د. علي الجرباوي: ترمب و”تسوية الحدّ الأدنى” للقضية الفلسطينية: قراءة استشرافية

د. علي الجرباوي 12-1-2025: ترمب و”تسوية الحدّ الأدنى” للقضية الفلسطينية: قراءة استشرافية
تشير مجموعة من المعطيات التي اجتمعت حالياً على الصعيدين الخارجي والذاتي الفلسطيني إلى أن المرحلة المقبلة، وبالتحديد خلال ولاية ترمب الثانية، ستكون لها تداعيات ذات أثر كبير على القضية الفلسطينية، وربما حاسم على صعيد المحاولات التي استمرت طويلاً لإنهائها، وإغلاق الملف المتعلّق بمعالجة الحقوق الوطنية الشرعية للشعب الفلسطيني. ما يجعل هذه المرحلة محفوفة بالمخاطر، المتوقع مواجهتها فلسطينياً، أنها تأتي مع تكالب مجموعة عوامل خارجية، أميركية وإقليمية وإسرائيلية، ضاغطة بشدة باتجاه حسم الصراع العربي/ الفلسطيني – الإسرائيلي، من جهة، في وقتٍ وصل فيه الوضع الداخلي الفلسطيني إلى حالة من الوهن الشديد، الناتج عن فقدان المناعة الذاتية، ما يقلّص بقدر كبير القدرة الفلسطينية على التمكّن من مواجهة الضغوط الوافدة بالنجاعة المطلوبة، من جهة أخرى. المقلق جداً مع هذا الوضع هو ارتفاع إمكانية تمرير “تسوية الحدّ الأدنى” على الفلسطينيين، والاضطرار للانجرار لقبولها، إن لم يتم العمل الفلسطيني السريع والفعّال لمعالجة تردّي الأوضاع الداخلية، واستعادة ولو الحدّ الأدنى من المناعة المهدورة.
لاستقراء تأثير العوامل الخارجية على مستقبل القضية الفلسطينية، من الضروري استقصاء منطلقات وأهداف، واستيضاح أثر تقاطع مصالح الفاعلين الأساسيين الخارجيين في هذا الملف. ويمكن تقسيم هؤلاء الفاعلين على ثلاثة صعد: الدولي والإقليمي والإسرائيلي.
الصعيد الدولي: مع أن النظام الدولي أحادي القطبية يشهد تحولات، وإن كانت بطيئة، باتجاه التحوّل إلى التعددية القطبية، إلا أن الولايات المتحدة الأميركية لا تزال تستأثر، حالياً وعلى مدى المستقبل المنظور، بالمكانة الأهم والنفوذ الأوسع دولياً على منطقة الشرق الأوسط، وبالاستحواذ المطبق على ملف تسوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. هذا الاستئثار يستمر ليس فقط بسبب اتساع مدى وعمق تغلغل المصالح الأميركية في المنطقة، وما انتجه ذلك من روابط في مجالات متعددة مع أنظمة حكم عديدة فيها، وخصوصاً العلاقة العضوية التي تربطها بإسرائيل، بل أيضاً لعدم إيلاء الصين أولوية لهذه المنطقة وهي تُرسّخ من صعودها، وتُعزز من منافستها لأميركا، من جهة، ولانكماش القدرة التأثيرية الروسية فيها، لصالح توسيع التغلغل في مناطق أخرى، وخصوصاً في أفريقيا، من جهة ثانية، ناهيك عن التذييل التبعي الأوروبي لأميركا بشكل عام. من جهة ثالثة. وعلى هذا الأساس، فإن مستقبل القضية الفلسطينية، ومسار ومآل ما يمكن أن يُطرح من تسوية قادمة لها، سيتأثران إلى حدٍّ كبير خلال السنوات الأربع القادمة بعودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، وبنظرته وأولوياته الأساسية تجاه العالم، وموقع منطقة الشرق الأوسط في خارطة هذه الأولويات، ومحددات رؤيته لكيفية معالجة الملف الفلسطيني.
معالجة القضايا الداخلية لإعادة بعث التفوق الأميركي
نظراً للمرتكزات التي حكمت رؤية وتصرفات ترمب خلال فترة رئاسته السابقة، ولتصريحاته المتواترة حالياً، فإن سياسته خلال فترة رئاسته القادمة ستتمحور حول القضايا الكبرى. وبالنسبة له فإن هذه القضايا تتعلق بالأساس باستعادة مكانة أميركا في العالم. وتحت شعار “أميركا أولاً” سيعطي ترمب كامل اهتمامه لمعالجة القضايا الداخلية التي يعتبرها أولوية وضرورية لإعادة بعث التفوق الأميركي، ويأتي في مقدمتها تمتين الوضع الاقتصادي، وبسط الأمن الداخلي، والحدّ من الهجرة غير الشرعية. ويأتي مترافقاً مع ذلك، وبنفس الأهمية، مواجهة ما تتعرض له البلاد من منافسة خارجية، وبالتحديد في مجال التبادل التجاري، تستهدف إضعافها وتقويض مكانتها، ليس من قبل الصين فحسب، وإنما من دول أخرى تدخل تقليدياً في خانة الحلفاء والأصدقاء. وفي مسعاه على الصعيدين الداخلي والخارجي، لا يريد ترمب أن يحيده عن تحقيق الفوز، استمرار التورط في حروب عسكرية، والانشغال بصراعات جانبية. فالحروب التي يستعد لخوضها هي ذات طابع مختلف، كالمتعلق بالتعرفة الجمركية، وتحتاج لإعادة تجميع الموارد، وليس تبديدها في مجالات وعلى قضايا لا يعتبرها تحقق المصلحة الأميركية. هذه المصلحة، بالنسبة له، شديدة الوضوح، محددة ومركزة، ولا تحتمل استمرار التشتيت بالانغماس في شؤونٍ يعتبرها ليست أساسية لإعادة بناء مستقبل أميركا، واستعادة مكانتها المتفردة في النظام الدولي.
الشرق الأوسط ليس على رأس سلم أولويات ترمب
مع أن منطقة الشرق الأوسط تبقى مهمة لترمب، إلا أنها لا ترقى في اعتباره لمكانة قضية مركزية، ولا تقع ضمن القضايا العليا في سلم أولوياته. ولذلك فإن ما يريده هو تحقيق استقرارها، بهدف إزاحتها عن جدول أعماله المزدحم بملاحقة أهداف أهم. وفي سبيل ذلك، هدد بأنه لن يتوانى عن مواجهة أي طرف في المنطقة يريد إعاقة تحقُق هذا الاستقرار. أما أساس الاستقرار الذي يحافظ على المصالح الأميركية في المنطقة فيرتكز على استمرار الدعم الثابت والمطلق لإسرائيل، الحليف ذو العلاقة العضوية (ما فوق استراتيجية) بأميركا، وتمكينها كقوة إقليمية مهيمنة. ويتحقق ذلك من خلال أمرين: استكمال تطبيع علاقات إسرائيل مع الدول العربية، وبوابتها المملكة العربية السعودية، وإضعاف إيران وتقليص نفوذها الإقليمي وإنهاء مساعيها لتطوير السلاح النووي.
وبما أنه لا يريد الانشغال بحرب، فإن المتوقع، وهناك مؤشرات تدل على ذلك، أن يحقق ترمب الهدف مع إيران بإبرام صفقة مواتية تُعدّ منذ الآن برويّة.
أما بالنسبة للدول العربية التي ما تزال قائمة ولم تتفكك بعد، فهي بشكل عام لا تحظى منه بدرجة عالية من التقدير، وهو لا يحسب لها حساباً كثيراً، إذ يعتبرها مطواعة ومضمونة التبعية والولاء، تؤدي نظمها السياسية الأدوار الوظيفية المطلوبة منها بانتظام. ضمن هذا الإطار يخصّ ترمب السعودية بوضعية مميزة، ليس فقط لثروتها وعلاقتها الاستراتيجية الممتدة عبر قرابة القرن مع أميركا، بل لما تتمتع به أيضاً من مكانة دينية تؤهلها لقيادة العالمين العربي والإسلامي. هذا ما يجعل منها شريكاً يُعتمد عليه لتحقيق استقرار المنطقة، ويستفاد منه في معالجة قضايا أخرى خارجها. وفيما يتعلق بتطبيع علاقات دول عديدة في المنطقة مع إسرائيل، فقد كان الموضوع نافذاً، حال دون إتمامه اندلاع الحرب في أعقاب عملية “طوفان الأقصى”. ونتيجة للحرب وتداعياتها الكارثية على قطاع غزة، طالبت السعودية لإتمام اتفاق التطبيع المتوقف أن يتضمن التزاماً بحلّ القضية الفلسطينية على أساس “حلّ الدولتين”، ومساراً موثوقاً لإقامة الدولة الفلسطينية.
معالجة القضية الفلسطينية وفق أسس براغماتية
وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فإنها بالنسبة لترمب ليست أكثر من عامل اضطراب وعائق يحول دون استقرار المنطقة. ومنطلق معالجتها، بالنسبة له، ليس عقائدياً – إيديولوجياً، وإنما يريد وفق أسس براغماتية التوصل إلى تسوية بشأنها، يحكمها أمران: تحقيق المصلحة الأميركية باستقرار المنطقة، من جهة، وتحقيق مصلحة إسرائيل، من جهة أخرى. ومع أنه يبدو للوهلة الأولى أن المصلحتين متماثلتان، إلا أنهما في واقع الأمر يتقاطعان كثيراً، ولكنهما لا يتطابقان كليا. فالمصلحة الإسرائيلية أضيق من المصلحة الأميركية المتشعبة والمتشابكة في المنطقة. ولذلك فإن تسوية ترمب للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، لن تأت بالضرورة متطابقة تماماً مع رؤية حكومة نتنياهو اليمينية – الدينية الحالية، كون استقرار المنطقة بتطبيع علاقات إسرائيل مع الدول العربية، تتطلب استجابة، ولو بالحدّ الأدنى، للمطلب السعودي. ولدينا في “صفقة القرن” التي طرحها ترمب خلال فترة رئاسته الأولى خير دليل على ذلك، إذ لم تتطابق رؤيته فيها مع الموقف الإسرائيلي بالحؤول دون إقامة دولة فلسطينية، بل قامت خطته على إقامة هذه الدولة، مع أنها لم تتعد بالتفاصيل عن كونها “دولة بقايا” تتكون من فتات متقطع الأوصال.
“طوفان الأقصى” وتحولات موازين القوى الإقليمية
الصعيد الإقليمي: منذ السابع من أكتوبر من عام 2023، شهدت المنطقة، وما تزال، تحولات جوهرية في موازين القوى الإقليمية، ما ستكون له تداعيات ذات أثر عميق على مستقبل القضية الفلسطينية، وبالتحديد على مضمون التسوية السياسية المحتملة. ويجدر التنويه، أولاً، إلى أن القوى الأساسية التي تشكّل الركائز الفاعلة والمؤثرة في المنطقة هي الدول غير العربية؛ إسرائيل وإيران وتركيا، مع انحسار مدى القوة والقدرة التأثيرية العربية، وتجمّعها لدى بعض الدول الخليجية، وخاصة عند السعودية. أما بقية الدول العربية فهي إما منكفئةً على معالجة مشاكلها الداخلية المتفاقمة، أو تشكّل – خصوصاً في المشرق العربي – ساحات وغى للصراعات الدولية والإقليمية العنيفة. كما ويجدر الاعتراف، ثانياً، بأن حالة التضامن الرسمي العربي تمرّ في أوهن مراحلها، بعد أن تعززت مكانة الدولة القطرية خلال العقود الماضية، وخفتت مقابلها المؤثرات السياسية الفعلية للقومية العربية، ما أدى إلى تقديم مصالح الدول الفردية، المتعارضة في أحيان كثيرة، على المصلحة الجمعية للأمة ولما كان يُدعى بـ “العالم العربي”.
في أعقاب عملية “طوفان الأقصى” التي فاجأت بها حركة حماس إسرائيل، كان للحرب التي شنّتها إسرائيل على قطاع غزة، ثم على لبنان، تداعيات سلبية عليها، شملت مختلف المجالات، ولا تزال تعاني منها حتى الآن. ولكن هذه الحرب التي كان من المؤمَّل عند بعض الأطراف أن تُنهك إسرائيل وتُضعف مكانتها الإقليمية بشكل مستدام، هذا إن لم تودي بها بالكامل، لم تُنتج المأمول. فقد استطاعت إسرائيل، بإسناد خارجي هائل من حلفائها الغربيين، وفي مقدمتهم أميركا، أن تستوعب، وإن كان بصعوبة بالغة وأثمان باهظة، مجمل الصدمات التي تلّقتها، وأن تقوم بارتدادات عنيفة غيّرت بواسطتها ميزان القوى الإقليمي في المنطقة. فبحرب تدميرية عنيفة على قطاع غزة، أضعفت إسرائيل بشكل جوهري من قدرة حركة حماس العسكرية، ومن إمكانية استمرار سيطرتها على القطاع. وبحرب خاطفة ومكثفة على لبنان، تمكنت من إعطاب حزب الله وإخراجه فعلياً من المواجهة معها لفترة طويلة قادمة، إن لم يكن بشكل نهائي ومستدام. وفي أعقاب توجيه ضربة مؤثرة في العمق الإيراني، قامت بإسهام فعّال بالقضاء على حكم الأسد في دمشق، فأنهت بذلك الوجود الإيراني في سوريا، وقطعت خط إمداد إيران الرئيسي لحزب الله، ناهيك عن التوسع في احتلالها لمزيد من الأرض السورية.
بغضّ النظر عن استمرار الحرب بالشعارات، استطاعت إسرائيل فعلياً تقويض قدرة “محور المقاومة”، وتفكيك “وحدة الساحات”، وإضعاف موقع إيران كقوة منافسة لها في الإقليم. وبذلك تكون عملية “طوفان الأقصى” وتداعياتها المتلاحقة حتى الآن، قد أفضت، بالمحصلة، إلى تخفيض حالة التوتر والاحتقان الشديد والمتصاعد في المنطقة، من جهة، وقلّصت، لمصلحة إسرائيل، من حدة حالة الاستقطاب الإسرائيلي – الإيراني فيها، من جهة ثانية. وبذلك تكون النتيجة أن إسرائيل استطاعت، بمعاناة شديدة ستكون لها آثار سلبية عليها في المستقبل، أن تُعزز من مكانتها كقوة إقليمية في المنطقة، وأن توفّر بذات الوقت الأرضية الملائمة لفرض الاستقرار الذي يريده ترمب لها، حتى قبل أن يستلم منصبة، وأن تسهل له مهمة استكمال هذا الفرض بعد استلام المنصب.
ضغوط على الفلسطينيين للقبول بتسوية السقف المنخفض
يتحقق هذ الاستكمال بمعالجة ترمب للملفين المتبقيين. الأول، الملف النووي الإيراني، الذي زاد احتمال أن تكون إيران في ضوء التغيرات الحاصلة في الإقليم، قد أصبحت أكثر انفتاحاً وقبولاً لعقد صفقة مع ترمب بشأنه، تؤدي إلى رفع متدرج للعقوبات التي أنهكت اقتصادها، وإعادة استيعابها كدولة أكثر انفتاحاً وإيجابية في المنطقة. والثاني، هو المتعلق باستكمال “الاتفاقيات الإبراهيمية” التطبيعية بين إسرائيل وبقية الدول العربية، والتي ربطتها السعودية مع تحديد مسار إيجابي لإنهاء الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بإقامة الدولة الفلسطينية. في هذا السياق، يجدر الانتباه إلى أن الكثير من المؤشرات تدل على أن القضية الفلسطينية لم تعُد في العقود الأخيرة، خصوصاً بعد تمتين وضعية الدولة القطرية، من جهة، وتزايد إشكاليات الأوضاع الداخلية الفلسطينية والأعباء “المقذوفة” على هذه الدول بسببها، من جهة أخرى، تشكّل لأنظمة الحكم فيها قضية حق عربي مهدور يجب استعادته، بل أصبحت تعتبر عبئاً ثقيلاً ومصدر إزعاج تريد الكثير من هذه الأنظمة التخلص منه وإزاحته عن كاهلها.
من هذا الباب، انحسر تأييد هذه الأنظمة الفعلي للقضية، بينما استمرت وتيرة التأييد المظهري والشكلي على حالها، وللدرجة التي أصبح العديد منها منهمكاً في الوساطة بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني. فهذه الأنظمة باتت تبحث عن مخرج، وترضى بتسوية سياسية لا يتعدى سقفها مستوى تلبية متطلبات الحدّ الأدنى، وتمارس مختلف الضغوط على الفلسطينيين لتنزيل سقف مطالبهم، والقبول بتسوية السقف المنخفض، لتتغطى به وتزيح عن كاهلها العبء واستمرار الحرج. إنها تريد إغلاق الملف وإزالة العثرة التي تحول دون تجاوبها مع المطلب الأميركي بالتطبيع الكامل والعلني للعلاقات مع إسرائيل.
الحرب لحسم موضوع الأرض وتقليص عدد الفلسطينيين
الصعيد الإسرائيلي: بعد مرور أكثر من قرن من العدوان المعزز بدعم غربي على فلسطين، يواجه المشروع الصهيوني الذي بُني على أسطورة “أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض” معضلة وجودية أساسية. فعلى الرغم من استيلاء إسرائيل على كل أرض فلسطين التاريخية، ومع كل ما اتبعته من سياسة ممنهجة لطرد وتهجير الفلسطينيين من وطنهم، إلا أن عدد الفلسطينيين الآن في إسرائيل والأرض المحتلة يزيد عن عدد الإسرائيليين اليهود. ولاستكمال تحقيق الهدف الصهيوني الأساسي، وجدت إسرائيل في الحرب التي تشنها حالياً فرصة مواتية لحسم موضوع الأرض المحتلة، وتقليص عدد الفلسطينيين فيها إلى أدنى مستوى ممكن. ومع أن الظاهر هو استهداف قطاع غزة، وهو كذلك، إلا أنه يجب ألا يغيب عن البال أن الضفة هي المستهدف الأساس. فبينما يشكّل القطاع في الجوهر معضلة أمنية لأغلبية الإسرائيليين، فإن للضفة اعتبارات ذات أبعاد أهم وأشمل، توراتية واستراتيجية وعسكرية واقتصادية، تجعل من الاستيلاء عليها، بعد القدس، أولوية الأولويات.
لوبي “دولة يهودا والسامرة”
تتحكم في إسرائيل الآن حكومة يمينية أصولية، تسيطر فيها أيديولوجية صهيونية– توراتية. لم تأت هذه الحكومة بالصدفة، كما لم تكن وليدة حاجة طارئة، بل هي نتاج لعملية تحوّل طويلة، ابتدأت بفوز “الصهيونية التصحيحية” لجابوتنسكي، الذي كان يمثلها حزب حيروت بزعامة بيغن، في انتخابات عام 1977، وتشكيل الحكومة. منذ ذلك الحين، استمر التوجه اليميني في الصعود وتعزيز مواقعه في الحكم، وتصاعدت مع ذلك وتيرة تهويد القدس والضفة، بتوسيع عمليات مصادرة الأراضي وتكثيف الاستيطان والتركيز على زيادة أعداد المستوطنين فيها، خصوصاً بعد تنفيذ شارون لخطة فك الارتباط مع غزة عام 2005. ترافق مع تزايد أعداد المستوطنين، خصوصاً العقائديين، تشكيلهم لوبي “دولة يهودا والسامرة” القوي داخل الدولة، ما نجم عنه التصاعد المتواتر لنفوذهم وتغلغلهم في مفاصل المؤسسة السياسية، وانزياح الساحة السياسية المتواصل نحو التشدد، ليس فقط تجاه إمكانية التوصل إلى تسوية سياسية مع الفلسطينيين، بل بشأن قضايا داخلية أيضاً. وما وصول الحكومة الحالية إلى سدة الحكم، وهي حكومة يتحكم ببقائها لوبي “دولة يهودا والسامرة”، إلا دليل على تعمّق الانزياح نحو التطرف اليميني في إسرائيل.
الفصل بين الضفة والقطاع وإضعاف السلطة
منذ تسلمها مقاليد السلطة، وهذه الحكومة تسعى بكل الوسائل للبناء على ما حققته سابقاتها، وحسم وضع الضفة لصالح إسرائيل، وهي تنطلق من مبدأ عقائدي توراتي أن “يهودا والسامرة” حق يهودي أصيل وغير قابل للمساومة، وجزء لا يتجزأ من دولة إسرائيل. وعلى هذا الأساس، اتخذت جميع القرارات والسياسات اللازمة، وسخرّت كل الإمكانيات المتاحة، لضمان الشطب العملي لـ”حل الدولتين”، للحيلولة نهائياً دون إمكانية قيام دولة فلسطينية. ولضمان ذلك، تستمر هذه الحكومة في عملية تفتيت هذه الأرض، لتمنع وحدتها الجغرافية، وتفرط كينونتها الفلسطينية. من أجل ذلك، هي تستمر على نهج سابقاتها في الفصل بين الضفة والقطاع، وفي منع السلطة الفلسطينية من مدّ سلطتها من الضفة للقطاع، بل وتتخذ مختلف الإجراءات التي من شأنها إضعاف هذه السلطة، في مسعى لتقليص قدرتها ودورها تدريجياً، وصولاً لإنهائها كلياً. ومن ناحية أخرى، هي تقوم أيضاً باستكمال تفتيت جغرافية الضفة، وحشر الفلسطينيين في معازل مغلقة ببوابات، تفصلها عن بعضها الأراضي المصنفة (ج)، وتستعد لضمها بمجملها، وإن تعذّر ذلك بسبب الرغبة بإبقاء فلسطينيي المعازل خارج النطاق القانوني لدولة إسرائيل، فيكون الضم انتقائياً ويطال المنطقة (ج)، التي تشكل تقريباً ثلثي مساحة الضفة. ومع أن قطاع غزة لم يعد جزءاً من توجه الضم بعد تفكيك المستوطنات والانسحاب من داخله، ولم يحُز بعد ذلك على اهتمام إسرائيل، سوى فيما يتعلق بالنواحي الأمنية، إلا أن عملية “طوفان الأقصى” أعادته إلى دائرة الاهتمام، وأصبح هدف تفريغه من أكبر نسبة من الفلسطينيين، خصوصاً من اللاجئين، أولوية إضافية، وعادت أصوات يمينية متطرفة ترتفع مطالبة بإعادة احتلاله واستيطانه من جديد.
تدمير قطاع غزة وجعله مكاناً غير صالح للحياة
كان هدف إسرائيل المعلن من شنّ الحرب على القطاع في أعقاب تلك العملية، القضاء على حركة حماس، وبنيتها العسكرية، وإنهاء حكمها لقطاع غزة. وجاء مع هذا الهدف المعلن هدف آخر هو تدمير القطاع وجعله مكاناً غير صالح للحياة، لدفع أكبر عدد من الفلسطينيين لمغادرته. وقد استغلت الحكومة الإسرائيلية تركُّز الاهتمام العالمي على الأهوال المقترفة بحق الغزيين، لتقوم بتسريع وتعميق وتيرة سيطرتها الاستحواذية في الضفة، متسلحةً في ذلك بتحول الرأي العام الإسرائيلي باتجاه تصاعد نسبة الرافضين لعقد تسوية سياسية مع الفلسطينيين، وذلك كرد فعل على الهجوم الذي باغتت فيه حركة حماس إسرائيل.
وتعتبر الأوساط الأكثر يمينية فيها أن فترة رئاسة ترمب الثانية ستشكل الفرصة الذهبية لاستكمال موضوع الضم وإغلاق الملف، لا سيما أنه خلال فترة رئاسته الأولى أبدى تفهمه وتجاوبه مع الرغبة الإسرائيلية، فاعترف بضم القدس ونقل سفارة بلاده إليها، واعترف أيضاً بالسيادة الإسرائيلية على الجولان.
الأطراف متفقة على هدف استقرار المنطقة
تدل التفاعلات والتحولات الجارية على الصعد الثلاثة، الدولي والإقليمي والإسرائيلي، على وجود اشتراك بينها في الرغبة بترتيب أوضاع المنطقة، حتى وإن لم تتطابق رؤاها كلياً على المخرجات النهائية لهذا الترتيب. فالأطراف الرئيسية الثلاثة، الأميركي والعربي والإسرائيلي، تتفق على هدف تحقيق استقرار المنطقة، وعلى ضرورة ترجمة رغبة ترمب بتطبيع العلاقات العربية– الإسرائيلية، التي يعتبرها أساس الاستقرار المنشود، إلى واقع ملموس. ولكن مع الاتفاق على الهدف العام، إلا أن هناك دواعي ومصالح متباينة للطرفين العربي والإسرائيلي يجب أخذها بالاعتبار. فمع أن موقف معظم نظم الحكم العربية لا تعارض التطبيع مع إسرائيل من حيث المبدأ، وبعضها قام بذلك بالفعل، إلا أن البقية تطالب لانخراطها فيه بغطاء وقاية. هذا الغطاء لا يتطلب الكثير، بل يُكتفى بتوفر الحدّ الأدنى المتمثل بفتح مسار لتسوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، مع وعد بأنه سينتهي بإقامة دولة فلسطينية. هذا يتعارض مع موقف الحكومة الإسرائيلية، التي تريد حسم الصراع بالضم، وتتلكأ في الدخول في مسار تفاوضي يعطي وعداً، حتى ولو بصيغة غير ملزمة، بقيام دولة فلسطينية. ويحتاج التوفيق بين الموقفين إلى تدخل خارجي، ينتظر الطرفان صيغة ومضمون الموقف الذي سيتخذه ترمب بعد استلام منصبه للمواءمة بينهما.
إذا كانت العقدة المعطِّلة لتحقيق استقرار المنطقة ترتبط بالدخول في مسار تسوية تفضي لإقامة دولة فلسطينية، وتنتظر موقف ترمب، فإن هذا الموقف واضح ولن يتعدى في سقفه الأعلى ما عُرض سابقاً في “صفقة القرن”، بل إن الأمر الأكثر احتمالاً هو أن تؤدي المتغيرات التي جرت في المنطقة مؤخراً، إلى انكماش “العرض” المتضمَن في تلك الصفقة.
مسار سياسي على مراحل لإرضاء السعودية وإسرائيل
سيبقى منطلق ترمب تجاه التسوية المطلوبة كما كان، يعبّر عن ضرورة براغماتية، وليس نابعاً عن قناعة بضرورة إحقاق حق للفلسطينيين طال أمد انتظاره. لذلك، على الأغلب أن يتجاوب مع الهدف النهائي للطلب السعودي بأن تكون النتيجة النهائية للتسوية التي سيرعاها هي إقامة دولة فلسطينية، كون ذلك يؤدي إلى إغلاق ملف القضية الفلسطينية، ويضع حدّاً لسبب أساسي لاضطراب المنطقة. ومع أن ذلك يتعارض مع الموقف الإسرائيلي، إلا أن ترمب قد يجزئ عرضه بشأن الدولة الفلسطينية، بحيث يتجاوب مع الموقف الإسرائيلي بأن لا تتضمن أجزاء من الضفة، وأن تنحصر لفترة مديدة في قطاع غزة، خصوصاً أن الاعتبارات الإسرائيلية تجاه الضفة والقطاع مختلفة، وكونها محصورة بشكل رئيسي في القطاع بالشأن الأمني. على هذا الأساس، إذا قرر ترمب المضي قدماً وتبني خطة لتسوية الصراع، فمن الممكن أن يبنيها هذه المرّة على أساس أنها ستقود لإقامة دولة فلسطينية، ولكنها ستقوم على مسار يحتاج تنفيذه عدّة سنوات للمرور بمراحل متعاقبة، تستند كل منها على ضرورة تحقيق نتائج إيجابية من سابقتها.
النسخة المعدلة من “صفقة القرن”
على الأرجح أن تشتمل المعالم الرئيسية للمرحلة الأولى من تسوية ترمب الجديدة؛ النسخة المعدلة من “صفقة القرن”، على التوصل لاتفاق ينهي الحرب الدائرة في قطاع غزة، ويضع ترتيبات لمرحلة انتقالية على الأغلب أن تتضمن تواجداً دولياً وعربياً لمساعدة “هيئة” فلسطينية، على صلة رخوة بالسلطة الفلسطينية، لإدارة شؤون القطاع. تُستثنى حركة حماس من المشاركة الرسمية في هذه “الهيئة”، ولكن احتفاظها بـ “قدرة معطِّلة” فيما يتعلق بمستقبل القطاع قد يقود لإيجاد تفاهمات معها بهذا الخصوص. يتم خلال تلك المرحلة إعادة استتباب الأمن، ووضع قواعد واتخاذ جميع الإجراءات الضرورية لضمانه مستقبلاً، وبما يؤكد إنهاء التهديد الأمني لإسرائيل، وهو الشرط الأساسي لسحب الفيتو الإسرائيلي عن إقامة دولة فلسطينية يكون مركزها قطاع غزة. وبالتزامن مع توسع بسط المنظومة الأمنية الجديدة، تجري انسحابات متتالية للجيش الإسرائيلي، تقود إلى إخلائه مع نهاية هذه المرحلة. ويشرع أيضاً خلال هذه المرحلة ببدء تنفيذ مشروع دولي وإقليمي ضخم لإعادة إعمار القطاع، يشتمل أيضاً على تأهيل مناطق في شمال سيناء لإقامة مشاريع اقتصادية لاستيعاب جزء مهم من العمالة الغزية في المستقبل. كما يتم خلال هذه المرحلة رعاية تنفيذ إجراءات جوهرية لإعادة تأهيل السلطة الفلسطينية، المتمركزة حالياً في رام الله، لـتصبح “سلطة متجددة” وقادرة على أن يكون لها خلال المرحلة الثانية دور متنامٍ في حكم قطاع غزة. كما وتتيح هذه المرحلة لحركة حماس فسحة لإعادة “تأهيل” نفسها، ويتم تشجيعها لإحداث التغييرات اللازمة لتصبح من المكونات السياسية الفلسطينية “المقبولة”.
أما بخصوص الحكومة الإسرائيلية، فالمطلوب منها خلال هذه المرحلة قبول هذا التوجه، والحفاظ على إبقاء الوضع القانوني في الضفة على حاله. وفي حال أبدت معارضتها وعاندت، فإنها ستتعرض لاستهداف من قبل ترمب، يُسهم بالإطاحة بتركيبتها الحالية، واستبدالها بتركيبة تتحلى بالمرونة المطلوبة. فالجائزة المنتظرَة لإسرائيل كبيرة ويجب عدم تفويتها أو التسويف بخصوصها، وهي التطبيع مع السعودية، التي سيلبي إعلان ترمب مطلبها، ويفتح لها أبواب عواصم عربية وإسلامية عديدة.
التبعية القانونية للفلسطينيين بالضفة ستؤول للدولة بغزة
أما المرحلة الثانية، فعلى الأغلب أن تشهد استكمال الإجراءات التي انطلقت في المرحلة الأولى، ولكنها ستشهد الإعلان عن إقامة الدولة الفلسطينية التي ستتركز في قطاع غزة، تحت حكم السلطة الفلسطينية المتجددة، والتي من الممكن أن يكون لحركة حماس المتحولة مشاركة فيها. وستؤول التبعية القانونية للفلسطينيين في الضفة لهذه الدولة لحظة الإعلان عنها. وتحت رعاية دولية وإقليمية كثيفة، وبعد ضمان الترتيبات الأمنية الكافية لإسرائيل، ستعطى هذه الدولة مظاهر سيادية تتسع تدريجياً، بما فيها إقامة مطار وميناء. سيكون مقابل ذلك ثمنٌ يدفع في الضفة، وهو اعتراف أمريكي، قد يأتي في نهايات فترة ترمب الرئاسية، بتقسيم الضفة رسمياً، وضم مساحات واسعة من المنطقة (ج) لإسرائيل، والقيام بما يلزم من ترتيبات للفصل بين ما سيُضم لإسرائيل عن المعازل الفلسطينية، التي سيُعمل على ربطها مع بعضها بمنافذ تؤدي إلى تقليص الاحتكاك مع المستوطنين، مع الإبقاء على الوضع الحالي التي يعطيها منفذاً مع الأردن.
المستقبل النهائي للمعازل الفلسطينية في الضفة
أما المرحلة الثالثة، فهي التي سيتم فيها اتخاذ القرار المتعلق بتحديد المستقبل النهائي لتبعية المعازل الفلسطينية في الضفة. على الأرجح أن يُسعى لوضع ترتيبات خاصة لربط هذه المعازل بالدولة الفلسطينية، مع أن مسألة الوصل بينهما سيواجه معارضة إسرائيلية، سيكون أمر تذليلها صعباً، وسيحتاج إلى إجراءات وضمانات عديدة. ولكن، إن تم التغلب على هذه المصاعب، فعلى الأغلب، ألا تتمتع هذه المعازل بنفس مستوى المظاهر السيادية التي ستتركز في القطاع، وسيتم وضع إجراءات لضبط عملية التنقل بين الجزئين، وبما يضمن عدم تمكين الغزيين من الانتقال والاستقرار في الضفة.
بناء على ما هو معروف ومتداول عن شخصية ترمب، وطريقة تفكيره، والكيفية التي يتخذ فيها قراراته، هذه هي الملامح العامة لـ “صفقة” محتملة قد يتبناها للتسوية، على أساس أنها تشكل “الحل الوسط”، وتفي بكونها “تسوية حدّ أدنى”، تفي بغرض جميع الأطراف، وتخرجهم كلهم، من وجهة نظره، رابحين. ومع أن تنفيذها سيأخذ فترة قد تمتد لعقد من الزمن، إلا أنها، من وجهة نظره، ستسهم بشكل إيجابي وسريع باستقرار أوضاع المنطقة. فهي تعطي للسعودية، ومعها دول عربية أخرى المخرج لإغلاق ملف مؤرق، والمضي قدماً في إرساء علاقات وقواعد عمل جديدة في المنطقة. كما وتعطي لإسرائيل، بالإضافة إلى تطبيع عريض لها في المنطقة، أفضل معالجة ممكنة، وتحقق لها أكبر فائدة ممكنة، لوضعية حالية مع الفلسطينيين غير قابلة أو قادرة على الاستمرار كما هي لفترة مفتوحة قادمة. وهي تمنح الفلسطينيين دولة، يعتقد بأن أحداً غيره لن يتمكن من تحقيقها لهم، ويفتح لهم بذلك أملاً بمستقبل أفضل.
من المتوقع أن يكون ردّ الفعل العربي الرسمي إيجابياً ومرحباً بمثل هكذا خطة، خاصة في ضوء المتغيرات الحاصلة في الإقليم. وفي ظل الوضع المتراجع فلسطينياً، على صعيدي واقع كل من السلطة الفلسطينية وحركة حماس، ستقوم الأطراف العربية النافذة بممارسة الضغوط على الفلسطينيين للقبول بها. أما في إسرائيل فستكون هناك ممانعة، قد تؤدي إلى تغيير تركيبة الحكومة، ينجم عنه قبول مشروط، مصحوب بقائمة طلبات مساعدات ضخمة وضمانات عديدة. قد يكون هذا القبول تكتيكياً لتخطي مرحلة وتحصيل الفوائد، ثم تبدأ المماطلات الإسرائيلية المعهودة، وصولاً بالخطة إلى غرفة الإنعاش، لتموت سريرياً. هذا بالضبط ما حصل مع اتفاق أوسلو، وهو ما يمكن أن يحصل مع خطة ترمب. فالهدف الإسرائيلي سيتمحور حول عدم إغضاب الرئيس الأميركي شخصياً، وتحصيل أقصى ما يمكن من منافع منه خلال أربع سنوات، وهي فترة تنقضي بسرعة، ليتم التعامل مع رئيس جديد. أما بالنسبة للفلسطينيين، فستكون الفترة المقبلة صعبة عليهم وسيتعرضون لأقصى الضغوط من كل حدب وصوب.
ولن يتزحزح ترمب باتجاههم تأثراً بدعواهم أنه يجحف بهم، ويقوم ببتر حقهم الشرعي بالحرية والاستقلال على كامل الأرض المحتلة عام 1967. بل على العكس تماماً، إذ سيمنّ عليهم، وسيلاقي الكثير من الصدى، بأنه يمنحهم الفرصة الوحيدة والأخيرة لتحصيل دولة، فإما أن يأخذوها، أو يفقدوها نهائياً.
عندما طرح ترمب “صفقة القرن” قبل خمس سنوات تقريباً، تم فلسطينياً رفض القبول بها أو التعامل معها. كان هذا الرفض متوقعاً من إدارة ترمب، لذلك تضمنت الخطة حينها المرور بمرحلة انتقالية من أربع سنوات، لتفتح المجال لحصول متغيرات سياسية تدفع السلطة الفلسطينية للقبول بها. وها قد مرّت السنوات تلك، وحصل الكثير من المتغيرات عميقة الأثر، خصوصاً في السنة الأخيرة. فكيف سيكون عليه الموقف الفلسطيني؟ هل سيتم التعاطي إيجابياً هذه المرّة مع “تسوية الحدّ الأدنى”، التي أفضل ما يمكنها أن تمنح الفلسطينيين هو “دولة بقايا” ليست سيادية بالكامل، بل ستكون، إن أتت، على هيئة “دولة ناقص”، وفقاً لمصطلح رابين، أو “حكم ذاتي زائد” وفقاً لتعبير نتنياهو؟ أم سيتم رفضها وتحمُّل تبعية الضغوط التي ستنهمر على السلطة الفلسطينية؟ والسؤال الأهم في هذا السياق قد يكون: هل باستطاعة الفلسطينيين، في ظل حالتهم الحالية، مواجهة ما هو قادم عليهم بفاعلية، خصوصاً إن كان الرفض هو موقفهم؟
الوضع الفلسطيني وصل إلى حالة من الوهن الشديد
مع أن الفلسطينيين، بشكل عام، لن يكونوا راضين عن مثل هكذا خطة، إلا أن الكثير من الدلائل تشير إلى أن الوضع الفلسطيني وصل حالياً إلى حالة من الوهن الشديد، بسبب فقدان معظم مناعته الذاتية، ما يعني انحسار القدرة الفلسطينية على التصدي الناجح لمجموعة الضغوط الوافدة عليه من الخارج، وبالتالي خوض غمار ممانعة ناجحة وفعالة. فقد تجمعت على مدى سنوات عديدة تراكمات تراجعاتٍ أصابت مختلف جوانب الحياة الفلسطينية تحت الاحتلال. ومع أن لإسرائيل المحتلة دور أساسي ورئيسي في تردي الحال الفلسطيني، وهي التي تتّبع سياسات منهجية لإيصاله إلى هذه الوضعية الطاردة لاستمرار الوجود الفلسطيني، إلا أن ذلك لا يعفي الفلسطينيين من المسؤولية الذاتية لما آلت إليه أوضاعهم.
منذ أكثر من عقدين من الزمن، والنظام السياسي الفلسطيني يعاني من حالة تكلُّس، أفقدته بشكل متواصل ومستمر الفاعلية السياسية، حتى أُوصل ووصل الآن إلى حالة متقدمة من الشلل والعجز عن التأثير السياسي، داخلياً وخارجياً على السواء. فقد قام هذا النظام بتعطيل متتابع لأدوات الفعل السياسي التي تربطه إيجابياً بالمجتمع، ساعده في النجاح بتكريسها، ما أنتجه هذا التعطيل ذاته من انقسام في الجسم السياسي، أصبح مزمناً بمساعدة استقراره على فصل جغرافي بين الضفة والقطاع. بغياب مجلس تشريعي، وأحزاب سياسية فاعلة، وانتخابات دورية نزيهة، وسلطة قضائية مستقلة، وإعلام حر، أُغلق المجال السياسي، واحتُكر في كلٍ من منظومتيه الضفيّة والغزية، وغابت عنه الرقابة والمساءلة والمحاسبة الفاعلة. ومع تصاعد اعتماده على دعم قواعده الزبائنية، تقلصت المساحة المتاحة للأفراد للمشاركة السياسية، ما أدى إلى تصاعد نسبة عزوف المجتمع عن الاهتمام بالشأن السياسي، وتزايد افتراق النظام والمجتمع عن بعضهما، كلٌ منهما في واد. وعندما يتكلس النظام السياسي ويتقوقع على ذاته، يتراجع التأييد والدعم الداخلي له، فتتآكل مناعته الذاتية، وتضعف قدرته على الأداء ومواجهة ما يتعرض له من تحديات.
تعصُّب الولاء قسّم الشعب الفلسطيني إلى معسكرين متضادين
تخطت حالة الانقسام الفلسطيني المزمن حدود قسمة الانتماء السياسي للمجتمع على فصيلين رئيسين، أحدهما يسيطر على الضفة، والآخر على غزة، ليصل إلى استحكام حالة من تعصُّب الولاء ما قسّم الشعب الفلسطيني إلى معسكرين متضادين، ليس حول الهدف المنشود، وإنما حول الوسيلة الأفضل لتحقيقه. أدى ذلك إلى إحداث شرخ عميق بين معسكرين متضادين، أحدهما يدعم التوجه السياسي – التفاوضي، والآخر يدعم المقاومة المسلحة. ومع مرور الوقت زاد تقوقع المعسكرين كلٌ على موقفه، وتصاعدت وتيرة الارتياب وتراشق الاتهامات بينهما، وصولاً لدرجة التخوين. وكانت النتيجة أن انغلق مجال السياسة على “مع” و “ضد”، ما خنق مساحة التفكير الحر والنقاش الفعال، وأدى إلى موت الحياة السياسية في البلاد. وتحجّرت منظومة الفكر السياسي على مجموعة من المسلمات، التي أصبحت تُتداول في كلا المعسكرين على أنها حقائق يقينية قطعية ونهائية، لا تخضع لتمحيص ومراجعة. وقاد التخندق على المواقف، والتعنت بخصوصها، لأن تصبح المواجهة بالنسبة للمعسكرين داخلية أكثر منها خارجية، ما أدى إلى تلكؤ المستوى السياسي لكليهما في اتخاذ قرارات صعبة، ولكن ضرورية، أصبحت عند الاضطرار لاتخاذها تأتي متأخرة، تقدم تنازلات غير مفيدة لإحداث الأثر المرغوب. وبما أن السياسة الفلسطينية أصبحت تعاني من الارتداد على الذات، وتركز على كسب “المعركة” الدائرة داخلياً، فقد فقدت ما تبقى لها من رصيد فاعلية قديم على الصعيد الخارجي، وتحول فعلها إلى مسلسل مستمر من ردّات الفعل على مطالب خارجية متصاعدة.
الحرب المدمرة على غزة والحرب العميقة في الضفة
ترافق هذا الشلل الذاتي المتزايد مع تصاعد وتيرة الهجمة الإسرائيلية، خاصة بعد استلام الحكومة اليمينية المتطرفة لمقاليد الحكم في إسرائيل، المستهدفة حسم المواجهة مع الفلسطينيين، وبالتحديد في الضفة. وبعد عملية “طوفان الأقصى” أُضيف قطاع غزة إلى الأجندة. ومع حرب مدمرة على القطاع لا تزال مستعرة منذ أكثر من عام، تقوم هذه الحكومة بحرب منهجية مستترة، ولكن عميقة، في الضفة، بغرض تعميق البيئة الطاردة للفلسطينيين، وتهيئة الظروف للضم المنشود. ويشكل إضعاف السلطة الفلسطينية، وحرمانها من الموارد الضرورية لاستمرار البقاء هدفاً مركزياً لهذه الحكومة. أدى هذا الاستهداف، بالإضافة لسلبيات التناحر الفلسطيني الداخلي، إلى معاناة الوضع الفلسطيني من انهيارات غائرة، طالت مجمل البُنى الاقتصادية والتعليمية والصحية والخدمية، والأهم من ذلك إعطابها لجوانب إيجابية مهمة من منظومته القيمية. ومع ازدياد نقص الموارد المتاحة لتلبية المطالب المتنامية، تقلص أداء النظام السياسي إلى الحد الأدنى، وأصبح جلّ اهتمامه منصبّاً على المناورة من أجل البقاء.
في ظل ظروف خارجية ضاغطة، وداخلية متهالكة، لن يكون بمقدور نظام سياسي يناور من أجل البقاء، التصدي بأي قدر من النجاح لـ “تسوية الحد الأدنى” في حال تم طرحها من قبل ترمب بعد توليه منصب الرئاسة في العشرين من كانون الثاني القادم. ونتيجة محاصرته بالضغوط الدولية والإقليمية، ورغبته في المحافظة على الذات، قد لا يجد هذا النظام بديلاً عن إيجاد الذرائع للتساوق مع هذه التسوية، وحشد تبريرات الاضطرار للانخراط بها، خاصة وأنها ستأتي تحت راية تطبيق مبدأ “حل الدولتين”، وهو المبدأ المعتمد فلسطينياً لتسوية الصراع مع إسرائيل.
مبدأ “حل الدولتين” ركيزة السياسة الفلسطينية
منذ أن اعتمدت منظمة التحرير الفلسطينية مبدأ “حل الدولتين”، وأعلنت افتراضياً قيام الدولة الفلسطينية عام 1988، وتوصلت على أساسه لـ “اتفاق أوسلو” مع إسرائيل، والنظام السياسي الفلسطيني، مدعماً بقبولٍ متأخر من حركة حماس، يسعى لترجمة هذه الدولة فعلياً على أرض الواقع، على أساس الافتراض أن الأرض المحتلة عام 1967، مع تعديلات طفيفة ومتبادلة، ستشكل إقليم هذه الدولة. وأصبح مبدأ “حل الدولتين”، وفقاً لهذا الافتراض، ركيزة السياسة الفلسطينية وأهم مسلماتها بخصوص التسوية مع إسرائيل، دون تمحيص أو مراجعة لما قد ينتجه هذا المبدأ في ضوء المتغيرات المفروضة إسرائيلياً بالقدس والضفة على وجه الخصوص، على مدار أكثر من نصف قرن. فقد كان الافتراض الثاني، الذي اعتُبر حقيقة مسلماً بها، أن كل ما تغير بفعل العملية المنهجية المتصاعدة من الاستيطان والتهويد، التي ابتدأت بعد ثلاثة أسابيع من وقوع الاحتلال، ولا تزال مستمرة حتى الآن، سيعود ويتغير بالاتجاه المعاكس. وبما أن الأمر من المسلمات، لم يتم فلسطينياً إيلاء أدنى اهتمام للكيفية التي من المفترض أن تحقق الافتراض الثاني، والتأكد من وجود طرف قادر وراغب على إرغام إسرائيل بوقف مسارها المعتمد والانعطاف بالاتجاه المعاكس. كان الشعار الفلسطيني لمعالجة هذا الموضوع الجوهري يتلخص بوجوب توفر الإرادة الدولية، وضرورة الاستمرار بحشد دعم المجتمع الدولي، مع أن جميع المؤشرات تدل على عدم جدوى الركون إلى إمكانية تحقق ذلك. وخير دليل هو عدم تطبيق الكم الكبير المتراكم على مدى عقود من القرارات الدولية المناصرة للحق الفلسطيني، وخلو اعتراف الدول المتزايد بدولة فلسطين من تحديد إقليمها، ما يعني أن هذا الاعتراف سينطبق فقط على الإقليم بعد تحديده في المفاوضات اللاحقة مع لإسرائيل.
تقسيم الضفة وتكريس احتفاظ إسرائيل بجزء كبير منها
تقليدياً، استند مبدأ “حل الدولتين” على ضرورة تقسيم فلسطين التاريخية إلى دولتين، إحداهما موجودة وهي إسرائيل ضمن حدود عام 1948، والثانية، وهي فلسطين، التي يجب أن تصبح موجودة على الجزء المتبقي الذي تحتله إسرائيل منذ عام 1967. ولكن لأن المجريات الإسرائيلية المستمرة غيّرت من وضع القدس والضفة، لم يعد بمقدور “حل الدولتين” أن يُنتج دولة فلسطينية بهذه المواصفة، بل تراجع فعلياً منذ عقد “اتفاق أوسلو”، وأصبح يعني تقسيم الضفة، وتكريس احتفاظ إسرائيل بجزء كبير منها. ولذلك، فإن استمرار تشبث الموقف الفلسطيني بضرورة تطبيق “حل الدولتين” يعني قبولاً ضمنياً بمبدأ تقسيم الضفة، والدخول في مفاوضات للتوصل إلى اتفاق بخصوص ماهية وكيفية هذا التقسيم. هذا يعني أن الموقف الفلسطيني الرسمي يقبل، من حيث المبدأ، التعاطي مع تسوية حد أدنى، سيحاول من خلال عملية تفاوض مع إسرائيل رفع سقفها بالقدر المستطاع.
من الضروري فلسطينياً التوقف عن الاستمرار بخداع الذات، ورفع شعارات لن تتحقق واقعياً. فـ “حل الدولتين” لا يمكن أن يُنتج للفلسطينيين أكثر من “دولة بقايا” منقوصة السيادة، وأن أفضل ما يمكن تحقيقه تحت هذا السقف هو النجاح في زيادة نسبة هذه “البقايا” من المساحة التي ستستولي عليها إسرائيل في الضفة. فإن كان هذا المتاح مقبولاً من الجهات الفلسطينية الرسمية، وهو كذلك فعلياً، فيجب عدم استمرار المراوغة بشأنه، بل مواجهة الجمهور الفلسطيني به، والتعاطي مع “تسوية الحد الأدنى” التي من المحتمل أن تأتي خلال فترة ولاية ترمب الثانية. أما إن لم تكن تلك النتيجة لـ “حل الدولتين” مقبولة، فذلك يعني ضرورة التخلي عن السعي للتوصل لتسوية ضمن إطاره، واعتماد بديل آخر مختلف كلياً عنه.
الضم الكامل أفضل من الضم الانتقائي
إن أخطر ما يواجه القضية الفلسطينية في المستقبل هو القبول بتسوية أساسها تقسيم الضفة وضم إسرائيل الانتقائي لجزء كبير منها. فبتكلفة الحد الأدنى، تتيح هذه التسوية لإسرائيل تحقيق هدفين طالما سعت لتحقيقهما: زيادة مساحتها بضم الأجزاء المفرغة من الفلسطينيين في الضفة، في ذات الوقت الذي تقصي فيه نهائياً التأثير المستقبلي لفلسطينيي الضفة والقطاع على كينونتها الديموغرافية. وطالما أن “تسوية الحد الأدنى” لن تعطي الفلسطينيين دولة كاملة الاستقلال والسيادة على الأرض المحتلة عام 1967، فقد يصبح ضم إسرائيل الكامل لهذه الأرض، بمن عليها، أفضل من السماح فلسطينياً لها بالضم الانتقائي فيها. فبخلاف الضم الانتقائي الذي يغلق الباب نهائياً على نتيجة بخسة للفلسطينيين، فإن الضم الكامل يبقي الباب مفتوحاً على إمكانية خوض صراع على الحقوق المتساوية، والتحول على المدى البعيد من دولة أبرتهايد إلى دولة ثنائية القومية، لينتهي بها الحال إلى دولة جميع مواطنيها.
إضافة لمعارضة أطراف ستتضرر مصالحها في حال التخلي عن “حل الدولتين”، سيكون رأي الكثير من الفلسطينيين أن هذا البديل غير متاح لأن إسرائيل لا يمكن أن توافق عليه. ولكن إسرائيل لا توافق أيضاً على “حل الدولتين” وإقامة الدولة الفلسطينية، ومع ذلك فإن الجهد الفلسطيني ما يزال محصوراً فقط في محاولة تحقيقه. ولمواجهة مخاطر المرحلة المقبلة، وستكون شديدة الفعل والأثر، ليس المطلوب من الفلسطينيين استبدال بديل بآخر، بل التوقف عن الإغلاق الذاتي للخيارات، وفتح المجال للتداول بخصوصها، والاستفادة من وجودها في مواجهة الآخرين. هل هناك إمكانية لذلك؟ الأمر مشكوك فيه، لأنه يتطلب إعادة بث الروح في الحياة السياسية، وإزالة التكلس عن النظام السياسي، وهذا أمر يحتاج إلى إرادة لم تتوفر بعد.