أقلام وأراء

د. غانية ملحيس: الطوفان بين جدل الصواب والخطأ: تفكيك الأعطاب وبناء الأفق

د. غانية ملحيس 29-8-2025: الطوفان بين جدل الصواب والخطأ: تفكيك الأعطاب وبناء الأفق

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، اندلعت عملية طوفان الأقصى لتدخل التاريخ كواحدة من اللحظات الفاصلة في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وكحدث كوني تتجاوز دلالاته حدود فلسطين. ومنذ الساعات الأولى، انقسم الفلسطينيون بين من يحاكم العملية وفق منطق «الصواب والخطأ»، وبين من يرى فيها حدثا كاشفا يعيد صياغة معادلات القوة في فلسطين والمنطقة والعالم.

هذا المقال لا ينطلق من سجال التوصيف المبسط، بل يهدف إلى قراءة استراتيجية تستنطق الحدث، تكشف أعطاب البنى الفلسطينية والعربية والدولية، وتطرح أفقًا جديدًا للمشروع الوطني التحرري. فالطوفان ليس مجرد معركة عسكرية، بل لحظة تاريخية مفصلية، إما أن تُستثمر لتأسيس مرحلة جديدة، أو تهدر بالجدل العقيم فتضاف إلى سلسلة الفرص الضائعة.

أولاً: مدخل في منطق الجدل

• مواصلة الجدل الفلسطيني وحصر النقاش في سؤال “هل كان الطوفان صائبا أم خاطئا؟” بعد عامين من حدوثه، يضيق أفق التفكير. ويحوّل الحدث التاريخي إلى جدل أخلاقي/إعلامي سطحي بلا جدوى. لأن الطوفان قد حدث.

• المقاومة في فلسطين لم تكن يوما مجرد خيار عسكري، بل فعل وجودي يعبّر عن إرادة البقاء في وجه مشروع استعماري إحلالي يسعى إلى محو الأرض والشعب معًا.

• المطلوب إذن هو التحول من محاكمة الفعل إلى توظيف تداعياته. أي كيف يمكن تحويل الصدمة إلى فرصة، وكيف نستثمر التضحيات الجسيمة التي قدمها الشعب الفلسطيني وما يزال، لإحداث تحول استراتيجي في مسار الصراع يقرب الشعب الفلسطيني من بلوغ حقوقه المشروعة في الحياة والحرية والعودة وتقرير المصير.

• وهذا يستلزم إعادة ضبط العدسات التاريخية: النظر إلى الطوفان كمنعطف تاريخي في الصراع، يحمل فرصًا لتصويب المسار، وكاشفًا لحقائق تبدد المسلمات التي استقرت في الأذهان حول العدو الذي لا يُقهر من جهة، ولأعطابنا البنيوية الفلسطينية والعربية من جهة ثانية، ولأعطاب النظام الدولي من جهة ثالثة، وكمنصة لإعادة بناء استراتيجيتنا الوطنية والقومية لتصويب اعوجاج مسار التاريخ الفلسطيني والعربي والعالمي.

ثانياً: خطة الإبادة ورؤية البقاء

• إسرائيل ليست استثناء، بل امتداد لنموذج المستعمرات الإحلالية في الولايات المتحدة، كندا، أستراليا ونيوزيلندا، حيث جرى محو السكان الأصليين أو تهميشهم جذريًا.

• أدوات المحو في الحالة الفلسطينية:

• الجسدي/الجغرافي والديموغرافي: الإبادة والتدمير، التهجير القسري، الحصار، التفكيك المكاني والديموغرافي.

• الرمزي/الثقافي: تزييف الرواية والتاريخ، محو الذاكرة، سرقة التراث.

• السياسي: تفكيك المؤسسات الوطنية ومنع أي بديل سيادي حقيقي.

• الهوس الديموغرافي الإسرائيلي يكشف طبيعة المشروع: كل طفل فلسطيني يُحسب تهديدًا استراتيجيًا.

• قبل الطوفان، ومنذ إنشاء إسرائيل ومعها رعاتها الغربيون عمومًا والولايات المتحدة خصوصًا، ساروا نحو الحسم المتدرج للصراع، تارة عبرالإبادة والتطهير العرقي والحروب المتكررة، وتارة أخرى عبر “الحسم الصامت”، كما في صفقة القرن، التطبيع العربي، وإعادة هندسة المنطقة على أساس إخراج فلسطين من مركزيتها.

• لكن الطوفان قلب الطاولة وأعاد تعريف الصراع: البقاء أصبح المشروع السياسي بحد ذاته، والمقاومة باتت التعبير الأكثر صفاءً عن هذا الحق الوجودي.

ثالثًا: الطوفان كحدث كاشف

الطوفان لم يغير فقط في الميدان العسكري، بل كشف أعطاب البنى القائمة:

• فلسطينيا: غياب المشروع الوطني الجامع، تكلس الخيارات السياسية، الانقسامات الفصائلية وهشاشة السلطة الفلسطينية، مع إقصاء بعض القوى الشعبية، ما أعاد مركزية المقاومة.

• عربيا: عجز النظام العربي القطري عن تجاوز الهندسة السياسية والجغرافية والديموغرافية التي فرضتها القوى الاستعمارية الغربية المهيمنة عبر حربين كونيتين (سايكس–بيكو، ووعد بلفور)، مع تفاوت بين الدول، بين متواطئ وعاجز وقلق على مصيره بسبب التناقضات بين مصالحه الاقتصادية والسياسية وبين الضغط الشعبي المؤيد لفلسطين، ما يكشف هشاشة التوازنات الداخلية.

• إقليميا: التردد بين القوى الإقليمية (تركيا وإيران) التي تتأرجح بين اعتبارات قومية وتطلعات لتعزيز موقعها الإقليمي، ودوافع براغماتية للمساومة والمقايضة.

• دوليا: انكشاف المنظومة الغربية المهيمنة، كراعٍ وحامٍ وشريك للمشروع الصهيوني، وتكشف حدود وزيف خطابها عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، واتساع الصدوع الداخلية في الدول الغربية أفقيا وعموديا، وتنامي الفجوة بين الأنظمة والشعوب وخصوصًا الفئات الشابة.

رابعا: التاريخ كمعيار

• القرارات التاريخية لا تُقاس بميزان الربح والخسارة المباشر، بل بقدرتها على إعادة تشكيل المسارات.

• لينين أطلق ثورة أكتوبر رغم استحالة الظرف، فغير مسار القرن العشرين وأوجد توازنا مع الإمبريالية.

• غورباتشوف تجاهل الطبيعة الاستعمارية للغرب الساعي للهيمنة العالمية، فانتهت تجربته بانهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المعسكر الاشتراكي، والعودة إلى الأحادية القطبية والتفرد الأمريكي بالقرار الدولي.

• تجارب التحرر الوطني الأخرى (الجزائر، فيتنام، جنوب أفريقيا) تبيّن أن القرارات الجذرية تنتقد في لحظتها لارتفاع كلفتها، لكنها تصبح لاحقًا نقاط تحول كبرى.

• من هنا، الطوفان، بغض النظر عن نوايا الفاعل، يجب أن يُقرأ كمنعطف استراتيجي لإعادة فتح مسارات جديدة، وليس مجرد مغامرة عسكرية، حتى بافتراض عدم استهداف حركة حماس لذلك.

خامسا: الطوفان وموازين القوى

• إسرائيل: اهتزت صورة التفوق والجيش الذي لا يُقهر، وتعمقت الهواجس الديموغرافية، واهتزت ثقة يهود العالم بنجاعة الحل الصهيوني، وتآكلت الثقة بدور إسرائيل الخاص “كملاذ آمن ومزدهر لليهود”، وبدورها العام كـ” حصن غربي منيع ومتفوق ومجد بمعيار الكلفة والعائد”. وتعمقت الانقسامات الداخلية السياسية والاجتماعية والدينية داخل المجمع الاستيطاني الإسرائيلي، رغم توافقهم على إبادة ومحو الشعب الفلسطيني. وتبددت الثقة بين القيادات السياسية والعسكرية، وارتفعت الأعباء الإسرائيلية للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي سياسيا، ودبلوماسيًا، واقتصاديا، وأمنيا، واخلاقيا. ونزعت القداسة الدولية عن المحرقة لتبرير الإبادة والتطهير العرقي والتمييز العنصري، وباتت إسرائيل دولة منبوذة في الرأي العام الدولي، وأضحى دعمها عبئًا سياسيًا وأخلاقيًا على رعاتها الغربيين.

• الغرب: انكشف حقيقة الغرب الاستعماري وزيف ادعاءاته ونفاق خطاباته. إذ تلاشت مفردات “الحرية”و”حقوق الإنسان” أمام الدعم غير المشروط للإبادة. وتوارت شعارات “الديمقراطية” أمام مشاهد العنف وقمع الحركات الاحتجاجية الطلابية والشعبية المعارضة للإبادة والمؤيدة لحق الشعب الفلسطيني في الحياة والحرية والعدالة وتقرير المصير. وتعمقت الصدوع الداخلية في الدول الغربية، واتسعت الهوة بين الشعوب والحكومات.

• فلسطين: استعادت مركزية قضيتها في الوعي العربي والإقليمي والعالمي، وأعادت تعريف المقاومة كجوهر المشروع الوطني.

• النظام العربي: برزت تناقضات التطبيع مع توجهات الشعوب، مما عرّى النظام الرسمي أمام شعوبه وأمام الرأي العام العالمي.

سادسا: من الجدل إلى الاستراتيجية

• المطلوب اليوم إعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني: من وهم حل الدولتين والدولة على حدود 1967، إلى مشروع مقاومة وجودية هدفه تفكيك النظام الاستعماري الصهيوني الفاشي العنصري.

• بناء أدوات فعل شعبية: تفعيل طاقات الداخل والشتات، تجاوز البنى الفصائلية والسلطوية الجامدة، إبداع أشكال جديدة من التنظيم الشعبي.

• ربط فلسطين بالسياق التحرري العربي: اعتبارها مختبرًا لمستقبل الأمة، وتجاوز التجزئة القطرية التي فرضتها إعادة الهندسة (سايكس–بيكو ووعد بلفور).

• ربط فلسطين بالسياق التحرري العالمي: دول الجنوب، الشعوب الأصيلة، السود والأقليات المهمشة، حركات التحرر، والمدافعين عن حقوق الإنسان والعدالة والمساواة، وتحويل الصراع إلى قضية كونية واستثمار انكشاف الغرب لتوسيع قاعدة التضامن الشعبي العالمي ضد الاستعمار والاستبداد والعنصرية والاستغلال.

سابعًا: نحو رؤية مستقبلية

• الطوفان يجب أن يقرأ كبداية مرحلة جديدة، وليس نهاية لمسار.

• تحويل اللحظة إلى أفق مؤسس للمستقبل يقتضي:

• وضوح الرؤية: مشروع تحرري إنساني شامل يرتكز على تساوي حقوق جميع الشعوب في الحياة والحرية والعدالة وتقرير المصير.

• تأسيس أدوات البناء والتنظيم الشعبي والمؤسسي.

• استيعاب دروس التاريخ لتجنب إعادة إنتاج الأخطاء البنيوية.

• المستقبل لا يُمنح بل يُنتزع، عبر وعي استراتيجي، إرادة جماعية، وفعل منظم.

الطوفان كشف هشاشة المشروع الصهيوني وأعطاب البنى الفلسطينية والعربية والدولية، وفي الوقت ذاته فتح أفقا جديدا لإعادة تعريف المشروع الوطني التحرري. اللحظة التاريخية لا تختزل في ميزان «الصواب والخطأ»، بل تُقاس بقدرتها على تدشين مرحلة جديدة من الوعي والمقاومة والبناء. فلسطين اليوم تقف على عتبة هذا التحول، وغزة هي بوابته الكاشفة: إما أن تتحول التضحيات إلى مشروع نهضوي استراتيجي جامع، أو تهدر في دوامة الجدل العقيم وتعيد إنتاج الهزيمة.

لقد أظهر الطوفان وحدة مكونات الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجه، وكشف طاقات الصمود الشعبي الفلسطيني، والقدرة الاستثنائية في الصبر والتحمل، وأظهر التعاطف والدعم الشعبي العربي والدولي الوازن. ما يؤكد أن الفرصة التاريخية متاحة، وأن الموارد الإنسانية والإرادة متوفرة، ويمكن توجيهها وتنظيمها وتوحيدها وتفعيلها حول مشروع تحرري شامل للتأسيس لمستقبل فلسطيني وعربي وعالمي مغاير.

مركز الناطور للدراسات والأبحاث  Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى