أقلام وأراء

د. عمرو حمزاوي: ماذا تريد إسرائيل من الشرق الأوسط؟

د. عمرو حمزاوي 29-12-2024: ماذا تريد إسرائيل من الشرق الأوسط؟

في الشرق الأوسط، تظل إسرائيل اللاعب الإقليمي الذي لم يتوقف منذ نشأته في ١٩٤٨ عن توظيف أدواته العسكرية في سلسلة حروب متتالية مع جواره العربي المباشر، وصار منذ ١٩٤٨ أيضاً ومنذ تجاهل قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الأمم المتحدة في ١٩٤٧ دولة احتلال لأراضي الغير.

طوال السنوات الماضية، كانت حكومات تل أبيب المتعاقبة تنجرف تدريجياً نحو اليمين المتطرف واليمين الديني الرافضَين لمبدأ الأرض مقابل السلام وحل الدولتين لتسوية القضية الفلسطينية سلمياً والمتمسكين بمواصلة الاحتلال والاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية وحصار قطاع غزة. كانت حكومات تل أبيب بذلك تقوض أساس «عملية السلام» بينها وبين الحكومات العربية والتي بدأت بمعاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية في ١٩٧٩، ثم تلتها اتفاقات أوسلو ١٩٩٣ بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين إسرائيل، واتفاقية وادي عربة ١٩٩٣ بين الأردن وإسرائيل، ومن بعد الاتفاقات جاءت مبادرة السلام العربية ٢٠٠٢ ومن خلالها طالب العرب بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وباستعادة بقية أراضيهم المحتلة، وعرضوا السلام والتطبيع الإقليمي على الدولة العبرية.

طوال السنوات الماضية، كانت حكومات تل أبيب تتنصل تدريجياً من التزامات اتفاقات أوسلو تجاه السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله، وتجرف القبول الشعبي للتسوية السلمية بين قطاعات الشعب الفلسطيني، وتحاصر غزة وتشتبك عسكرياً بين الحين والآخر مع «حماس» والفصائل المتحالفة معها، وتجعل من سلامها مع مصر والأردن «سلام الحد الأدنى» في ظل استمرار الاحتلال والاستيطان والحصار وترفض الانسحاب من الجولان السورية، وتتورط في صراعات عسكرية مع «حزب الله» (حرب ٢٠٠٦) ومواجهات متكررة (منفردة أو بالتنسيق مع الولايات المتحدة) ضد حلفاء إيران على نحو هدد الاستقرار الإقليمي، وتبحث عن اختراقات في مجالات التجارة والدبلوماسية والأمن في عموم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا دون نجاحات كبيرة.

وحين واجهت إسرائيل في ٢٠١١ خارطة شرق أوسطية مربكة بسبب انتشار الانتفاضات الشعبية، وبسبب سرعة التقلبات السياسية، وبسبب الحروب الأهلية التي قوضت استقرار المنطقة، قرر اليمين الحاكم في تل أبيب الاشتباك مع الخارطة المربكة دون التخلي عن ثوابته المتمثلة في التوظيف الممنهج للأدوات العسكرية، والتمسك بمواصلة الاحتلال والاستيطان والحصار في الأراضي الفلسطينية وتجريف فرص التسوية السلمية، واستمرار الضغط على إيران وحلفائها من الحكومات والميليشيات المسلحة الذين حددتها الإستراتيجيات الأمنية القادمة من تل أبيب كمصدر التهديد الأكبر الوارد على أمنها. ثم انتقلت حكومات اليمين المتطرف والديني في إسرائيل إلى المزج بين مواصلة تجريف السلام واستباحة الشعب الفلسطيني احتلالاً واستيطاناً وحصاراً وتوجيه الضربات العسكرية المتتالية للأعداء المتمثلين في حركات المقاومة في فلسطين وفي حلفاء إيران في لبنان وسورية والعراق، وبين التنسيق الأمني والدبلوماسي والسياسي والتبادل التجاري مع بعض الفاعلين الإقليميين الذين وقعت معهم الاتفاقيات الإبراهيمية في ٢٠٢٠.

كان مزج حكومات اليمين المتطرف والديني المتعاقبة في تل أبيب، والتي قاد معظمها بنيامين نتنياهو، كرئيس للوزراء، بين تجريف السلام واستباحة الشعب الفلسطيني وتوجيه الضربات العسكرية لحركات المقاومة ولحلفاء إيران، وبين الانفتاح على فاعلين إقليميين متعددين، هو العنوان الأبرز للسياسة الإسرائيلية في الشرق الأوسط بين ٢٠١٥ و٢٠٢٣.

بل إن حكومات تل أبيب بمزيجها السياسي هذا والموظف على نحو ممنهج بين ٢٠١٥ و٢٠٢٣ عملت، مستغلة في هذا السياق التأييد الأميركي الكاسح لأفعالها والتخاذل الأميركي والأوروبي عن دعم عملية السلام وحل الدولتين وتجاهل واشنطن وكبريات العواصم الأوروبية لمعاناة الشعب الفلسطيني وقصر دعمهم على المساعدات الإنسانية والاقتصادية والمالية، على تحقيق دمج إسرائيل الإقليمي أمنياً ودبلوماسياً وتجارياً واستثمارياً والاقتراب من قبولها الشامل عربياً بالقفز عن الحل العادل للقضية الفلسطينية وعلى شروط مبادرة السلام العربية ٢٠٠٢. وكان الهدف الإستراتيجي البيّن المبتغى من قبل الدولة العبرية التهميش الكامل لفلسطين وللسلام ولفرص حل الدولتين على خارطة الشرق الأوسط وإحلال مسألة مواجهة إيران واحتواء حلفائها ومكافحة الإرهاب والتوافق بشأن ترتيبات للأمن الإقليمي مع الدول العربية الكبيرة كمصر والسعودية والإمارات ومعهم الأردن وتركيا محلها.

وما أن حدث انفجار ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، إلا وكانت سياسات وممارسات حكومة اليمين في إسرائيل ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو القائمة تعمل بعنف شديد على إلغاء حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وفي إقامة دولته المستقلة على حدود ٤ حزيران ١٩٦٧، وتوظف الآلة العسكرية لإعادة احتلال قطاع غزة وإخضاع سكانه ولتمكين المستوطنين من اقتطاع المزيد من أراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية، والتنصل على نحو نهائي من حل الدولتين الذي استندت إليه معاهدات أوسلو.

منذ أكتوبر ٢٠٢٣، لم تقتصر سياسات وممارسات اليمين الإسرائيلي على العنف الممنهج ضد الشعب الفلسطيني، بل امتدت إلى عنف مشابه اتجه إلى لبنان الذي استبيحت أرواح مواطنيه ومواطناته وأرضه وسيادته، وعصف بأمنه بغية القضاء على «حزب الله» عسكرياً وتنظيمياً ومالياً وإبعاده عن المناطق الحدودية ومنع السلاح الإيراني من الوصول إليه مجدداً. بل إن الضربات الإسرائيلية المتتالية ضد الوجود العسكري الإيراني في الشرق الأوسط وضد المتحالفين معه أسفرت في سورية، من بين عوامل أخرى، عن سقوط نظام بشار الأسد وسيطرة فصائل مسلحة على أدوات الحكم والنظام العام، واستدعت في اليمن دائرة من التصعيد والتصعيد المضاد بين إسرائيل والحوثيين ضحيتها الملاحة الآمنة في البحر الأحمر.

على الرغم من ذلك، لم ينتصر بنيامين نتنياهو بعد في حرب الاستنزاف الجديدة لأنه أصبح أسيراً لها ولاستمرارها وصار مفتقداً للقدرة على إيقافها مع الحفاظ على المكاسب المرحلية التي حققها، وفي مقدمتها شل قدرة «حماس» و»حزب الله» على شن هجمات على بلاده، وفرض التراجع على إيران والانكماش على خرائط نفوذها وإظهار محدودية قدرات الفعل والردع التي تتمتع بها الجمهورية الإسلامية.

نتنياهو اليوم ومعه اليمين الإسرائيلي المتطرف والديني أسير حروبه وأسير رؤيته المتطرفة للشرق الأوسط، ولا يملك مهما بلغت نجاحاته الأمنية والعسكرية القدرة على إنهاء تلك الحروب، وليس له في شرق أوسطه الجديد من حلفاء. فمن أجل ذلك يحتاج نتنياهو في فلسطين ولبنان إلى أطراف تقبل الاستسلام غير المشروط لكى تعيد إسرائيل السيطرة الأمنية الكاملة على غزة وتطلق العنان لعنف المستوطنين في الضفة الغربية والقدس الشرقية وتقضي على «حزب الله» عسكرياً وسياسياً. وأطراف فلسطينية ولبنانية كهذه غير موجودة، وإن وجدت فإن ضعفها السياسي وتهافتها المجتمعي لن يسمحا لها بفرض «السلام الإسرائيلي» على الشعبين الفلسطيني واللبناني.

في عموم الشرق الأوسط، يحتاج نتنياهو إلى دفع إيران إلى هاوية سحيقة من انهيار القدرات العسكرية والأمنية ومن انكماش خرائط النفوذ الإقليمي، بحيث تنكفئ الجمهورية الإسلامية على ذاتها خوفاً على بقائها وتبتعد عن دعم حلفائها من الحكومات والحركات والميليشيات المسلحة. وإيران كهذه، ومهما كانت قسوة تداعيات انهيارات «حماس» و»حزب الله» وسقوط نظام بشار الأسد ليست معنا، بل ما معنا هو محاولات مستميتة لمد خطوط دعم الحلفاء مجدداً في الجوار المباشر لإسرائيل ولتقوية الميليشيات في العراق واليمن.

يعوز نتنياهو ويمينه الحاكم أيضاً شركاء إقليميين يقبلون خرائطه «للخير والشر» في الشرق الأوسط بإلغائها للدولة الفلسطينية واستعبادها الاستيطاني طويل المدى للشعب الفلسطيني واعتداءاتها المتكررة على سيادة وحقوق الشعوب العربية المجاورة في لبنان وسورية وعلى العراق واليمن، وتهديدها للمصالح الوطنية المصرية والأردنية بأخطار التهجير القسري للفلسطينيين والفلسطينيات ومجمل المصالح الإقليمية بفرض وضعية طويلة المدى من العنف والدماء والدمار وعدم الاستقرار بحرب الاستنزاف الجديدة.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى