د. غانية ملحيس: غزة ولحظة انكشاف الغرب: الصراع الحضاري بين الشرق المقاوم والغرب المهيمن

د. غانية ملحيس 22-6-2025: غزة ولحظة انكشاف الغرب: الصراع الحضاري بين الشرق المقاوم والغرب المهيمن
من الأرض إلى المعنى: انكشاف الصراع الحضاري
لم يعد الصراع في منطقتنا صراعا على الجغرافيا، أو على حدود الدولة القطرية، بل هو صراع على الهوية الحضارية للشرق العربي-الإسلامي. لم تكن غزة، في محنتها، مجرد ساحة حرب، بل لحظة كاشفة لحقيقة النظام العالمي وانكشاف زيف القيم الغربية الحديثة. فما نشهده ليس فقط إبادة جسدية، بل محاولة لاغتيال المعنى ذاته. فالصراع في جوهره وجودي، حضاري، وليس مجرد نزاع حدودي. والغرب لا يطلب من الشرق فقط الامتثال السياسي، بل الخضوع الحضاري الكامل.
القوة وحدها لا تنتصر
أمام هذا المشهد، يصبح السؤال: هل تحسم القوة الصراع، أم تحسمه الهويات الحضارية المتجذرة؟
الإجابة ليست ب ” إما/أو”، بل تفكيكية تركيبية، تعتمد على فهم علاقة القوة بالهوية الحضارية في سياق الصراع الطويل الممتد بين الشرق والغرب. بين مشروع هيمنة كولونيالي- مادي، ومشروع مقاومة تحرري- حضاري.
أولا: الهوية الحضارية كمصدر الصمود
تبقى القوة شرط ضروري، لكنه غير كاف لحسم الصراع. القوة المادية (عسكرية، اقتصادية، تكنولوجية…) كانت وما تزال عنصرا حاسما في لحظات الصراع، لكنها:
• تفشل في الحسم عندما تواجه هوية صلبة
• تنتصر فقط حين تنجح في اختراق البنية الثقافية للمجتمعات وإخضاعها.
انتصرت أميركا على ألمانيا واليابان عسكريا في الحرب العالمية الثانية، وأعادت تشكيل هويتهما بما يخدم نموذجها. لكنها فشلت – رغم الفوارق الهائلة في موازين القوى- في فيتنام، وأفغانستان، والعراق، وقطاع غزة، وستفشل في إيران، لأن الشعوب هناك احتفظت بهوية حضارية مقاومة رافضة للاختراق.
ثانيا: الهوية الحضارية هي القوة العميقة للصراع
الهويات الحضارية ليست مجرد “ثقافة”، بل نظام رؤية متكامل:
• في فهم الإنسان، والسلطة، والكرامة، والعلاقات، والمقدس
• تحكم السلوك اليومي وتحدد معنى الموت والحياة والعدالة
وفي السياق الإسلامي- العربي:
• الإسلام ما يزال يقدم منظومة قيمية – روحية بديلة عن الحداثة المادية
• في غزة والضاحية الجنوبية والنجف وصنعاء… لم يقاتل الاحتلال فقط بالسلاح، بل:
• بالمعنى
• بالصبر الطويل
• بالتماهي بين الفرد والجماعة في مشروع الشهادة والتحرير.
ثالثا: المعسكر الغربي يمتلك القوة… ويفتقد المعنى
يمتلك القوة العسكرية التدميرية، التكنولوجيا، المال، الجيوش، الإعلام…
• لكنه يعاني من تصدع وجودي عميق:
• أزمة معنى (ما الغاية؟)
• تفكك الأسرة والمجتمع
• تحول الإنسان إلى أداة استهلاك
• اغتراب الروح عن أي أفق أخلاقي
الهيمنة الغربية في مأزق المعنى. هذه الهشاشة الوجودية تظهر الآن بوضوح:
• في همجية الحرب على قطاع غزة (لأن القوة بلا روح)
• في تحالفه مع إسرائيل حتى لو كانت محرقة بشرية
• في كراهيته العميقة لأي مشروع بديل (إسلامي، تحرري، مقاوم)
رابعا: المعنى حين يتحول إلى مشروع مقاوم
تمتلك الشعوب المعنى، وتراكم أدوات القوة تباعا. يبدأ المشروع المقاوم من الهوية الحضارية الرافضة للخضوع، لكنه يراكم أدوات مادية أيضا:
• سرديات بديلة
• إعلام ثوري
• شبكات دعم عالمي
• أسلحة ردع
• اقتصاد مقاوم
ومتى تلاقى “المعنى” مع “القوة”، يولد التحرر الكامل.
خامسا: غزة: مرآة العالم وسقوط الغرب
لقد أظهرت تجارب التاريخ أن القوة العسكرية تقتل وتدمر وتهجر، لكنها لا تحسم الصراع، ما لم تسكنها هوية حضارية قادرة على تحويل النصر إلى مشروع. والهوية الحضارية لا تنتصر إن بقيت عارية من أدوات الردع والتأثير المادي. وعليه، فان الاجابة على سؤال من ينتصر؟
لا ينتصرالأقوى رغم جبروته. بل من يمتلك معنى للوجود، ورؤية تحررية إنسانية، ووعيا بمستلزمات بلوغها، وصبرا على تراكم القوة، وقدرة على التنظيم وبناء التحالفات.
سادسا: لحظة غزة: من لحظة الانكشاف إلى لحظة التصدع
لم تكن غزة مجرد مسرح لحرب إبادة استعمارية فقط، بل شكلت في عمقها لحظة كاشفة لحقيقة النظام العالمي، وانكشاف زيف الادعاءات الأخلاقية التي قامت عليها “الحضارة الغربية الحديثة”. فمع كل قنبلة تسقط، وكل جريمة ترتكب ضد الأطفال والمدنيين، كانت الأقنعة تسقط تباعا: قناع “الإنسانية”، قناع “الليبرالية”، وقناع “النظام الدولي القائم على القانون”.
أظهرت غزة – بدماء أطفالها، بصمودها تحت النار، وبفداحة ما ارتكب ضدها- أن ما يسمى ب “المجتمع الدولي” ليس أكثر من تحالف مصالح استعماري يحكمه منطق القوة لا منطق الحق. وأظهرت أن الغرب، الذي طالما ادعى حمل مشعل التنوير والديمقراطية وحقوق الإنسان، هو ذاته الذي يبرر القتل الجماعي، ويموله، ويوفر له الغطاء السياسي والإعلامي والقانوني.
غزة، في قسوتها المتفردة، لم تكن فقط ضحية مستهدفة، بل مرآة حقيقية عكست تناقضات المنظومة الدولية. من واشنطن إلى باريس، ومن لندن إلى برلين وروما. ومن أوتاوا إلى سيدني. كشفت كيف يمكن للديمقراطيات العريقة أن تتحول إلى أنظمة تواطؤ أخلاقي، حين يتعلق الأمر بكيان استعماري استيطاني عنصري وظيفي يمارس الإبادة الجماعية علنا.
إن السقوط الأخلاقي للحضارة لا يحدث دفعة واحدة، بل يتسلل عبر انحرافات صغيرة ومتكررة، إلى أن تأتي لحظة فاصلة تفضح كل شيء. وغزة – من خلال وحشية الحرب، وصمت العالم، واحتقار الألم الفلسطيني – مثلت تلك اللحظة الفاضحة الفاصلة. وكشفت التحالف الأمريكي الغربي – الإسرائيلي كوحدة اندماجية. فلم يعد الحديث عن “دعم” أميركي وغربي لإسرائيل، بل عن توحد وظيفي كامل:
• في القرار العسكري (غرف العمليات المشتركة)
• في الدفاع السياسي والدبلوماسي والإعلامي (حق النقض، شيطنة المقاومة)
• في الميدان: تحليق، اعتراضات، وحتى ضربات مباشرة، حصار، وتجويع.
• في التمويل والتسليح.
وهذا يعيد تعريف الحرب ليس كصراع فلسطيني – إسرائيلي أو إيراني -إسرائيلي، بل كصراع شعوب المنطقة ضد منظومة هيمنة واحدة يقودها الغرب.
سابعا: تشكل محور المقاومة الإقليمي.
1. تقسيم واضح للمنطقة إلى محورين:
محور المقاومة: إيران – فلسطين – اليمن – فصائل العراق وسوريا ولبنان- حركات شعبية. يسعى لتغيير قواعد الاشتباك ويقاوم رغم الحصار والعزلة.
محور التبعية: إسرائيل – أميركا – بعض الأنظمة العربية، يسعى للتهدئة على حساب الكرامة، يعاني من التآكل الشعبي والشرعية.
2. تصاعد الضغوط على “الحياد الرمادي”، فدول مثل تركيا، قطر، مصر، والسعودية، تجد نفسها مضطرة لمراجعة مواقعها: –
• هل تنضم للمحور الغربي في مواجهة إيران وفلسطين
• أم تستثمر في التموضع بينيا ضمن ترتيبات إقليمية جديدة؟
3. تصدع الحياد وصعود مدن الجبهة وظهور فاعلين غير تقليديين داخل الإقليم
• حركات شعبية وكيانات مقاومة أصبحت تشكل تحالفا معنويا فعليا عابرا للحدود: غزة، جنوب لبنان، صنعاء، بغداد، جنين، نابلس. هذه “المدن الجبهة” باتت تتحرك بمبادئ مشتركة، وشعارات متقاربة
ثامنا: انقسام عالمي وتحولات في الجنوب
1. انقسام العالم إلى معسكرين:
المعسكر المتعدد الأقطاب: روسيا، الصين، دول في الجنوب العالمي إيران، محور المقاومة، ينتقد، أو يقف ضد العدوان، ويطرح نفسه كبديل لما بعد الاستعمار.
المعسكر الغربي: أميركا، أوروبا، كندا، أستراليا، اليابان، يدعم إسرائيل بلا قيد، يفقد شرعيته الأخلاقية
2. الجنوب العالمي يستفيق
دول إفريقيا وأميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا بدأت تستثمر في هذا الانكشاف الغربي:
• إدانات علنية
• محاكم دولية
• تحولات في الرأي العام والشراكات الاقتصادية (النفط، التجارة، الاستثمارات)
تاسعا: نحو حلف مقاوم دولي
قد نكون على أعتاب ولادة تكتل دولي – شعبي مقاوم. تحالف لا يقوم على المصلحة فقط، بل على سردية مضادة لمنظومة النهب والاستعمار ويضم:
• دولا: (إيران، روسيا، الصين بدرجة ما، الجزائر، بوليفيا، جنوب أفريقيا، البرازيل …)
• حركات مقاومة شعبية (فلسطين، لبنان، اليمن، العراق، سوريا، أميركا اللاتينية)
• شبكات مدنية وأكاديمية وثقافية عالمية تتحدى الرواية الغربية (انتفاضات الجامعات مثال حي)
نحو سردية تحررية بديلة
ليست غزة فقط لحظة كاشفة، بل مفترق طرق حضاري. فالعالم اليوم ينقسم لا وفق خرائط السياسة، بل وفق منظومات المعنى. بين من يرى الإنسان قيمة، ومن يحوّله إلى مادة استهلاك أو هدف للإبادة. أمام السقوط الأخلاقي للغرب، واحتشاد الشعوب حول قضايا الكرامة، يتشكل ببطء عالم بديل.
هذا العالم الجديد لا يولد من فراغ، بل من تلاقح ثلاثي:
• هوية حضارية،
• وسردية مقاومة،
• وتراكم للقوة.
وحين تلتقي هذه العناصر في مشروع تحرري جامع، تخرج الشعوب من دور الضحية إلى دور الفاعل، ومن لحظة الألم إلى صناعة الأمل.
مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook