونهاية “الكوريدور السوري” (شكّل صلة الوصل الجيوسياسية بين إيران والعراق ولبنان؛ طريق طهران – المتوسط)، بل تطمع إسرائيل بتغييراتٍ أكبر في الخريطة السياسية في المنطقة، من خلال ممرّ داود، وإقامة مناطقَ عازلةٍ محيطةٍ بإسرائيل، في كل من سورية ولبنان وغزّة. في الطرف المقابل، هنالك تحالف إقليمي يتشكّل من عدد من الدول العربية والإسلامية لمواجهة التحدّي الجديد، يضمّ السعودية ومصر والأردن وقطر، ومعهم بدرجة كبيرة تركيا وباكستان التي وقّعت اتفاقية دفاع أمني مع السعودية بعد الضربة الإسرائيلية لقطر، كما أنّ مداخلتها الإقليمية الدبلوماسية أصبحت ملحوظةً بدرجة أكبر، ما قد يوفّر فرصةً تاريخيةً ونادرةً لتشكّل تحالف أو معسكر إقليمي ممتدّ بين هذه الدول، لإعادة بناء موازين القوى وصياغة معادلة جديدة من الردع، وإن ما يزال هذا السيناريو محدوداً وضعيفاً، بسبب محدّداتٍ دولية وإقليمية عديدة.

يتمثّل البعد الاستراتيجي الآخر في تحوّل لافت ومهم في موقف الدول الأوروبية من إسرائيل، وللمرّة الأولى، تخسر إسرائيل معركة الإعلام والدعاية غربياً بصورة كبيرة، بخاصّة لدى جيل الشباب وفي الجامعات، وأصبحت إسرائيل أقرب إلى حالة العزلة، التي حاول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إنقاذها منها من خلال الخطّة التي قدّمها لإنهاء الحرب في غزّة، التي تتضمّن (واقعياً) المصالح الأميركية – الإسرائيلية بدرجة رئيسة، من دون أيّ ضماناتٍ أو وعودٍ تتعلّق بإقامة الدولة الفلسطينية أو إنهاء الاحتلال في الضفة وغزّة.

في الخلاصة؛ لا يزال التقييم مبكّراً، ولم تصل الأمور إلى نهاياتها فيما يتعلّق بالنتائج الاستراتيجية لـ”طوفان الأقصى” ولحرب الإبادة في غزّة، ولا تزال الاحتمالات والسيناريوهات مفتوحةً، لكن ما هو واضح أن المنطقة اليوم لا تشبه ما كانت عليه قبل “طوفان الأقصى”.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى