منوعات

د. غانية ملحيس: حين يصبح الفرح الفلسطيني المغمس بوجع الفقد والدمار تهديدًا وجوديًا للدولة النووية

د. غانية ملحيس 13-10-2025: حين يصبح الفرح الفلسطيني المغمس بوجع الفقد والدمار تهديدًا وجوديًا للدولة النووية

في ليلٍ فلسطينيٍّ يثقل صدره الفقد والغياب، تنتظر العائلات أسماءً محفورةً في الروح والعقل والوجدان: أسماءَ الأبناء الأسرى الذين وعدهم اتفاق التبادل المعلَّق بحريةٍ طال انتظارها.

أمهاتٌ أرامل وثكالى يفترشن الدموع، أطفالٌ فقدوا آبائهم وأشقائهم في حروب المحو، يزيّنون البيوت بخيوط الأمل بعودة أم أو شقيق أسير، وقلوبٌ تخفق كطيورٍ في قفص.

لكن قبل أن يصل صوت الخطوات، دوّى صوت الجنود. اقتحم جيش الاحتلال البيوت، داهم الفرح في مهده، واعتقل لحظةَ الحياة قبل أن تولد.

لم يكن ذلك اقتحامًا عسكريًا فحسب، بل فعلًا رمزيًا عميقًا: إعلان حربٍ على الوجدان الفلسطيني، على حقه في أن يفرح، وعلى قدرته على أن يكون.

كيف يمكن لدولةٍ نووية، وتخوض منذ عامين حرب إبادة جماعية ضد المدنيين، أن ترتجف من ابتسامة تنبعث من بيتٍ مهدّم؟

ما الذي يجعل زغرودة أمٍّ أو أخت فلسطينية تُخيف دولةً نوويةً مسلّحة حتى أسنانها، ويضرب جيشها في فلسطين ولبنان وسوريا واليمن وإيران وقطر؟

إنه الخوف من المعنى: لأن الفرح الفلسطيني ليس مجرد عاطفة، بل فعل مقاومةٍ ضد العدم، إعلانٌ وجوديٌّ بأن الحياة لا تُباد.

الفرح كفعل مقاومة

منذ بدايات التجربة الفلسطينية، كان الفرح أحد أكثر أفعال الحياة تحديًا للموت.

ففي الأعراس تحت القصف، وفي الاحتفال بعودة الأسرى وسط الدمار، لا يكون الفرح نسيانًا للألم، بل إعادة تأويلٍ له. إنه تحويل الجرح إلى طاقة حياة، والدمار إلى وعدٍ بالاستمرار.

وحين يضحك الفلسطيني وسط الركام، فهو لا يمارس إنكارًا، بل إعادة تعريفٍ للوجود ذاته. إنه يعلن أن القهر لا يُلغيه، وأن الإنسان لا يُقاس بما فُقد منه، بل بما يظل قادرًا على منحه.

من زاويةٍ فلسفية، الفرح الفلسطيني يتجسّد فيما أسماه نيتشه: “القول نعم للحياة رغم الألم”. هذه الـ«نعم» هي جوهر الفعل المقاوم، لأنها ترفض أن تختزل الإنسان في جراحه.

والفلسطيني الذي يفرح رغم فقده لا يتجاوز ألمه، بل يجعله مادةً لبناء وعيٍ جديد. وهنا يتحوّل الفرح إلى تأكيد للوجود في مواجهة نظامٍ يريد نفي هذا الوجود.

يمكن فهم الفرح الفلسطيني كفعلٍ مضادٍ لعملية الاغتراب التي يفرضها الاستعمار على المستعمَر. فكما قال فرانتز فانون: “الاستعمار لا يسيطر فقط على الجسد، بل يسعى إلى استعمار الوعي والمشاعر، ليجعل الضحية تخجل من فرحها وتشكّ في حقها في الحياة”.

وحين يفرح الفلسطيني، فإنه يخلخل هذه البنية الرمزية، ويستعيد سيادته على وجدانه. إنه يصرخ في وجه المستعمِر: “لن تحدد أنت شكل شعوري، ولن تملي عليّ متى أبتسم ومتى أنوح”.

بهذا المعنى، الفرح هو تحرر الوعي من استعمار الشعور، أي من احتلال الذات نفسها.

ويمكن قراءة الفرح الفلسطيني أيضًا كفعلٍ جماعيٍ يعيد إنتاج الوعي الوطني والطبقي في آن واحد. فالفرح الفلسطيني في انتظار الأسرى طقسٌ اجتماعيٌّ يتجاوز الذات إلى الجماعة. إنه لحظة استعادةٍ للكلّ الفلسطيني من تشتّته، وللوطن من تمزّقه الرمزي.

كل زغرودةٍ، كل دمعةٍ، كل ابتسامةٍ على وجه أمٍّ أو أبٍ عجوز، هي خليةٌ في جسدٍ جمعيٍّ يُعيد تعريف ذاته عبر المشاركة في الفرح والحزن.

هذا الوعي الجمعي، حين يُعاد إنتاجه في الحزن والفرح، يصبح نقيضًا مباشرًا لمنطق السيطرة الاستعمارية التي تسعى إلى تفتيت الجماعة وإنتاج العزلة والخوف.

الفرح ضد العدم

يعمل المشروع الاستعماري الصهيوني الإحلالي على ترسيخ منطقٍ عدميٍّ يهدف إلى محو المعنى: قصفٌ يدمّر البشر والشجر والحجر، ومجازر تحوّل الإنسان إلى رقمٍ بلا وجه.

في هذا السياق، يصبح الفرح الفلسطيني نفيًا فلسفيًا للعدمية.

فحين يفرح الفلسطيني، فإنه يقول: “ما زال في هذا العالم ما يستحق الحياة، وما زلتُ قادرًا على خلق المعنى، رغم أنكم دمّرتم المكان”.

إن الفرح هنا يتجاوز حدود الفعل السياسي إلى إعلانٍ وجودي عن انتصار الروح على الفناء. فالابتسامة الفلسطينية ليست ترفًا ولا مكابرة، بل فعل وعيٍ بأن الموت لا يملك الكلمة الأخيرة. وهذا هو بالضبط ما يرعب الاحتلال: أن ضحيته لا تموت بالمعنى الذي يريده لها، بل تولد من جديد في كل مرة تبتسم فيها.

ذعر الدولة النووية

أن ترتعد دولةٌ نووية من فرح الضحية، فذلك يكشف هشاشتها الوجودية.

فالقوة العسكرية، مهما بلغت، لا تصمد أمام إصرار الإنسان على أن يكون حيًّا.

حين تمحو إسرائيل المدن وتمنع الاحتفالات وتعتقل الزغاريد، فهي لا تدافع عن أمنها بل عن وهمها الأخلاقي، لأنها تعرف أن ابتسامة الفلسطيني تفضح زيف خطابها، وتُسقط أسطورة تفوقها الحضاري.

إنها تدرك أن الفرح الفلسطيني، في عمقه، هو نفيٌ مستمرٌ لوجودها كمستعمِر.

فكل من يفرح يعلن ضمنيًا أن الاحتلال ليس قدرا، وأن الهوية لم تُهزم.

لذلك، لا يثير خوف إسرائيل السلاح بقدر ما تثيره الابتسامة والأغنية. فالفرح بالنسبة لها خطرٌ رمزيٌّ يهدد بنيتها الأيديولوجية التي تقوم على تصوير الفلسطيني كضحيةٍ أبديةٍ بلا أفق ولا حياة.

وحين يبتسم الفلسطيني فوق أنقاض بيته، تتحطم هذه الصورة، وتفقد إسرائيل قدرتها على تبرير وجودها بوصفها “الضحية الدائمة”.

الفرح كأحد أشكال المقاومة

في عالمٍ يُقصف فيه الإنسان والعمران، وتُحاصر فيه الكلمة، وتمنع فيه الابتسامة، يصبح الفرح الفلسطيني آخر معارك الكرامة.

إنه الفعل الذي لا يمكن للمستعمِر مصادرته، لأنه لا يحدث في الخارج، بل في عمق الوعي.

وحين تمنع الدولة النووية التي ترتكب إبادة جماعية هذا الفرح، فإنها لا تمارس القمع فحسب، بل تعترف ضمنيًا بأنها تخاف من الحياة ذاتها.

فالفرح الفلسطيني المغمس بوجع الفقد والدمار هو لغة البقاء في زمن الإبادة. وهو فعل فلسفي وجودي ومقاوم في آن واحد.

كل ابتسامة، كل زغرودة، هي إعلان أن الإنسان أقوى من القمع، وأن الحياة تنتصر على كل آلة موت. فالفرح هو ما يجعل الوجود الفلسطيني ممكنًا رغم الخراب، ويجعل من كل لحظة حبٍّ أو ابتسامة أو دمعة ضوءًا يفضح ظلمة القوة النووية.

وكما قال فرانتز فانون، المستعمَر الذي يبتسم في وجه المستعمِر هو إنسان خطير. لأن من يفرح رغم كل هذا الألم لا ينتصر على عدوه فحسب، بل ينتصر على العدم نفسه.

الفرح الفلسطيني ليس نقيضَ الحزن، بل جوهر المقاومة ومعناها الإنساني الأعمق.

الفرح الفلسطيني يكشف أن الوجود الإنساني لا يُقاس بما يملكه من أدوات القوة، بل بما يحتفظ به من قدرةٍ على المعنى. فحين يحوّل الفلسطيني الفقد إلى فعل حياة، والدمار إلى طاقة أمل، فإنه لا يقاوم المستعمِر فحسب، بل يعيد تعريف الإنسان في وجه العدم.

ولهذا يخاف المستعمِر من الفرح لأنه يثبت أن الضحية ما زالت حرةً من الداخل، وأن الوعي لم يُحتل بعد.

على هذه الأرض ما يستحق الحياة

تعود روح محمود درويش لتمتد فوق البيوت المهدّمة، تمر بين الأزقة في غزة والقدس والمخيمات، تحنو على الأطفال الذين فقدوا آباءهم، على الأمهات اللاتي فقدن أبناءهن، على البيوت التي صارت صدىً للغياب.

تخبرهم أن الدموع ليست ضعفًا، بل شاهدة على الحب والحياة التي تستمر رغم كل شيء. تغني معهم أغنية وجود، تهمس بأن على الأرض- التي تحمل وجعنا، ودماؤنا، دموعنا وتحمل الألم والخراب- ما يستحق الحياة.

فهي تحمل أيضًا صوتنا، حياتنا، زغرودتنا، ابتساماتنا، مقاومتنا، وتحمل القدرة على الفرح، على الاحتفال، على ابتسامة صغيرة تتحدى آلة الموت. وتتجسد الحقيقة الكبرى: وجودنا وفرحنا الذي لا يُقهر.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى