أقلام وأراء

د. علي الجرباوي: المطلوب من الإدارة الأميركية

د. علي الجرباوي 2024-02-07المطلوب من الإدارة الأميركية

في زيارة مكوكية خامسة له للمنطقة منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة، ينتقل وزير الخارجية الأميركية، أنطوني بلينكن، من عاصمة إلى أخرى، محاولاً إنجاز مهمة شاقة. والسبب أنها شاقة هو أنها تحتاج تجاوز تناقضات مصالح الأطراف المعنية جميعها، خاصة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وربط عناصر ثلاثة مع بعضها، في رزمة متصلة ومتكاملة، تمكّن الإدارة الأميركية من استعادة التقاط أنفاسها وقدرتها التأثيرية، داخل الولايات المتحدة وخارجها. هذه العناصر الثلاثة، التي أصبح واضحاً أنها مترابطة هي: معالجة استمرار الحرب وملف المحتجزين الإسرائيليين، وتحديد مسار جاد لتسوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وترسيخ تعاون إقليمي حليف يؤدي إلى تدعيم استقرار المنطقة.

مع استمرار الحرب، والارتفاع المتصاعد لتكاليفها البشرية والمادية في القطاع، ووصول المعاناة الإنسانية لأهله إلى أقصى درجات الانتهاك، تعاني الإدارة الأميركية حالياً مما تعتبره جهات عديدة مؤثرة، داخل الساحة الأميركية وخارجها، من نتائج إخفاق تسرّعها في تبني موقفها الابتدائي من هذه الحرب، وتمسكها المستمر بعناصر أساسية منه، حتى بعد اتضاح النتائج الكارثية التي ما زالت تنتجها في غزة. سارعت هذه الإدارة عند اندلاع الحرب، وعلى رأسها الرئيس بايدن شخصياً، في إعلان الدعم الكامل وغير المشروط لإسرائيل، وقدمت لها، وما تزال، كل أنواع المساعدة والإسناد عير المحدود، عسكرياً وسياسياً ومادياً، مع تغطية دبلوماسية كاملة في المحافل الدولية. كان هذا الدعم يعبّر، من ناحية، عن الموقف التقليدي الراسخ الداعم لإسرائيل في بنية السياسة الأميركية الرسمية، وعن الالتزام الشخصي لبايدن تجاه إسرائيل والحركة الصهيونية. ومن ناحية أخرى، كان التقدير، على ما يبدو، أن هذا الدعم مطلوب للمحافظة على المصالح الأميركية التي ما فتئت تواجه تحديات إيرانية في المنطقة. وبالمجمل، كان الاعتقاد السائد في دوائر الإدارة الأميركية أن هذا الدعم سيحظى بتأييد كبير داخل أميركا، وسيعزز من شعبية هذه الإدارة التي كانت بأمسّ الحاجة إلى رافعةٍ لانتشال وضعية مقبوليتها المتدنية بين الأميركيين.

ما تم القفز عنه في الموقف الأميركي المحسوب بحسابات تقليدية، أن الدعم اللامحدود لإسرائيل هو دعم لامحدود لنتنياهو أيضاً، الذي تمّ التغاضي عن علاقته المتوترة مع بايدن، منذ أيام إدارة أوباما. وعوضاً من أن تتمكن الإدارة من التحكم بالمشهد، خاصة مع كل ما تقدمه لإسرائيل من دعم، قادها نتنياهو إلى مربعه، وأصبحت تلهث وراءه، تعاني التعارض بين هدفين. الأول، هو قبولها لما كانت حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل تحاول تحقيقه من حربها على قطاع غزة، وهو القضاء على حركة حماس، كونها تمثّل بالنسبة لهذه الإدارة عامل عدم استقرار في المنطقة، ترتبط بمطامح إيران الهادفة أن تصبح قوة إقليمية مؤثرة، ما يعرّض المصاح الأميركية للخطر. لذلك استمرت الإدارة الأميركية على ثبات موقفها الرافض لوقف إطلاق النار، وأعاقت قرارات أممية كانت تستهدف ذلك. والثاني، هو مسعاها لأن تتمكن من كبح جماح نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة من تأويل هذا الدعم وتوظيفه على أنه موافقة ضمنية تسمح لهذه الحكومة بتوسيع رقعة الحرب، وتوريط الإدارة الأميركية في حرب لا تريد على الإطلاق التورط بها، كونها تعرّض المصالح القومية الأميركية، والغايات السياسية للإدارة، للخطر.

بصعوبة، حاولت الإدارة الأميركية التوفيق بين هذين الهدفين، خصوصاً مع تصاعد أعداد الضحايا في غزة، ما قاد الوزير بلينكن للمنطقة في أربع جولات سابقة، وجاء أيضاً بوزير الدفاع، ومستشار الأمن القومي، ومدير المخابرات المركزية، في زيارات للمنطقة. ولكن المهمة لم تكن سهلة لسببين. من ناحية، لم يتعاون نتنياهو مع متطلبات المصلحة الأميركية وغايات إدارة بايدن، بل استمر هو وأركان ائتلافه المتطرف بمحاولة جرّ هذه الإدارة لتبني وتبرير قسوة الاستهداف الإسرائيلي لقطاع غزة، وما يؤدي إليه من تفاقم أعداد الضحايا بين المدنيين الفلسطينيين، إضافة إلى تراكم سوء الأوضاع الإنسانية في القطاع. ومن ناحية أخرى، لم يقدّر نتنياهو ما تؤدي إليه آلة الحرب المسعورة التي يشّنها على غزة من تأثيرات سلبية مزعزعة لوضعية ومكانة الإدارة الأميركية، خارجياً وداخلياً، إذ ضرب بعرض الحائط مطالباتها المستمرة بتقنيين استهدافها للمدنيين، لتقليص حدّة الانتقادات المحرجة الموجهة لها.

وقعت الإدارة الأميركية تحت وطأة ضغوط خارجية متصاعدة مطالبة إياها باتخاذ موقف فعّال لكبح جماح الحرب، وايقافها. فقد أزعج استمرار دكّ قطاع غزة بالقذائف، وما آلت إليه الأوضاع الإنسانية من تدهور حاد فيه، إلى تحرك الرأي العام المعارض لاستمرار هذه الحرب على الصعيد العالمي، وخرج مئات ألوف المتظاهرين المطالبين بإيقافها في عواصم ومدن عبر العالم، وخصوصاً في الدول الغربية الحليفة لأميركا. وبدأت حكومات هذه الدول، مضافةً إلى الدول العربية والإسلامية، بمطالبة الإدارة الأميركية باتخاذ خطوات فعلية وفعّالة لإنهاء معاناة أهل غزة وإيقاف الحرب. ونتيجة لهذه المواقف الشعبية والرسمية، أصبحت الإدارة الأميركية تتعرض لسيل من الانتقادات المتصاعدة، ما أضرّ بسمعتها وعرّض المصالح الأميركية للخطر، وخصوصاً في المنطقة. وهذا ما أدّى إلى استهداف الوجود الأميركي في عدّة دول، وأعاق الملاحة الدولية في مضيق باب المندب، وأدّى إلى ردودٍ عسكرية أميركية، وإن كانت لا تزال موضعية، إلا أنها تنذر ليس فقط بإمكانية توّسع رقعة الحرب، وإنما إلى جرّ الإدارة الأميركية للتورط غير المرغوب فيها.

مع أن الضغوط الخارجية على الإدارة الأميركية مهمة وذات تأثير، إلا أنه يمكن الادعاء أن أميركا معتادة، كدولة عظمى، على ممارسة تلك الضغوط عليها، وعلى تحمّلها، وإيجاد السبل للتعامل معها. ولكن ما فاقم وضع الإدارة هو الضغوط غير المتوقعة الممارسة عليها من الداخل الأميركي، والتي بدأت في خلخلة موقفها الذي اعتقدت الإدارة أنه امتداد للموقف التقليدي الأميركي المعتاد تجاه دعم إسرائيل. هذا الدعم المطلق الذي كان لا يُتوقع، وفقاً للنمط السائد، أن يُشكك به، أو أن يتعرّض للمساءلة أو للانتقاد، مهما كانت مواقف أو أفعال إسرائيل، فالدعم دائماً مضمون كـ «الشيك المُوقّع على بياض». هنا بالتحديد كان خطأ الإدارة الأميركية، التي بموقفها الداعم بغير حدود لإسرائيل، التي يقبع على قمة هرمها السياسي نتنياهو وائتلاف من غلاة اليمينيين المتطرفين، استثارت ردّة فعلٍ داخلية لم تكن تتوقعها. فقد ركنت إلى أن دعم إسرائيل سيمنحها تأييداً هي في أمسّ الحاجة له من الجهات المؤيدة والداعمة لإسرائيل، وهي جهات لها تأثير نافذ في السياسة الداخلية الأميركية، كما في مواجهة الجمهوريين داخل الساحة الانتخابية. ولكن الحسابات لم تأخذ بالحسبان أثر تغيّراتٍ حاصلةٍ داخل الساحتين السياسية والانتخابية في البلاد.

لم تأخذ إدارة بايدن في تقديراتها أهمية ثلاثة أمور تؤثر عليها جوهرياً، وتتعلق بإمكانية إعادة انتخاب بايدن لفترة رئاسية ثانية. أولاً، أن من الممكن أن يكون للجناح اليساري في الحزب الديمقراطي، وهو الحزب المعروف تقليدياً بتأييد إسرائيل، والذي ينتمي له الرئيس، رأي مغاير لموقف الإدارة من هذه الحرب. فقد اتخذ هذا الجناح موقفاً معارضاً لاستمرار هذه الحرب، وناقداً لموقف الإدارة منها. وبالطبع فإن لمثل هذا الموقف تأثير على وحدة الحزب، خصوصاً مقابل الجمهوريين، وبالتحديد في الانتخابات الرئاسية القادمة، والتي يواجه فيها الرئيس بايدن صعوبات تجاه ضمان إعادة انتخابه.

ثانياً، لم تنتبه الإدارة للتحول الحاصل في الخريطة الانتخابية الأميركية، وبالتحديد تجاه تشكيل فئات الناخبين، والتغيّر الحاصل في توجهاتهم الانتخابية. ففئة الشباب من الناخبين، وخصوصاً المنتمين أو المؤيدين للحزب الديمقراطي، لم يعودوا مضموني التأييد المطلق لإسرائيل، بل اتضح أنهم يعاملونها وفق مواقفها وأفعالها. لذلك تبيّن استطلاعات الرأي أن هذه الفئة المهمة من الناخبين لا تؤيد موقف بايدن وإدارته من الحرب على غزة، وأنهم قد يحجبون أصواتهم الانتخابية عنه، وهو في أمسّ الحاجة لها، وخسارتها قد تُطيح بآماله في الفوز بولاية ثانية.

وثالثاً، لم تنتبه الإدارة إلى التأثير الانتخابي المهم للعرب والمسلمين الأميركيين، وأن موقفهم قد يؤدي إلى خسارة بايدن الانتخابات القادمة. ومع أن عدد العرب والمسلمين ليس كبيراً كناخبين، إلا أن تمركز وجودهم في ولايات متأرجحة انتخابياً بين الديمقراطيين والجمهوريين، مثل ميتشغن وميلواكي وأريزونا، يجعل منهم ما يرقى لأن يكون «الصوت المُرجّح» في تلك الولايات. وإذا ما خسر بايدن تأييد هذه الفئة المهمة من الناخبين، التي قامت بدعمه في الانتخابات السابقة، وذلك نتيجة موقفه الداعم للحرب، فقد يؤدي ذلك إلى خسارته للانتخابات القادمة. وحتى الآن فإن الموقف المعلن من قبل قيادات وناشطي العرب والمسلمين الأميركيين يشير إلى اعتزامهم حتى الآن حجب تأييدهم الانتخابي عن بايدن.

ما يعنيه ذلك أن موقف الإدارة الأميركية من الحرب أصبح يلاحقها انتخابياً، ولم يعد أمامها سوى فسحة ضيقة من الوقت، ستمتد حتى أوائل الصيف لتدارك وضعها. لذلك يأتي الوزير بلينكن في هذه الجولة الخامسة للمنطقة وهو مثقل بعبء ليس فقط منع انسياب الحرب لتتوسع وتصبح إقليمية تتورط فيها إدارته على غير رغبتها، وإنما أيضاً للبحث في مقاربة تؤدي إلى إنهائها واتخاذ خطواتٍ لاحقة أصبحت لازمة لتعديل الوضعية الانتخابية المقلقة لبايدن.

لتحقيق هذا الاستدراك، واسترضاء الأطراف الإقليمية والدولية، والداخلية الأميركية على وجه الخصوص، يبدو أنه لا مناص من تعديل موقف الإدارة في أمرين: أولاً، الضغط الفعّال على إسرائيل لإنهاء الحرب، وذلك من خلال التوصل إلى اتفاق حول هدنة طويلة تكون مصحوبة بتبادل أسرى، ومرتبطة عضوياً في مراحلها المتعاقبة بالتزام لإنهاء الأعمال العسكرية. هذا أمر أصبح أساسياً لجميع الجهات الضاغطة على الإدارة، من الخارج والداخل على السواء، ويقع عليها إيجاد المقاربة اللازمة لتحقيق هذه المطالبة الأساسية، وإن أدت إلى تفجير وضع الحكومة الإسرائيلية داخلياً. فليس من الممكن لهذه الإدارة أن ترمم موقفها، وتستعيد بعضاً من مكانتها ولياقتها، إلا عندما تأخذ قراراً واضحاً بمواجهة نتنياهو وزمرته اليمينية، بدلاً من الاستمرار في محاولاتها التزلف له، وهو أمر أساسي يعتمد عليه نتنياهو لإطالة أمد حكومته المنتهية الصلاحية.

أما الأمر الثاني المطلوب فهو ترجمة الوصول إلى قناعة بأن تسوية القضية الفلسطينية، وفقاً لأدنى مربوط ما يقبل به الشعب الفلسطيني، هو السبيل الوحيد لإرساء أهم دعامة لاستقرار المنطقة، وتطبيع وجود إسرائيل فيها، وذلك باتخاذ الخطوة العملية الأساسية المطلوبة عملياً لانطلاق مسار جدي وموثوق لهذه التسوية. هذه الخطوة العملية هي الاعتراف بدولة فلسطين كخطوة انطلاق هذا المسار، وترسيم انضمامها عضوا كامل العضوية في الأمم المتحدة. ثم بعد ذلك يتم اتباع مسار محدد المدة الزمنية لتجسيد وجود هذه الدولة وإيجاد حل عادل لقضية اللاجئين. هذه الخطوة أصبحت ضرورية لاستعادة جزء من الدعم المهدور من قبل فئاتٍ مهمة انتخابياً لبايدن جرّاء موقف الإدارة المؤيد للحرب، وللحد من الانتقادات الخارجية الموجهة لإدارته. مقابل ذلك، سيكون لدى بايدين «جائزة» يمكن أن يشهرها في وجه إسرائيل ومؤيديها أمريكياً، وهي التطبيع التي تسعى له إسرائيل لعلاقاتها مع المملكة العربية السعودية، التي تشترط لتحقيقه التوجه في مسار لا عودة عنه لإقامة الدولة الفلسطينية. لم يعد بإمكان إسرائيل، حتى بمساعدة أميركية، أن تأخذ دون أن تعطي.

إن قامت الإدارة الأميركية بهذين الأمرين، يمكن لها استعادة الإمساك بزمام الأمور بما يحقق المصالح القومية الأميركية وحاجتها الانتخابية. أما إن بقيت تراوغ وتتجنب المواجهة اللازمة مع نتنياهو، فقد لا تكون موجودة بعد تشرين الثاني المقبل لترعى تلك المصالح.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى