أقلام وأراء

د. علي الجرباوي: ماذا تريد إسرائيل وحلفاؤها من الحرب على قطاع غزة؟

د. علي الجرباوي 2023-11-04: ماذا تريد إسرائيل وحلفاؤها من الحرب على قطاع غزة؟

هذا المقال مخصص لمحاولة استكناه الدافع العميق، الذي يغوص أبعد من مجرد ردّة الفعل على هجوم حماس في 7 أكتوبر، لشنّ إسرائيل وحلفائها الحرب الحالية على قطاع غزة. والهدف منه هو استنتاج ما تسعى إسرائيل والمتحالفون معها تحقيقه من هدف استراتيجي من هذه الحرب، بعد أن تضع أوزارها.

في العادة ما تحمل التسميات، وبالتالي الأسماء، مقاصد ودلالات. وهذا ما تشي به تسميات إسرائيل لحروبها مع العرب والفلسطينيين. على سبيل المثال، أطلقت إسرائيل على حرب عام 1967 اسم «حرب الأيام الستة»، بهدف إذلال عبد الناصر وتقويض فكرة القومية العربية. وأطلقت على حرب عام 1973 اسم «حرب يوم الغفران»، لاستدرار تعاطف ودعم العالم لكونها هوجمت في يوم عيد ديني مقدس. وهي الآن تُطلق على الحرب التي تشنها على قطاع غزة مسمّى «الحرب ضد حماس»، بعد أن قامت ماكينتها الإعلامية، المدعّمة بوسائل إعلامٍ غربية مؤثرة، بوسم حركة حماس بـ «الإرهاب»، وإقرانها بداعش، في محاولةٍ لإضفاء الشرعية على ما ترتكبه الآلة العسكرية الإسرائيلية من فظاعات، وتغطيةٍ تبريريةٍ لما تقوم به إسرائيل من حملة استهدافٍ ممنهجٍ ومجازر قتل جماعي مستمر للمدنيين الغزيين، وتهديم للبنى المختلفة للحياة الفلسطينية في القطاع. تحاول إسرائيل حالياً من خلال «شيطنة» حماس، أن تقفز وتُنسي العالم أنها، من خلال رئيس حكوماتها المتعاقبة لأعوامٍ طوال، أجازت التوصل إلى تفاهمات مع نفس الحركة التي تُطلق عليها حالياً تعبير «الإرهابية الداعشية»، بما في ذلك السماح بإمدادها بالمال!

لماذا هذا التحوّل الدراماتيكي، وما الدافع له؟

لم يكن هجوم 7 أكتوبر مباغتاً لإسرائيل وحسب، والمباغتة لإسرائيل بحدّ ذاتها أمرٌ جلل، كونها تريد دائماً الاحتفاظ لنفسها بعنصر المفاجأة الذي يضمن لها التفوق في الميدان. بل كان أثره أبلغ من ذلك بكثير، إذ إن هذا الهجوم كان كاسحاً لها، وهزّ أركان كينونتها من مختلف الجوانب. لقد أثبت لها هذا الهجوم غير المتوقع أن الصراع محليّ، وأن جميع مباهاتها بقدراتها وتحصيناتها لم تقيها من وقوعه داخلها. لقد انتقلت المعركة التي كانت إسرائيل تدفعها دائماً إلى خارجها، لتكون هذه المرّة داخل حدودها، وتتحقق فيها خسارتها. لقد أصبح الأمر وجودياً بالنسبة لها، ما أدى بها لاتخاذ قرار استراتيجي فصل بين السابق واللاحق للسابع من أكتوبر.

لقد نبعت التفاهمات السابقة مع حماس التي استمرّت «تتعكز» عليها حكومات نتنياهو المتعاقبة من عدم الاستعداد لتحمّل كلفة المواجهة معها، ودفع الثمن بفقد عدد كبير من الجنود القتلى إن جرت تلك المواجهة. كان معروفاً أن هذه المواجهة تحتاج إلى اجتياح الجيش بريّاً لقطاع غزة، وهذا ما استمرت تلك الحكومات بمحاولة تفاديه، والاستعاضة عنه كلما «فكزت» التفاهمات القائمة بشنّ حروبٍ على القطاع بالقصف الجوي، لتحاشي خسارة الجنود في الميدان، لتنتهي الجولة بترميم جديد لحزمة التفاهمات التي كانت قائمة. كان الهدف الإسرائيلي حينها شراء حقبٍ من الهدوء المؤقت عن طريق «المسايرة» التي قام بها الوسطاء على الدوام.

مع التكلفة الكبيرة لهجوم 7 أكتوبر، والأهم في مغزاه من الناحية الاستراتيجية، وصلت إسرائيل إلى استنتاج أن الوقت حان لتغيير النسق الذي كان يحكم العلاقة مع حماس بشكل جذري. عوضاً عن العمل المعتاد وفقاً لنسق «التفاهمات»، قررت إسرائيل أن خيار «شراء الوقت» لم يعد مجدياً، وأن التعايش مع استمرار تهديد حماس – ومعها قوى المقاومة الأخرى – المفتوح لها لم يعد ممكناً، وذهبت باتجاه نسق «المواجهة الشاملة». يعبّر هذا النسق عن استعدادها المُستجَد لدفع تكلفة الخوض في حرب شاملة ومفتوحة مع تلك القوى، والتي تتطلب دخول الجيش بريّاً إلى القطاع، والتي ستكلّفها ما كانت حتى تلك اللحظة تعتبره ثمناً كبيراً. لقد اتخذت إسرائيل قرار الردّ بحملةٍ عسكريةٍ بريةٍ مباشَرةً بعد هجوم 7 أكتوبر، وما بقي كان استعدادات وتفاصيل.

أعلنت إسرائيل الحرب، وبيّنت أن الهدف منها هو «التدمير الكامل لحماس والقضاء عليها». وتحت ذريعة «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، سارع حلفاؤها الغربيون التقليديون ليس فقط لمنحها الرخصة المفتوحة لاتّباع سياسة الأرض المحروقة في القصف الجوي للقطاع، وإنما لتغطية هجومها البري عليه باعتباره ضرورةً تقتضيها المواجهة المفتوحة مع حماس. لقد ساند هؤلاء الحلفاء إسرائيل بصورة كاملة؛ بتحريك القطع البحرية والجنود إلى المنطقة، وتزويدها بالعتاد الحربي، والمعلومات الاستخباراتية، والخبرة القتالية، وإسنادها سياسياً واقتصادياً وإعلامياً ومعنوياً، ومنحها درع وقاية دبلوماسية في المحافل والهيئات الدولية، وبما يحول دون إمكانية إنجاح الدعوات المتصاعدة لوقف إطلاق النار، وتأمين الحماية للمدنيين من الحمم المقذوفة عليهم من كل اتجاه. لقد أصبح الهدف الإسرائيلي المتمثل بالقضاء على حماس هدف التحالف الغربي أيضاً.

لمَ هذه الهجمة المنظمة والمنسقة ضد حركة حماس، وما الهدف منها؟

لكل حرب أهداف سياسية يسعى كل طرف لتحقيقها، هدف إسرائيل الظاهر من الحرب الحالية واضح وجلي: الرد بأقسى صورة على هجوم السابع من أكتوبر. ردّ فعلٍ انفعالي على الهجوم المباغت، والذي أدى بالحكومة الإسرائيلية الفاشلة إلى المسارعة بالتوعد بالثأر والانتقام، والقيام بالغارات الجوية المجنونة على القطاع. ولكن تغيير نسق المواجهة مع حماس، والتكاتف الغربي حول الهدف الإسرائيلي بالقضاء عليها، يحتاج إلى الغوص من التبرير الماثل على السطح إلى إيجاد التفسير المستتر في العمق.

حركة حماس – ومعها حركة الجهاد الإسلامي – هي حركة مقاومة لإسرائيل، لا تعترف بها، ولا تقبل حتى الآن الاعتراف بحقها في الوجود، وهي على خلافٍ مع من يعترف بإسرائيل فلسطينياً. وهي تتبنى هذا الموقف عقائدياً، وتعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي من خلال المقاومة المسلحة. هذه الحركة تمكنت في عام 2007 من الاستئثار بالسلطة على قطاع غزة، وحوّلت القطاع إلى نقطة ارتكاز مستقلة لتنفيذ رؤيتها، ولكون القطاع محاذياً جغرافياً لإسرائيل، فقد تمكنت حماس من خلال سيطرتها عليه، وبما تمتلكه من قدرات وإمكانيات قتالية، من أن تصبح ليس فقط مصدر تهديدٍ متصاعد وقلقٍ دائم لإسرائيل، وإنما لتصير أيضاً أهم فاعلٍ فلسطينيٍ مواجهٍ لسلاسة وانسيابية محاولات إسرائيل تطبيع وجودها في الإقليم. باختصار، لقد أضحت حماس، بسيطرتها على القطاع، «عقدة أساسية» أمام استكمال تحقق هدف إسرائيل في الهيمنة على المنطقة.

يجدر الانتباه إلى أن إسرائيل، والتحالف الغربي معها، على معرفة تامة بأن أي ترتيب لأوضاع المنطقة، ولتسوية سياسية تحافظ على المصلحة الإسرائيلية، لا يمكن أن تتحقق دون تطويع كامل للمشهد السياسي الفلسطيني. كما أنهم على درايةٍ أيضاً أن حركة حماس تتمتع بدعم شعبي عارم داخل المجتمع الفلسطيني، وأنها، حتى مع الاستهداف المُعلن بضرورة تصفيتها، لن تنتهي، كونها حركة ذات أيديولوجيا ورؤية متجذرة في الوجدان والوعي السياسي الفلسطيني. وهم يعلمون أيضاً أن أفضل وسيلة لاستدراج حماس للدخول في حلقة التسوية هو إنهاء، أو على الأقل إنهاك، عنصر المقاومة داخلها، وتطويع البعد السياسي لها، بعد إفقادها عامل قوتها الأساس.

مع فشل السياسة الإسرائيلية السابقة لاحتواء «الأضرار» الناجمة عن تحكم حماس بالقطاع، والتي أثبتها هجوم 7 أكتوبر، وصلت إسرائيل إلى الاستنتاج بأن عليها إفقاد حماس نقطة ارتكازها، وحرمانها من استمرار السيطرة على منطقة محاذية لها. بالتالي، عرّفت إسرائيل إجرائياً هدف «تدمير حماس والقضاء عليها» بضرورة، أولاً، تدمير القدرة والإمكانية القتالية للحركة في القطاع، أي القضاء على «بنيتها التحتية»، وثانياً، إنهاء حكمها للقطاع، أي وضع حدٍّ لاستمرار سيطرتها على «البنية الفوقية» للحكم فيه. هذا يعني إنهاء وجود حماس كحركة مقاومة فعّالة وذات إمكانية، بفعل المحاذاة الجغرافية، للتأثير الفاعل على إسرائيل، وعلى المجريات الإقليمية المتعلقة بها.

ليس هذا وحسب، وإنما إن تمكنت إسرائيل من تحقيق هذا الهدف الذي تُنبئنا مجريات الأحداث أنها عاقدة العزم على تحقيقه، فإنها ستنتقل مباشرة لملاحقة القيادة السياسية للحركة، الموجودة خارج قطاع غزة. عدا عن محاولة الاستهداف بالقتل، فإن إسرائيل، وبواسطة مساعدة فاعلة من حلفائها، ستشن هجوماً مركّزاً على البلدان التي لحماس تواجد قيادي فيها، بهدف طردهم منها. وسيقوم التحالف الغربي بشنّ حملة تضييق مالي على هذه القيادة السياسية، عدا عن المطالبة بمثول أعضائها أمام محكمة الجنايات الدولية. وستتعرض هذه القيادة لكل أنواع الملاحقة والمحاصرة التي يمكن أن تخطر على البال.

سيكون هدف هذا التتبُّع حشر حركة حماس في الزاوية ودفعها باتجاه تقديم التنازل المطلوب منها، وهو الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود ونبذ العنف والقبول بانتهاج النهج السياسي – التفاوضي. إن تحقق ذلك لإسرائيل، تكون قد تمكنت من تدجين الوضع الفلسطيني بالكامل. هذا هو الهدف الإستراتيجي الذي تحاول تحقيقه في هذه الحرب، وإن تحقق لها تكون قد انتصرت فيها.

هذا السيناريو مكرّر، قامت به إسرائيل من قبل. فقد اجتاحت لبنان في عام 1982، ودخلت بيروت. وبالرغم من المقاومة الشرسة لحركة فتح وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية، إلا أن النتيجة النهائية كانت إخراج المنظمة، كفاعل مقاوم، من لبنان، وحرمانها من نقطة ارتكازها المحاذية لإسرائيل. لاحقت إسرائيل قيادات المنظمة في بلدان شتاتها، وقامت بعمليات اغتيال، وساعدها التحالف الغربي على تجفيف الموارد المالية للمنظمة، ومحاصرتها سياسياً ودبلوماسياً، وحتى في تجميد قدرة قياداتها على الحركة والتنقل. وعندما أُحكمت الملاحقة والمحاصرة، ولم يعد هناك سبيل للمقاومة، أو حتى المراوغة، تم الطلب من المنظمة دفع ثمن استمرار الوجود. أما باقي القصة فتفاصيلها معروفة.

هذا بالضبط ما تنوي أن تُكرر إسرائيل فعله مع حركة حماس؛ نسخة طبق الأصل عما جرى سابقاً مع المنظمة. السؤال هو: هل ستنجح في ذلك؟

الجواب ما زال برسم الإجابة، إذ إن هذه الحرب التي ستمتد لفترة طويلة نسبياً بالمقارنة مع سابقاتها لا تزال في بداياتها، ونهايتها تبقى مفتوحة. ووفقاً للنتيجة النهائية سيتحدد إن كانت إسرائيل ستنجح في تحقيق الهدف وفرض السيناريو الذي ترغب به. في هذا السياق يجب الانتباه إلى وجود عوامل عديدة متداخله ستؤثر على النتيجة النهائية. مثلاً، إن واجهت إسرائيل في هجومها البري مقاومة شديدة، وبقي استهدافها للمدنيين يُسقط ضحايا يومياً بأعدادٍ كبيرة، وطال أمد الحرب، كم يستطيع الرأي العام العالمي احتمال هذا الوضع؟ وكم بإمكان حكومات التحالف الغربي تحمّل التحول في رأي مواطنيها عندئذٍ، والتعبيرات الغاضبة الناجمة عن هذا التحوّل؟ وما التأثير الذي سيلعبه موضوع الأسرى الإسرائيليين في القطاع على استمرار تماسك الجبهة الإسرائيلية الداخلية؟ وكم تستطيع هذه الجبهة استمرار تحمّل تصاعد الخسائر البشرية والمادية، قبل أن تتململ وتنفجر؟ وما الآثار المترتبة على إمكانية توسع هذه الحرب، وتحولها إلى حرب إقليمية؟

هذه، والكثير غيرها، أسئلة مفتوحة ستتضح الأجوبة عليها في قادم الأيام. ووفقاً للكيفية التي ستأتي عليها تلك الأجوبة، سيتحدد إن كانت إسرائيل ستنجح في تحقيق مسعاها من شنّ هذه الحرب الطاحنة.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى