د. عمرو حمزاوي: ألمانيا: خطر الانحراف يمينا ويسارا
د. عمرو حمزاوي 19-11-2024: ألمانيا: خطر الانحراف يمينا ويسارا
في اليوم التالي للانتخابات الأمريكية ومع إعلان فوز دونالد ترامب بالرئاسة وفوز الحزب الجمهوري بأغلبية مقاعد مجلس الشيوخ (وقد أضاف تاليا أغلبية مقاعد مجلس النواب ليسيطر بذلك على السلطة التنفيذية وعلى السلطة التشريعية بمجلسيها) انهار الائتلاف الحاكم في ألمانيا والمكون من الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر والحزب الديمقراطي الحر وتحدد موعد الانتخابات البرلمانية المبكرة ليكون في بدايات 2025. وصارت البلد صاحبة الاقتصاد الأكبر في القارة الأوروبية في خضم أزمة مركبة لها جوانب اقتصادية وسياسية واجتماعية وتنذر بفترة عصيبة.
قبل انهيار الائتلاف الذي ضم حزب يسار الوسط الاشتراكي الديمقراطي وحزب اليسار الخضر وحزب اقتصاد السوق الديمقراطي الحر، قبل الانهيار كانت الأوضاع الاقتصادية في ألمانيا قد تدنت إلى حد الانكماش والنمو السالب وشكوى الأوروبيين من أن قاطرة اتحادهم تعطلت. تداخلت عوامل عديدة كان أبرزها عجز الائتلاف الحاكم عن التعامل مع أزمة ارتفاع أسعار الطاقة نتيجة الحرب الروسية-الأوكرانية وقرار برلين وقف إمدادات غاز موسكو، وصراعات أحزاب الائتلاف بشأن الانتقال الطاقي ورفضها التراجع عن قرار التخلي عن الطاقة النووية ومن ثم تحميل الاقتصاد كلفة ارتفاع الأسعار، وتراجع الصادرات الصناعية الألمانية لهذا السبب وإزاء اشتداد المنافسة الصينية ومنافسة دول أخرى خاصة في مجال السيارات (إلى الحد الذي واجهت معه كبريات شركات السيارات الألمانية خسائر قياسية في 2022 و2023). وترتب على الانكماش الاقتصادي والنمو السالب تفجر المزيد من الخلافات بين أحزاب الائتلاف التي طالب بعضها برفع الضرائب وبعضها الآخر بخفضها وفشلوا جميعا في اعتماد الموازنات اللازمة لتنظيم الإنفاق العام، بل وخرجت تلك الخلافات إلى العلن على نحو جعل من الاشتراكيين والخضر والليبراليين مادة لتندر الرأي العام.
قبل انهيار ائتلاف «إشارة المرور» (كما سمي ألمانيا بسبب خليط ألوان الأحزاب المشاركة، الأحمر للاشتراكي الديمقراطي والأخضر للخضر والأصفر للديمقراطي الحر) كانت الأوضاع السياسية داخليا وخارجيا تنتقل من سيئ إلى أسوأ. فحزب اليمين المتطرف، البديل لألمانيا، كان يحقق نجاحات مستمرة في انتخابات الولايات ويقفز لكي يصبح القوة السياسية الثانية في الشرق (تالية فقط للحزب المسيحي الديمقراطي) والثالثة في الغرب (خلف المسيحي الديمقراطي ثم إما الاشتراكي الديمقراطي أو الخضر) معتمدا على خطابه الشعبوي بشأن قضايا الهجرة واللجوء وإغلاق الحدود في وجه الأجانب والحد من سلطات الاتحاد الأوروبي الذي يراه اليمين بيروقراطية فاسدة. ومن جهة أخرى، كان حزب أقصى يسار جديد شكلته السياسية سارة فاجنكنشت يصعد في استطلاعات الرأي وتفضيلات الناخبات والناخبين مستندا أيضا إلى خطاب شعبوي ضد المهاجرين واللاجئين والأجانب ومعه خطاب حول السياسة الخارجية برفض التورط الألماني العسكري والمالي مع أوكرانيا ضد روسيا ويدعو إلى البحث عن حلول تفاوضية مع روسيا. صعد حزب فاجنكنشت في انتخابات الولايات الشرقية التي أجريت مؤخرا (في ولاية ساكسونيا وولاية تيرنجن) إلى الحد الذي صار معه قوة سياسية يعتد بها.
غير أن نجاحات اليمين المتطرف وأقصى اليسار تدفع بالحياة الحزبية والسياسية الألمانية إلى مواقع خطيرة تتشابه مع ما يحدث في عديد البلدان الأوروبية الأخرى لم تعد لها حكومات مستقرة وأضحت تغيرات ائتلافاتها سريعة ومفاجئة. ويتعقد الأمر أكثر في حالة ألمانيا لتاريخها الصعب وحضور الماضي النازي وجرائمه البشعة في الذاكرة الجمعية وكذلك حضور ماضي الحكم الشيوعي في ألمانيا الشرقية وجمهورية الاستخبارات التي أقامها في ذاكرة الكثيرين، وهو ما يجعل من الخوف على «انحراف ألماني» قد تفجره إن العنصرية والوطنية الشوفينية أو النزوع السلطوي قضية كبرى ذات أوزان تختلف عن اقتراب ماري لوين من مقعد الرئاسة في فرنسا وعن تولي جورجيا ملوني لرئاسة الحكومة في إيطاليا.
وزاد من صعوبات الحالة الألمانية (والبعض في أوروبا يتعمد وصفها بالمرض العضال ووصف البلد الأهم في القارة العجوز بالرجل المريض) حقيقة أن الانقسامات السياسية بشأن قضايا الحرب والسلام المتمثلة في أوكرانيا وغزة بلغت حدا من الاستقطاب غير معهود منذ سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين (نشر الصواريخ النووية في أوروبا وسباق التسلح على الأرض الأوروبية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق).
وبينما تواصل أحزاب المسيحي الديمقراطي والاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر تأييد تقديم الدعم العسكري والمالي لأوكرانيا والتأييد الأعمى لحرب إسرائيل على غزة ولبنان بصادرات السلاح والذخيرة والمال وتتنصل من ثم من مبادئ التسوية السلمية للصراعات وعدم التورط في مناطق النزاعات، خرج اليمين المتطرف ممثلا في البديل لألمانيا بخطاب مختلف يرفض مواصلة دعم أوكرانيا ويساند في الوقت نفسه حروب إسرائيل وقدم أقصى اليسار ممثلا في حزب فاجنكنشت خطابا يرفض الحرب في الحالتين ويربط بين الإنفاق الألماني على الحروب وبين انهيار الأوضاع الاقتصادية في البلاد. ورتب الاستقطاب بين الأحزاب وفي الحياة السياسية الكثير من التشوه في الفضاء العام الذي أضحت به اتهامات مسبقة ومعلبة من نوعية «حلفاء روسيا» و«أعداء السلمية» و«تجار الحروب» هي الأشد رواجا.
قبل انهيار ائتلاف «إشارة المرور» وتحديد موعد الانتخابات البرلمانية المبكرة بدايات العام القادم، كانت ألمانيا تعاني اجتماعيا بسبب الضغوط اليومية للاستقطاب الداخلي بشأن قضايا كالهجرة واللجوء والموقف من أوكرانيا وغزة ومن مسألة الانتقال الطاقي وسياسات الخروج من الانكماش الاقتصادي والنمو السالب. وكان ما يعتمل بالمجتمع يخرج إلى السطح في تظاهرات واحتجاجات تارة وفي تصويت لأحزاب اليمين المتطرف وأقصى اليسار في صناديق الاقتراع تارة أخرى. صار الحفاظ على التوافق المجتمعي والتوازن بين الحق في الاختلاف وبين صوت العيش المشترك في بلد له درجة عالية من التنوع العرقي والديني تحديا حقيقيا أمام الحكم والسياسة في ألمانيا، تحديا يتعامل معه بعض الأحزاب بمقولات عنصرية وشوفينية وبعضها الآخر بمواقف تنتصر للحريات والحقوق وبعضها الثالث يتجاهلها قدر الإمكان خوفا من قسوة شعبوية اليمين المتطرف وأقصى اليسار ونفوذهما المتنامي في الانتخابات.
ألمانيا مقبلة على فترة عصيبة داخليا، وعلى أزمة اقتصادية ممتدة لشيء من الوقت، وعلى تراجع في مركزيتها أوروبيا. وخطر تجدد انحرافها إن أقصى اليمين أو اليسار يظل حاضرا في الأذهان.