أقلام وأراء

د. غانية ملحيس: بين صوت الفعل وأسئلة المشروع: قراءة نقدية في مساءلة خالد عطية للفكر الثقافي الفلسطيني!

د. غانية ملحيس 4-7-2025: بين صوت الفعل وأسئلة المشروع: قراءة نقدية في مساءلة خالد عطية للفكر الثقافي الفلسطيني!

في مقاله الأخير، “ما بين الفعل المقاوم وهوية الفاعل: مساءلة الدوائر الفكرية في لحظة الانكشاف الفلسطيني”، يقدم الأستاذ خالد عطية مرافعة فكرية شجاعة، تنحاز بوضوح إلى عدالة الفعل الفلسطيني في لحظة السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وتحرر المقاومة من إسار الهوية التنظيمية، وتحمل النخب الفكرية والثقافية مسؤولية التردد والارتباك. غير أنه، وهو يفكك هذا الانكشاف، يفتح أيضا بابا لتساؤلات أوسع:

لماذا عجزنا عن مرافقة الفعل النضالي؟

وما الذي أصاب البنية الثقافية الفلسطينية حتى أصبحت عاجزة عن رؤية الحقيقة وهي تنزف؟

وهل يكفي نقد الارتباك دون مساءلة البنية التي أنتجته؟

تسعى هذه القراءة إلى البناء على مكامن القوة في مقال خالد، وتوسيع نطاق أسئلته، في محاولة لردم الفجوة بين الفعل المقاوم والمجال الثقافي، وبين الانفجار النضالي ومأزق المشروع التحرري الفلسطيني.

أولا: تثمين المساءلة وجرأة التموضع

يتفوق نص خالد في كونه لا يكتفي بمرافعة خطابية عن الفعل المقاوم، بل يتقدم نحو تفكيك البنية الانتقائية التي حكمت كثيرا من ردود الأوساط الثقافية الفلسطينية والعربية. إذ لا يكتفي بالتنديد بصمت النخب، بل يضع يده على الجرح الحقيقي: الانزلاق إلى تصنيف الفعل المقاوم وفق هوية فاعله لا وفق مشروعيته النضالية. هذه المساءلة ضرورية، لأنها تفكك ما يمكن تسميته بـ” أخلاقيات التحليل الموضوعي”، التي تحولت في كثير من الحالات إلى تواطؤ لغوي مع منطق الهيمنة.

ولا يجامل الكاتب في تشخيصه لوضع الحركات الإسلامية. فهو يميز بدقة بين عدالة الفعل المقاوم من جهة، ومأزق المشروع السياسي المغلق من جهة أخرى، الذي قد يحول المقاومة إلى ورقة مساومة إن لم يربط بأفق تحرري شامل.

غير أن النص، رغم عمقه، بحاجة إلى التوسع في تناول الطبقات الأعمق للأزمة الثقافية الفلسطينية، وتحديدا ما جرى منذ انحراف البوصلة التحررية في سبعينيات القرن الماضي، حين جرى الاستعاضة عربيا عن نهج “تحرير فلسطين” بشعار “إزالة آثار العدوان”، ثم جرى لاحقا احتواء منظمة التحرير ضمن النظام العربي الرسمي، وصولا إلى اللحظة التي صار فيها الاعتراف بالعدو شرطا للاعتراف بتمثيل الفلسطينيين.

ثانيا: ما بعد الإدانة… تفكيك إرث أوسلو الثقافي

لم تكن “أوسلو” مجرد اتفاق سياسي، بل شكلت تحولا معرفيا واجتماعيا عميقا في بنية الفاعل الفلسطيني، وعلى رأسه المثقف. ويمكن الإشارة هنا إلى مستويين مترابطين:

انقلاب وظيفة المثقف: من “فاعل تحرري” إلى “وسيط تمويلي”

في أعقاب أوسلو، وتحت شعارات “السلام”، و” بناء المؤسسات”،

” والتنمية الثقافية”، جرى تفكيك موقع المثقف العضوي، واستبداله بمثقف ممول، يتحدث بلغة “المشاريع”، ويدير ورشا حول “الحوار”، و” اللاعنف”،” وإدارة الصراع”، دون أن يضع يده على جذر المسألة الاستعمارية. هذا التحول أنتج مشهدا ثقافيا هجينا، بات يجرؤ على إدانة الفعل المقاوم، ويتردد أمام إدانة الاحتلال ذاته.

تمييع الحق وهيمنة الخطاب الممول

ترافقت موجة التمويل الدولي مع تعويم مفاهيم مثل “المجتمع المدني”، “التعددية”، و” بناء السلام”، واستخدامها لإعادة إنتاج وعي فلسطيني منزوع السلاح الرمزي. صارت المقاومة موضوعا للنقاش المشروط، لا لاصطفاف أخلاقي حاسم. وجرى تقييم الفعل المقاوم ليس من موقع الصراع الوجودي، بل وفق معايير “الكلفة”، و” القبول الغربي”، و” الملاءمة الخطابية”.

وقد بلغ مشروع التصفية ذروته قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر/ 2023، حين أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن – خلال قمة العشرين في نيودلهي (9/9/2023) – عن مبادرة “الممر الاقتصادي” الذي يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا، مرورا بإسرائيل. كما عرض بنيامين نتنياهو في الأمم المتحدة (22/9/2023) خريطة تضم كامل أرض فلسطين ل ” إسرائيل الكبرى”، مستبعدا أي ذكر لغزة أو الضفة، كأنها خارج الجغرافيا وخارج الوجود.

في مواجهة هذه الهندسة الإبراهيمية للمنطقة، وجد الفلسطينيون أنفسهم أمام خيارين: المحو الصامت أو المحو الصاخب، كما وصف خالد بدقة. فجاء فعل السابع من تشرين الأول/كتوبر بوصفه انفجارا نضاليا في وجه الإبادة التدريجية، لا مغامرة تكتيكية.

ثالثا: الحاجة إلى مشروع تحرري ثقافي جامع

ما بين الفعل النضالي والتمثيل السياسي المجوف، تقف الثقافة اليوم كحقل معطل. ومن هنا، فإن استعادة الفعل الفلسطيني لطاقته التحررية تتطلب:

تفكيك الخطاب الممول واستعادة استقلال الحقل الثقافي

لا يمكن بناء مقاومة فكرية دون مساءلة عمق الاختراق التمويلي للمؤسسات الثقافية والأكاديمية. المطلوب ليس فقط الانفصال عن الممول، بل إعادة بناء معجم تحرري يعيد تعريف المفاهيم من موقع مقاومة العدو الوجودي لا مهادنته والامتثال لشروطه بذريعة اختلال موازين القوى.

تحرير الوعي من سطوة الهوية التنظيمية

كما أشار خالد، المقاومة ليست ملكا لتنظيم، بل فعل جماعي مفتوح. لكن هذه الإشارة تحتاج إلى توسعة: فالمطلوب ليس فقط تجاوز الولاء الحزبي، بل بناء هوية تحررية جامعة، تستوعب تنوع الأدوات، وتلتزم بهدف واضح: تفكيك البنية الاستعمارية لا التكيف معها.

بناء منظومة إنتاج معرفي بديل

نحن بحاجة إلى إعادة كتابة السردية الفلسطينية من الداخل، عبر أدوات تحررية، ومنظومات معرفية تستند إلى التجربة النضالية. لا يمكننا أن ننتج وعيا مقاوما بأدوات نظرية مستوردة من منظومة هيمنة، ولا يمكن مواجهة الاستعمار بلغة ليبرالية تشتق شرعية الفعل من تقارير المؤسسات الغربية.

تحويل الفعل إلى مشروع

المقاومة لا تتحقق بالفعل وحده، بل بالرؤية المصاحبة. المطلوب اليوم ليس تمجيد التضحيات فقط، بل ربط الدم بالأفق، والفعل بالاستراتيجية، وتجنب تحويل النضال إلى لحظة مجيدة تستهلك ثم يعاد احتواؤها باسم “التمكين” أو “الشرعية الدولية”.

مقاومة الفعل… ومقاومة النسيان

يأتي مقال خالد عطية كصوت أصيل في لحظة اشتداد الخذلان. لكنه أيضا ناقوس إنذار بضرورة تحرير الحقل الثقافي من انفصاله التاريخي عن نضال الناس. ولعل التحدي الأكبر اليوم لا يتمثل في إثبات شرعية المقاومة، بل في تحويل المقاومة من حدث إلى مشروع، ومن صرخة إلى بنية، ومن موقف إلى وعي تحرري متجدد.

فالمقاومة، كما قال خالد، لا تكفي. ويجب ألا نكتفي نحن أيضا، بل نوسع المساءلة ونجعل من الفعل النضالي مولدا لوعي جديد، لا مجرد لحظة تنفجر ثم يعاد احتواؤها.

ختاما، يستحق جهد خالد عطية التقدير والبناء عليه، لا بالاكتفاء بالتصفيق له، بل بالانتقال من مستوى التفكير إلى مستوى الفعل المنظم، ومن دائرة الوعي إلى مشروع ثقافي تحرري يتكامل مع الدم، ولا ينفصل عنه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى