أقلام وأراء

د. فوزي علي السمهوري يكتب – من بلفور إلى ترامب .. ماذا بعد؟

د. فوزي علي السمهوري – 2/11/2020

ذاكرة الشعب الفلسطيني وعلى تعاقب الأجيال لم ولن تنسى جريمة قوى الاستعمار بقيادة رمزها بريطانيا مدعومة من فرنسا، الجريمة التي تم ارتكابها بحق فلسطين والشعب الفلسطيني الذي مثل ولم يزل يمثل طليعة الشعب العربي، تلك الجريمة لم تزل  نتائجها وتداعياتها ماثلة حتى يومنا هذا منذ عام 1917 مما يمكن أن نطلق عليها جريمة القرنين.

التخطيط للجريمة:

لم يكن لأي جريمة ترتكب على مستوى عال أن تتم  دون تخطيط من حيث التوقيت والتنفيذ ودون وجود دوافع وأهداف للمجرم.

فمن حيث التوقيت جاءت تتويجا لانتصار بريطانيا وحلفائها في الحرب العالمية الأولى، ما أتاح لها فرصة سانحة لارتكاب جريمتها دون مقاومة تذكر أو في ظل مقاومة تفتقر إلى امتلاك سلاح رادع.

أما من حيث الدافع والأهداف فهي تتمثل في حزمة منها:

• توظيف الديانة اليهودية لتجميع اليهود في بقعة جغرافية للتخلص من وجودهم في الدول الأوروبية نتيجة للصراع مع الكنيسة كما ورد في كتب تاريخية وثقت تلك الحقبة.

• إدامة ترسيخ هيمنة القوى الاستعمارية التي تقاسمت النفوذ في الوطن العربي فيما بينها.

• تأسيس وإنشاء قاعدة عسكرية استعمارية تكتسب صفة الديمومة في قلب الوطن العربي يصعب تدميرها لضمان حرمان الوطن العربي من عوامل وحدته وخاصة الجغرافية منها التي تربط بين دوله الآسيوية والإفريقية وفق  اتفاق سايكس بيكو.

مراحل التنفيذ:

لعظم الجريمة ولطبيعة الهدف “فلسطين قلب الوطن العربي” عمدت القوى الاستعمارية المجرمة لتنفيذ جريمتها التي لم يشهد التاريخ مثيلا لها على مراحل تمثلت في:

أولا: الإعلان عن هدفها فلسطين عبر إطلاق وزير خارجية بريطانيا وعده وتعهده الصادر في الثاني من تشرين الثاني لعام 1917 بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وهذا ما هو متعارف عليه بوعد بلفور ذلك الوعد الذي أرسى أساس النكبة الفلسطينية.

ثانيا: إعلان بريطانيا فرضها الانتداب على فلسطين لتتولى قواتها مهمة التنفيذ القسري عبر تسهيل هجرة اليهود من أصقاع العالم والقيام بتدريبهم وتزويدهم بالسلاح وتمكينهم من إقامة بؤر مسلحة “مستوطنات” كنقطة انطلاق لشن هجماتها وارتكاب جرائمها بحق الشعب الفلسطيني تحت مظلة وحماية بريطانية التي اتخذت على عاتقها تجريد الشعب الفلسطيني من السلاح وزج أبنائه المقاومين في السجون.

ثالثا: انتزاع قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية بموجب القرار رقم 181 الذي أسس لقيام القاعدة الاستعمارية تحت مسمى “إسرائيل”.

رابعا: الإعلان عن قيام “دولة إسرائيل” بعد إعلان بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسطين وانتزاع قرار بقبول “إسرائيل” عضوا في الأمم المتحدة، “وتجاهل الشطر الثاني أي قبول دولة فلسطين عضوا في الأمم المتحدة” بالرغم من انتهاكها لقرار التقسيم الجائر الذي منحها ظلما وتعسفا 55% من مساحة فلسطين التاريخية وأبقى نظريا 45% بينما واقعا لم يبق سوى 22٪ لأصحاب الأرض والوطن التاريخي للشعب الفلسطيني لإقامة دولته العربية الفلسطينية المستقلة، التي لم تر النور بسبب الدعم الأميركي خاصة والغربي عامة للدولة المصطنعة على مدار العقود السابقة.

خامسا: طرد مئات الآلاف من أبناء ومواطني الشعب الفلسطيني خارج وطنه ليعيش حياة المنفى واللجوء خلافا لمبادئ وميثاق الأمم المتحدة ولقراراتها.

هذه المقدمة التاريخية ضرورة لاستعراض مراحل الجرائم المرتكبة بحق فلسطين أرضا وشعبا فهل هناك من جريمة أعظم من سرقة واغتصاب وطن من أصحابه التاريخيين لصالح مجموعات لا رابط بينهم سوى الديانة اليهودية؟

جريمة بلفور وامتداداتها:

لم تكتف الدول الاستعمارية بدعم وتمكين العصابات الصهيونية العنصرية من تأسيس وإعلان كيانها العدواني على مساحة 78% من مساحة فلسطين التاريخية بل مكنتها بفضل انحيازها ودعمها السياسي والعسكري والاقتصادي إلى الانتقال إلى مرحلة ثانية من مخططاتها الإجرامية التوسعية باحتلال واستعمار باقي الوطن  الفلسطيني “الضفة الغربية من نهر الأردن وقطاع غزة”، إثر عدوان حزيران عام 1967 التي شنته القوات الاستعمارية الصهيونية المدججة بأحدث أنواع السلاح والعتاد ضد مصر وسوريا والأردن حيث كان ما تبقى من أرض فلسطين في عهدة الأردن ومصر.

وبفضل الدعم الأميركي والأوروبي اللامحدود:

 مازال الشعب الفلسطيني يئن تحت وطأة الاستعمار الصهيوني العنصري الذي يرى قادته المتطرفون مجرمو الحرب أن كيانهم فوق القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، وما وجود القوانين الدولية إلا لإضفاء الشرعية على جرائمهم.

الاستمرار بارتكاب أشكال الاضطهاد والتعسف كافة بحق الشعب الفلسطيني الأعزل من السلاح “قتل خارج القانون واعتقال ومصادرة أراض وتدمير منازل واقتلاع الأشجار وفرض عقوبات جماعية واعتداءات مدعومة من ميليشيات عسكرية إجرامية  تسمي نفسها  مستوطنين”.

تخلي المجتمع الدولي عن تنفيذ الشطر الثاني من القرار رقم 181، خاصة من قبل الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن.

كما تخلت عن الاضطلاع بمسؤولياتها والتزاماتها وفق ميثاق ونظام الأمم المتحدة بترسيخ الأمن والسلم الدوليين وحظر جواز احتلال أراضي دولة أخرى بالقوة وضمان تنفيذ القرارات الدولية الصادرة عن مؤسساتها الجمعية العامة ومجلس الأمن دون ازدواجية ودون تحيز بغض النظر عن الفصل الذي تصدر بموجبه قرارات مجلس الأمن فجميعها واجبة التنفيذ، وإلا فما معنى إصدارها مما يستدعي  العمل على تمكين وضمان للشعب الفلسطيني من ممارسة حقه الأساس بتقرير المصير وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس، وهذا يتطلب بالضرورة  ممارسة أشكال ووسائل الضغوط كافة بما فيها فرض العقوبات على دولة الاحتلال الصهيوني المارقة لإرغامها على إنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عدوان حزيران 1967 كمقدمة لتنفيذ باقي القرارات الدولية ذات الصلة.

صفقة ترامب الوجه الآخر لإعلان بلفور:

تعد رؤية ترامب لمستقبل المنطقة العربية ومخططه صفقة القرن التآمرية الوجه الآخر لإعلان بلفور، بل قد تتفوق عليها لخطورة تداعياتها وانعكاساتها على الوطن العربي لعوامل عديدة منها:

¤ تهدف أساسا إلى تقويض حق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس تنفيذا لميثاق الأمم المتحدة وللقرارات الدولية ذات الصلة.

¤ التعامل مع الشعب الفلسطيني من منطلق سكاني وإنساني وما يعنيه من اعتراف لسيادة سلطات الاحتلال الإسرائيلي الاستعمارية على أرض دولة فلسطين المحتلة.

¤ العمل على تمكين الحركة الصهيونية العدوانية التوسعية من الهيمنة على مفاصل القرار في الدول التي اعترفت أو ستعترف بالكيان الصهيوني العنصري خدمة للحركة الصهيونية ومخططاتها التوسعية.

¤ تعميد الكيان الصهيوني زعيما بل شرطيا يقود ويتحكم بشؤون المنطقة العربية وما التعهد بتسهيل بناء قواعد عسكرية إلا لاتخاذها منطلقا لحروبها المستقبلية.

إذًا فإن استراتيجية نتنياهو القائمة على توظيف عهد الرئيس ترامب ليس بانتزاع شرعية وجوده ككيان دخيل مصطنع فحسب بل بتمكينه من السيطرة على مناطق جغرافية استراتيجية برية وبحرية بعيدة وهذا ما كان أن يتحقق دون الضغوط التي مارسها ترامب وإدارته على قيادات عربية لم تتوقف وفقا لتصريحات علنية للرئيس ترامب وفريقه وتصريحات مجرم الحرب نتنياهو.

ماذا بعد؟

ما تقدم يقودنا إلى تساؤل مفاده هل فقدت قيادات عربية زمام أمرها حفاظا على حكمها مضحية بمصالح شعوبها ومكانة أقطاره من النواحي الاقتصادية والجيوسياسية؟

وهل فقدت قدرتها على مواجهة التحديات والمؤامرات والأخطار التي تحيق بها وإن كانت غير منظورة للبعض حاليا؟

الرسالة التي لا بد أن يدركها ترامب ونتنياهو بما يمثلونه أن مخططاتهم وإن بدا لهم النجاح إلا أن التاريخ سجل وسيسجل أن الشعوب لن تستسلم وستنتفض في وجوههم دفاعا عن أوطانهم عاجلا ام آجلا فقوة الحق تهزم القوة الغاشمة.

الاتحاد الأوروبي ووعد بلفور:

إذ نقدر دور الاتحاد الأوروبي بدعمه السياسي والاقتصادي للشعب الفلسطيني وللحكومة الفلسطينية ولحقه بالتحرر من نير الاحتلال والاستعمار الصهيوني وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس على حدود الرابع من حزيران لعام 1967 إلا أن له دورا أكبر متاحا يمكن له أن يقوم به وبفعالية متمثلا في:

– الاعتراف الفوري بالدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس على حدود محددة بالقرارات الدولية ذات الصلة.

– إلزام الكيان الصهيوني بتحديد حدود دولته وتقديمها إلى الأمم المتحدة أسوة بباقي دول العالم على ألا تتجاوز الواردة في القرارات الدولية التي منحتها ظلما شرعية وجودها.

– الطلب من الحكومة البريطانية التحلي بالشجاعة الأدبية والاخلاقية بالاعتراف بمسؤوليتها عن مأساة ونكبة الشعب الفلسطيني الناجمة عن وعد بلفور وممارساتها أثناء فترة انتدابها على فلسطين المتناقضة مع الأهداف المعلنة للانتداب بمساعدة الشعوب على الاستقلال.

– بعد فشل جهود الاتحاد الأوربي بحث الكيان الصهيوني على إنهاء الإحتلال الإسرائيلي عبر فقط المطالبة بتنفيذ القرارات الدولية التي تجمع على أن الأرض الفلسطينية المحتلة منذ حزيران 67 هي أراض محتلة وفق القانون الدولي وما يعنيه بوجوب الانسحاب منها، هذا الفشل الناجم نتيجة لرفض القيادات الإسرائيلية خاصة في عهد رمز التطرف والعنصرية نتنياهو ومعسكره مناشداتها المتكررة لاحترام ميثاق الأمم المتحدة وحق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير أن ينتقل الاتحاد الأوروبي والدول الصديقة كافة إلى مربع الفعل الضاغط على سلطات الاحتلال المرتبط بالتأثير على المصالح المشتركة بينهما من خلال المقاطعة وتجميد تدريجي للاتفاقيات المبرمة وتعرية الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني وانتهاكاته الصارخة لحقوق الإنسان وللاتفاقيات والعهود الدولية.

الشعب الفلسطيني بعد 103 أعوام من بدء المؤامرة على وطنه ووجوده وهويته وبالرغم من أن الملايين من أبنائه يعيشون في المنفى كلاجئين ونازحين.. إلا أنه مع مرور السنين يزداد إيمانا وتشبثا وإصرارا على حقه بالعودة إلى وطنه والنضال بكافة الوسائل المكفولة دوليا بقيادة (م .ت. ف) ورمزها الرئيس محمود عباس الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني حتى إقامة دولته العربية الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس بعد دحر قوات الاحتلال الاستعمارية.. أجيال الشعب الفلسطيني المتعاقبة أكدت انتماءها لوطنها فلسطين، وحقها بوطنها التاريخي، فخاب ظن الحركة الصهيونية وقادتها بأن الكبار يموتون والصغار ينسون، وهذا درس آن للقوى المتغطرسة أن تعيه وإلا فإنها بذلك تؤسس لتقويض الأمن والسلم الدوليين.

 فهلا انتصر أنصار الحرية والعدالة وتصفية الاستعمار، والمؤمنون بسمو الحق والمعادون لحق القوة، للشعب الفلسطيني قولا وعملا..؟؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى