د. غانية ملحيس: قرار مجلس الأمن 2803: محاولة مستميتة لمحاصرة الصحوة الكونية وحسم صراع المعنى

د. غانية ملحيس 18-11-2025: قرار مجلس الأمن 2803: محاولة مستميتة لمحاصرة الصحوة الكونية وحسم صراع المعنى
احتشد العالم بأسره في مجلس الأمن الدولي ليلة السابع عشر من تشرين الثاني 2025 لإصدار القرار الدولي رقم 2803، بعد سبعٍ وثلاثين سنة من إعلان استقلال دولة فلسطين في 15/11/1988، ويومين من احتفال السلطة الفلسطينية بـ” عيد الاستقلال”!
مجلس الأمن، المناط به حفظ الأمن والسلم الدوليين، اتخذ قرارًا غير مسبوق في حجم التوافق الدولي (13 مؤيدًا واثنان ممتنعان ولا أحد معارضًا) باستئصال قطاع غزة الفلسطيني من الجغرافيا والديموغرافيا والتاريخ والذاكرة، لاستكمال محو فلسطين الانتدابية، وما تتمكن القاعدة الاستعمارية الصهيونية الأهم لنظام الحداثة الغربي المادي العنصري المهيمن من ضمه من أراضي البلاد العربية – الإسلامية الممتدة، المستباحة جلُّها، ويتسابق قادتها وزعماؤها ونخبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية على تقديمها قرابين لمبعوث العناية الإلهية، ورسول “الديانة الإبراهيمية الحديثة” دونالد ترامب، الذي اصطفاه الخالق مع “الشعب المختار” لإلزام العالم بها طوعًا أو كرهًا.
هذا المقال يحاول أن يقرأ حرب العالم على غزة، ليست بوصفها صراعًا سياسيًا أو عسكريًا فحسب، بل لحظة انكشاف كونية تُعرّي بنية الحداثة الغربية المادية العنصرية المهيمنة، وتكشف حدود القوة أمام المعنى، وتفتح الباب لإمكانية نهضة حضارية جديدة.
غزة: يقظة غير مبلورة في وجه نظام الهيمنة
غزة ليست مشروعًا حضاريًا، لكنها لحظة انكشاف
لم تكن غزة، في بنيتها الجغرافية أو السياسية أو الفصائلية، مشروعًا حضاريًا متكاملاً أو بديلاً مكتمل الملامح لنظام الهيمنة. لكنها – بفعل انفجارها المتكرر في وجه الاحتلال والخذلان الفلسطيني والانهيار العربي –تحوّلت إلى لحظة كاشفة، بل فاضحة.
ما جعل غزة نقطة تحول في الصراع الكوني لم يكن حجم قوتها، بل:
• تمسّكها بالمعنى في لحظة إفلاس الجميع.
• انفجارها خارج كل النصوص المعدّة مسبقًا.
• تموضعها في قلب الجرح الحضاري دون أن تفقد قدرتها على الصمود.
حين انفجرت غزة في وجه المركز الاستعماري الاستيطاني في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، لم تكن تقصد تحدي النظام العالمي؛ لكنها – بفعل صدمتها الوجودية – أجبرت النظام على كشف أقنعته: انهارت لغة الديمقراطية، وسقطت “قيم الغرب”، وانكشفت حقيقة النظام الدولي: تحالف عنصري مادي استعلائي يرى في مقاومة الضحية تهديدًا للكون كله. والأهم، انكشفت حدود الخطاب الإنساني الغربي حين تعارض مع مصالح القوة، وتبيّن أن الحديث عن الحرية وحقوق الإنسان يظل حصرًا على العرق الأبيض ومحكومًا بموازين القوى.
إن ما سقط في غزة خلال حرب الإبادة الجماعية المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني وجواره العربي منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 لم يكن الغرب بوصفه جغرافيا، بل الفكرة التي نصّبت نفسها مرجعًا أخلاقيًا وحضاريًا للعالم. فشكّلت غزة نقطة انكسار كونية للحداثة.
غزة كيقظة: المعنى مقابل القوة
في عمق هذا الاصطدام، بدأت غزة تخرج من كونها جغرافيا محاصرة لتصبح معنى حضاريًا متمرّدًا:
• لا تملك مقعدًا في النظام الدولي، لكنها تعرّي شرعيته.
• لا تصوغ مشروعًا عالميًا، لكنها تفجّر أسس المشروع الغربي نفسه.
• لا تقدم فلسفة مكتوبة، لكنها تحيي الفطرة الأولى في مواجهة آلة التفكيك.
وهكذا تحوّلت غزة إلى:
• يقظة حضارية غير مبلورة، لكنها أصيلة.
• صرخة من الهامش في وجه مركز فقد مبرّر وجوده الأخلاقي.
• علامة فارقة على أن نظام الحداثة الغربي المادي العنصري يواجه خصمًا لا يمكن قهره بالقوة وحدها: المعنى، والكرامة، والإنسان الحر.
ما بعد غزة: الفرصة الأخطر
إن انفجار غزة لا ينتج مشروعًا حضاريًا جاهزًا، لكنه يفتح أفقًا تاريخيًا لبلورته، من خلال:
• إعادة تعريف المقاومة بوصفها بناءً للإنسان، لا مجرد ردّ فعل.
• تجاوز الأطر الفصائلية والقطرية والقومية إلى رؤية تحررية كونية.
• ربط المعركة على الأرض بالمعركة على المعنى.
• إعادة طرح الإطار الحضاري ليس كشعار، بل كإطار جامع للمعرفة والمجتمع والسياسة.
لماذا غزة هي التحدي الأخطر؟
1. لأنها تقاتل خارج نصوصهم
النظام العالمي يعرف كيف يحتوي المقاومة حين:
– تطالب بمقاعد، لا بتحرير.
– تقدّم خطابًا قابلاً للترويض.
– تقبل بشرعية قانون الغاب الذي ارتكز عليه “النظام الدولي”، وتطلب ضمانات من أدوات الهيمنة نفسها.
لكن غزة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 خرجت عن كل هذا.
لم تطلب شيئًا، ولم تفاوض على الحقوق الوطنية والتاريخية الثابتة غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، ولم تستجدِ شرعية أحد؛ ولهذا أصبحت صاعقًا يهدد هندسة السيطرة ذاتها.
. 2لأنها لا تقبل التعايش مع الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني العنصري الإحلالي (إسرائيل)
غزة ليست ضد الكيان الصهيوني فحسب، بل ضد تكوينه العنصري الهجين ووظيفته في النظام العالمي: كيان استعماري استيطاني إحلالي، أداة تفتيت، منصة للسيطرة التكنولوجية والأمنية، ورأس رمح لتكريس الهزيمة في وعي المنطقة والعالم.
مقاومة غزة للكيان الصهيوني ليست صراع حدود، بل تمردًا على مبدأ الهيمنة من جذوره.
3. لأنها تحرك الوعي لا الجيوش فقط
كلما انتفضت غزة، انتفض معها وعي العرب والمسلمين، بل والأحرار في الجنوب العالمي وعموم العالم، لتعريف الجريمة والمقاومة، والحق والخيانة، وتحريك اللغة.
تفضح الأكاذيب، وتربك الخطاب الدولي، وتكشف خطورة العقل الأداتي الذي حكم مشروع الحداثة الغربية منذ نشأته:
العقل الذي جعل من الإنسان وسيلة لا غاية، ومن الطبيعة موردًا للاستغلال، ومن الحرية أداة للهيمنة. وهو ذاته الذي أعاد إنتاج الفاشية داخل الديمقراطية الأمريكية والديمقراطيات الغربية.
فالفاشية المتنامية في الولايات المتحدة الأمريكية، ومثيلاتها في عموم الغرب وتوابعه على امتداد العالم، ليست انقطاعًا عن الحداثة، بل هي اكتمالها الأداتي: اللحظة التي يبلغ فيها العقل المادي ذروة قدرته على التدمير باسم التقدم، وعلى الإبادة باسم الدفاع عن الحرية. وما يجري في نيويورك وبرلين ولندن وروما وأمستردام ومدن العالم اليوم هو صدى داخلي لإبادة تُمارس في قطاع غزة. وما يُقمع في الجامعات وفي الساحات الأمريكية والأوروبية هو الامتداد الطبيعي لما يُقصف في غزة.
العقل الأداتي الذي يبرر إبادة غزة ومحو الوجود الفلسطيني، هو نفسه الذي يقمع المحتج الأمريكي والأوروبي والعربي، والعقل الذي يرى العالم من منظور المصلحة هو نفسه الذي ينفي الإنسان من معادلة السياسة.
. 4لأن غزة، بصمودها واستعصائها على الاستسلام، تحدث تحولًا جذريًا لمنطق التفكير نفسه: تحريرًا للعقل من تبعيته للمنفعة، وللمعرفة من وظيفتها التشييئية، وللحرية من اختزالها إلى خيار إداري أو استهلاكي.
.5لأنها توقظ الإنسان على امتداد الكرة الأرضية، وتنبهه إلى أن المعرفة والحرية والسيادة تربط بينها علاقة عضوية، وأنه لا يمكن لأي مشروع مقاوم أن ينهض بوعي مستعار، أو بعقل خاضع لمناهج العقل الأداتي.
. 6لأنها تنبه المظلومين على امتداد الكرة الأرضية إلى أن النهوض ممكن عند تفعيل الإرادة الذاتية،لكنه يستوجب استعادة أدوات التفكير: كيف نفهم، كيف نُعدّ، كيف ننطق بالعدالة.
وأن محاربة الاستعمار لا تكون فقط بوصفه سلطة سياسية أو ثقافية؛ فجرثومة الاستعمار في العقل الحداثي المادي العنصري نفسه، الذي أسّس علاقة عنيفة بين الإنسان والعالم، بين الذات والمعرفة، بين الحرية والأداة.
. 7لأنها تسلط الضوء على خطورة «العقل الأداتي» وتجلياته:
تبرير الإبادة من خلال منطق أمني–تقني، وتحويل السكان إلى أرقام إحصائية، وتطبيع اللغات الإدارية التي تمحو سرديات الذاكرة والكرامة.
. 8لأنها تذكّر البشرية بمبادئ المعرفة:
– المعنى قبل الأداة: المعرفة تُستمد من القيمة الإنسانية والعدالة لا من الكفاءة التقنية.
– الحرية كوعي لا كاختيار محايد: لأن الاختيار داخل منظومة أداتية ليس حرية، بل إعادة إنتاج لمنطق السيطرة.
– استعادة الذات كفاعل معرفي: إذ لا تحرّر دون استعادة القدرة على إنتاج المفهوم، لا مجرد استهلاك خطاب الآخر.
– التحرّر يبدأ من اللغة: بوصفها الوعاء الأول للعقل. فاللغة التي تتبنى منطق الأدوات والإجراءات تفقد بعدها الإنساني، أما اللغة المقاومة فهي التي تُعيد وصل المعنى بالذاكرة، والحرية بالكرامة، والمعرفة بالمسؤولية الأخلاقية.
. 9لأنها تظهر للعالم أن إبادة فلسطين ليست حدثًا محليًا، بل نموذجًا ماورائيًا/ميتافيزيقيًا للحداثة المادية العنصرية المعولمة. وأن الأزمة الفلسطينية ليست فرعًا من أزمة عالمية، بل أصل يكشف أزمة العالم نفسه.
. 10لأنها تذكّر بالبديل
رغم أنها لا تقدم مشروعًا حضاريًا متكاملًا، فإن وجود غزة يذكّر بأن الحضارة العربية – الإسلامية لم تمت، وأن رسالتها الإنسانية التحررية ما تزال حية وقادرة على المقاومة. وأن الشعوب لم تنسَ، وأن العالم ليس موحّدًا خلف نظام الحداثة الغربي المادي العنصري المهيمن.
غزة، بهذا المعنى، تفتح الباب لإعادة بعث الشرق الحضاري من ركام الجغرافيا والتاريخ، ولإلهام المهمشين حتى في قلب مركز الإمبراطورية الأمريكية. وهذا أخطر بكثير من السلاح: تهديد الرواية الكبرى للنظام العالمي.
فحين يستيقظ الوعي، يتحرّر التاريخ من الرواية التي صاغها المنتصر.
قد لا يكون فوز زهران ممداني بانتخابات بلدية نيويورك، عاصمة الحداثة بأكثر تجلياتها وضوحًا: تحالف المال والسلطة والقوة، نتيجة مباشرة لمعارضته الصريحة لسياسة بلاده الداعمة لإبادة غزة.
لكن المؤكد أن بسالة المقاومة وصمود الحاضنة الشعبية واستعصاء غزة على الاستسلام حرّكت طبقات الوعي الكامنة لدى الشباب الأمريكي والغربي الفتي بإمكانية التغيير، وساهمت في كسر ارتهان نجاح الساسة الأمريكيين في الانتخابات بتأييد إسرائيل والصهيونية.
غزة التحدي الأخطر لهيمنة نظام الحداثة الغربي المادي العنصري
غزة هي التحدي الأخطر لأنها تقول “لا” حيث لا يتوقع النظام أن يرفع أحد صوته. لأنها تعيد المعنى إلى السياسة، والقداسة إلى الأرض، وتفعل كل ذلك من خارج الأطر المأذون بها، ومن داخل جغرافيا ظن العالم أنها استُهلكت تمامًا.
غزة ليست أخطر على النظام العالمي لأنها أقوى، بل لأنها الأصدق في تعريته.
وكل ما تفتقده من مؤسسات أو مراكز فكر أو تحالفات استراتيجية، تعوّضه بصدق المعنى، ووضوح الرؤية، والإصرار على رفض إعادة إنتاج الهزيمة، وعلى تحويل فعل المقاومة إلى مشروع لإعادة تعريف الإنسان في علاقته بالقوة والعدالة.
فالمقاومة، في جوهرها، ليست أداة صراع فحسب، بل منظومة وعي تؤسس لمعنى جديد للكرامة الإنسانية.
ولهذا احتشد العالم في مجلس الأمن الدولي لإضفاء شرعية دولية على مشروع الوصاية الدولية لإخضاع قطاع غزة وكسر استعصائه على الاستسلام.
واللافت تجند الولايات المتحدة الأمريكية والغرب وتوابعهم الفلسطينيين والعرب والمسلمين، منذ أكثر من عامين، لإخضاع قطاع غزة الصغير المدمّر والمكلوم:
ليس لأن قطاع غزة قوي، ولا لأنه يمتلك مقومات الانتصار، بل لأن صموده في وجه الإبادة يشكل التحدي الأخطر لهم جميعًا.
من هنا، لا تُختزل غزة في بطولتها وصمودها الأسطوري في وجه الإبادة والتطهير العرقي وتآمر عدوّها وأهلها وذويها، بل تُقرأ كنقطة تحول حضاري تلزمنا بإعادة بلورة مشروع نهضوي تحرري شامل:
لا يستنسخ الماضي، ولا يبدأ من حدود سايكس- بيكو، ولا ينتهي عند تحرير الأرض، بل يبدأ من استعادة الإنسان لذاته، ويهدف إلى بناء نظام عالمي بديل يوازن بين القوة والمعنى، بين الحرية والعدل، بين الإنسان والغاية.
قد يبدو قرار مجلس الأمن 2803 باحتلال غزة انتصارًا لتحالف الشيطان، إلا أنه في حقيقته بداية لطوفان أشد وأكثر جذرية، سينفجر تباعًا في منطقتنا المنكوبة بقادتها المذعورين، وسيطال العالم بأسره، لأن غزة المدماة المكلومة والمدمّرة قد أخرجت مارد التغيير والتحرر الإنساني من القمقم، وما عاد بمقدور أحدٍ وقفه.
مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook



