أقلام وأراء

د. عبد الحي زلوم يكتب – الارهاب المعاصر هو صناعة غربية بامتياز وأقذر أنواع الارهاب هو إرهاب الدولة.. والعقاب الجماعي هو قمة الإرهاب.. والتاريخ علمنا أن بطش المحتلين لا يزيد الشعوب الا مقاومةً وصلابة

د. عبد الحي زلوم *- 23/12/2018

في الوقت الذي انكسر فيه النظام الرسمي العربي وعلى رأسهم سلطة عباس وفي الوقت الذي زحفت فيه الأنظمة على كروش اصحابها لتستجدي وتتبارى أيهم اول واكثر تبعيةً، وقفت أم باسلة وشديدة البأس أمام جنود الاحتلال الذين جاؤوا لهدم بيتها . وقفت شامخةً لتقول لهم” لقد هدمتم بيتي مرتين من قبل وحكمتم على خمسة من ابنائي بالسجن مدى الحياه وقتلتم أحد ابنائي سنة 1994 لكنني لن أنكسر.” كان ذلك في 15/12/2018 داخل مخيم الأمعري الذي يبعد أقل من 1000 متر عن قصر( المجاهد) رئيس سلطة اوسلو محمود عباس. لو صرخت هذه المجاهدة وامعتصماه لخرج المعتصم من قبره لنجدتها . لكنها كانت تعلم أن سلطة عباس والنظام الرسمي العربي كانوا صامتين صمت الاموات وكأن شيئاً لم يكن . فهؤلاء هم جزء من المشكلة وليسوا جزءاً من الحل. وطبعاً خرست كافة قنوات الردح وأنظمتها… لم تكن هذه المرأه الحديدية إستثناءً وإنما هي مثال لشعب مقاوم يزيده بطش الاحتلال إصراراً ومقاومة. ولعل المقاومة في غزة بالرغم من حصارها من القريب قبل البعيد مما جعلها سجنٌ كبير هي مثالٌ على أن هذا الشعب لا ينكسر ! ولعل شيئاً من تاريخ هذا الشعب منذ احتل الانجليز فلسطين سنة 1917 يبين أن كافة انواع ارهاب الدولة من دولة كانت عظمى لم تفت في عزيمة ومقاومة هذا الشعب .

في عام 1936 أقدمت قوات الاحتلال البريطاني على تدمير 800 بيت للعرب في يافا القديمة. لم يجد الأهالي وقتها حتى الوقت الكافي لإخراج أمتعتهم من المنازل التي تقرر هدمها كعقاب جماعي بعد إسقاط الطائرات البريطانية أوامر الإخلاء من الجو. قرر البريطانيون هدم المنازل المذكورة لأسباب أمنية بحجة أنها كانت تستخدم كمخابئ من قبل القناصة وقاذفي الحجارة من المقاومين ضد الصهاينة.

جاءت حادثة يافا لتشعل مرة اخرى ثورة في فلسطين بعد ثورات عديدة منها ثورة النبي موسى والخليل وغيرهما . كان على رأس القرارات التي اتخذها المندوب السامي البريطاني الجديد السماح للسلطة التنفيذية الصهيونية بتشكيل جيش يهودي: الهاغانا. واتخذ القرار المذكور بسرية تامة. من الضروري أن نبين أن اول مندوب سامي في الانتداب الانجليزي لفلسطين كان يهودياً صهيونياً كما كان جميع من خلفه من الصهاينة المسيحين المتعصبين ابتداء من الجينرال اللنبي الذي قال عند احتلاله مدينة القدس ودخولها سنة 1917(الان انتهت الحروب الصليبية) وما زالت هذه الحرب دائرةً ليومنا هذا بالرغم من إنكار سفهاء الامة الذين سموا انفسهم بالنخبة.

شرعت الهاغانا في توفير الحماية للمستوطنات، وحصلت على أسلحتها من السلطات البريطانية في وقت كان فيه الفلسطيني يتلقى حكماً بالإعدام في حالة عثور السلاح معه. اعتاد بن غوريون ومساعدوه الاجتماع مع المندوب السامي البريطاني كلما دعت الحاجة للتنسيق فيما بينهم، وخاصة بشأن التحرك المشترك لقمع الثوار العرب.

في عام 1939 ومن موقعه على رأس الوكالة اليهودية، أوجد بن غوريون “وحدات العمليات الخاصة” وجعلها تحت إمرته. وفي ذلك يصف ناخوم شادمي، قائد إحدى الوحدات المذكورة ، عملية الهجوم على قرية لوبيا في الجليل الأعلى بالقول:

” تسلل رجال الوحدة إلى داخل القرية بهدوء تحت جنح الظلام وما إن دخلوا القرية حتى اختاروا منزلاً هدفاً لهم.. كانت الأضواء لا تزال مشتعلة في الداخل، وعندما نظروا من النافذة كان هناك ثلاثة رجال وامرأتان جلوساً على الأرض حول جثمان شخص ميت. دخل عدد من رجال الوحدة المنزل بينهم إيغال آلون الذي أصبح لاحقاً نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للدفاع . تبين لاحقا وجود عدد من الأطفال في المكان.. انتهت العملية بقتل ثلاثة أشخاص رجلين وامرأة، وإصابة ثلاثة آخرين منهم طفل في الثانية وفتاة في العاشرة”.

غير أن الثورة الفلسطينية شكلت التهديد الأكبر للمشروع الصهيوني، واستمرت في التصعيد الأمر الذي قرر البريطانيون معه اتخاذ إجراءات قاسية. أرسل البريطانيون كبير خبراء مكافحة الإرهاب سير شارلز تيغارت إلى جانب 25 ألف جندي ورجل شرطة إلى فلسطين، وهي أكبر قوة تغادر بريطانيا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. بالإضافة لذلك فقد شرعالبريطانيون مع بداية خريف 1937 في تفعيل المحاكم العسكرية لقمع الثورة الفلسطينية.

اتخذ شارلز تيغارت العديد من الإجراءات لمواجهة التمرد . لمنع تسرب المجاهدين من سوريا ، أقيم سياج أمني كالذي بنى على طول الحدود الإسرائيلية . كما نشر تيغارت حواجز التفتيش على الطرقات،تماماً كحواجز جيش الاحتلال اليوم (المحاسييم ) بالإضافة إلى مراكز التدريب في القدس لتأهيل المحققين وتدريبهم على طرق التعذيب. بل إن تيغارت أكمل طاقم أدوات التعذيب بعدد من الكلاب المستوردة من جنوب إفريقيا من نوع دوبرمان والمدربة في هذا المجال.

عملت سياسة “العدالة السريعة” التي أدخلها تيغارت في التعامل مع عرب فلسطين على مضاعفة المعتقلين العرب ليتجاوز تسعة آلاف شخص عام 1939 وهذا يقارب عدد المعتقلين في السجون الاسرائيلية اليوم . كانت أحكام الإعدام بحق الثوار تصدر بمعدل حالة إعدام كل أسبوع، وليلقى أكثر من 30 ثائر حتفهم على منصة الإعدام من أصل مئة حكم عليهم بالإعدام في أقل من عام(1938-1939). وهنا يورد المؤرخ الاسرائيلي توم سيغيف إعدام شاب فلسطيني- في سجن عكا الذي شهد ثلاث عمليات إعدام في يوم واحد- كما ورد على لسان مفوض إقليم الشمال كيركبرايد:

“أخذ مدير السجن بتلاوة الحكم إلا أن الشاب قاطعه صارخاً: دعك من هذا الهراء .. هيا لننه الأمر بحق السماء. تم اقتياد المحكوم وهو مكبل اليدين خلف ظهره حيث باب المقصلة الموصول برافعة تفتحه للأسفل ليهوي المحكوم الواقف فوقه. هوى الشاب بثقله عبر الباب الذي فتحه الجلاد فجأة إلا أنالشاب لم يمت فوراً على ما يبدو، حيث واصل جسده الانتفاض عدة دقائق، وانفرجت ساقاه بالرغم من أن الجلاد ربطهما بعد وضعه فوق منصة الإعدام. اقترب الطبيب العسكري من الجثمان لفحصه ولوحظ وقتها بأن الدم كان يتساقط من رقبة الشاب من تحت القناع الأسود الذي يغطى وجهه. مزق الطبيب قميص الشاب من الأمام واستمع لنبض قلبه الذي كان لا يزال ينبض بصورة شبه طبيعية. انتظر الطبيب بعض الوقت قبل أن يعلن عن وفاة الشاب.. وبأنتظار عملية الإعدام التالية في التاسعة جلس مفوض الإقليم في مكتب مدير السجن ليتناول إفطاره”. هذه هي الديمقراطيات الغربية .

مبادرة تطبيق “نظام العدل” الفريد الذي جعل من الفلسطينيين مسئولين بصورة جماعية عن أعمال الثوار، فيما عرف بالعقاب الجماعي، يعود للقاضي غاد برومكين. وطبقاً للنظام المذكور الذي وجد طريقه للتطبيق بعد ثورة النبي موسى واضطرابات يافا، فقد أصبحت قرى كاملة، وأحياء واسعة من المدن مسئولة عن أنشطة الثوار، وتم تطبيق الافتراض القائل بأن كل فلسطيني مذنب إلى أن يبرهن على عكس ذلك. مثل هذا النظام العدلي لا يزال يطبق من قبل الإسرائيليين حتى يومنا هذا. يقول سيغيف في كتابه:” مثل هذه العمليات كانت روتينية وتستهدف كل قرية في أي لحظة. وفي العادة فقد كان الجنود يقومون بجمع الرجال في مكان مغلق أو “قفص” طبقاً لتعبير البريطانيين. ومع وجود الرجال قيد الاحتجاز، يشرع الجنود في عملية مداهمة للبيوت بحثاً عن السلاح، يقومون خلالها بخلع الأبواب وتحطيم الأثاث والأواني الفخارية والزجاجية، وتمزيق أكياس الرز والطحين والسكر، التي تشكل المئونة السنوية للفلاحين، وإلقاء محتوياتها على الأرض لتختلط ببعضها وبالزيت المدلوق من الأواني الفخارية المحطمة. بل إن الجنود كثيراً ما كانوا يتصرفون بحقد ولؤم بالقيام بنثر الخليط فوق الفراش، إمعانا في إلحاق الضرر بالأهالي”.

. وفي إحدى المرات تلقى “مفوض السامرة ” رسالة شكر وتقدير على تدمير 53 بيتاً في قرية باقة الغربية. وقد بلغ عدد البيوت التي دمرها الاحتلال البريطاني خلال الفترة من 1936-1940 أكثر من 2000 بيت. وفي تفسير مثير للإقدام على حرق جثث الثوار القتلى ادعى البريطانيون بأن مثل هذا التصرف كان بهدف منع اندلاع أعمال العنف خلال تشييع جنازاتهم.

كان أوردي تشارلز وينغيت من الصهاينة المسيحين المتعصبين للصهيونية لدرجة الهوس . وعندما وصل إلى فلسطين للمشاركة في قمع ثورة 1936 ، ودفعت خدماته الجليلة لليهود وصفه

في بيان أصدرته وزارة الدفاع الإسرائيلية بعد وفاته، بالقول: “كانت تعاليم أوردي شارلز وينغيت وشخصيته وقيادته تمثل حجر زاوية بالنسبة للعديد من قادة الهاغانا . وما يزال تأثيره بصمة واضحة في عقيدة المواجهة لدى قوات الدفاع الإسرائيلية”. ومن الواضح أن ممارسات الاحتلال هذه الايام تكاد تكون تطبيقاً حرفيا ً لممارسات تيغارت.

كان وينغيت هو صاحب فكرة تشكيل الوحدات الليلية الخاصة التي حولت الجليل إلى مسرح عمليات خاص بها. كانت الوحدات تضم في كل منها 200 جندي، منهم 150 يهودياً، تقوم بمهمات قتالية وأخرى خاصة بتوفير الحماية لخط أنابيب شركة نفط العراق الذي يصل حقول نفط كركوك بميناء حيفا، وكذلك حراسة جدار تيغارت العازل. غير أن وحدات وينغيت كانت تؤدي عملاً آخر لا يقل أهمية وهو التنكيل بالفلسطينيين بحجة ملاحقة الإرهابيين. وفي ذلك كتب صهيون كوهين، أحد أفراد الوحدات الليلية الخاصة يقول عن تجربته في العمل مع وينغيت:” كنا نقترب من القرية التي يتعرض انبوب النفط المار بجوارها لعمل تخريبي، وننتظر هناك حتى الفجر، ثم ندخل القرية ونجمع الرجال ونجبرهم على الاصطفاف في مواجهة الحائط وأيديهم إلى الأعلى، ثم نترك للضابط البريطاني ورجاله مهمة إنزال العقاب بهم، مفضلين عدم الظهور في الصورة لأننا لم نكن نرغب بزيادة مشاعر الكراهية في نفوس العرب تجاهنا. ثم ينزل وينغيت العقاب التقليدي بالشبان العرب، ومن ذلك جلدهم على ظهورهم العارية في مشهد رهيب على حد تعبير أحد أفراد الوحدة. في البداية كان وينغيت يعتلي صخرة ويخاطب رجال القرية موبخاً إياهم بلغة عربية مكسرة قبل أن ينزل عقابه بهم… ويضيف كوهين: لقد علمنا وينغيت كيف نكون جنوداً متحلين بالقيم”.

ويصف كوهين رد الوحدة على قتل الثوار لـ 15 يهودياً في طبريا بالقول: “اختار وينغيت قرية حطين لعمليته الانتقامية. وبعد جمع رجال القرية كافة، اختار عشرة منهم ،وأمرهم بالتقدم للأمام، ثم خاطبهم من خلال كوهين كمترجم قائلاً: لقد قتلتم النساء والأطفال والعجائز وهم نائمون.. إنكم أناس تخلون من الرحمة وجبناء.. وقد حكمت عليكم بالموت عقاباً لكم على جرائمكم. بعدها أطلق الجنود النار على الرجال العشرة الذين سقطوا قتلى جميعاً. كان أحد المشاركين بالعملية إيغال آلون.

لم تجد إجراءات القمع البريطانية من إعدامات وإرهاب شارك فيها 25 ألف جندي جديد وصلوا البلاد لإنهاء ثورة الفلسطينيين التي تواصلت بوتيرة متعاظمة. وجدت القيادة العسكرية البريطانية نفسها مجبرة على إرسال قائد دموي جديد إلى فلسطين لتنفيذ المهمة التي عجز عنها وينغيت. وقع الاختيار على القائد الشهير الجنرال بيرنارد مونتغمري،. كان القائد الجديد في فلسطين يرى ضرورة تصعيد الإجراءات البوليسية بل وتبني إجراءات أشد قسوة لسحق الثورة، وهو المونتغمري نفسه الذي قاد الجيش البريطاني في معركة العلمين لاحقاً. كان مبدأه بأن الطريقة الوحيدة للتعامل مع الثورة هي قتل القائمين عليها وهو ما أمر جنوده بفعله.. وهكذا وجد ثوار فلسطين أنفسهم في مواجهة جيش نظامي كبير تدعمه الهاغانا اليهودية بالتعاون الكامل مع الوكالة اليهودية.

بعد 100سنة من إحتلال الانجليز لفلسطين ليبني كياناً استيطانياً اسموه إسرائيل، وبعد ثمانين سنة من مونتجمري انكسر وكلاء الاستعمار ولم تنكسر الشعوب لا في الجزائر بعد 132 سنة ولا العراق ولا في سوريا ولا في اليمن ولا في لبنان ولا في فلسطين . ما لا يفهمه سماسرة العقارات في البيت الابيص وسماسرة البيت الابيض في العالم العربي هو أن زيادة البطش تزيد من صلابة الشعوب الثائرة وكما في الجزائر وفي افغانستان وفي سوريا فلن يكون نصيب الكيان الاستيطاني في فلسطين الا الخيبة وغدا لناظره قريب. ليس هذا افراطاً بالتفاؤل ولكن قراءةً لحاضر ومستقبل دولة الكيان وداعميها الرئيسين الذين تنتابهم اليوم انقسامات داخلية وانحدار اقتصادي وتخبط سياسي متسارع . والكيان الصهيوني طفيلي بطبيعته لا يستطيع العيش لوحده معها طبع المطبعون.

*رأي اليوم –  مستشار ومؤلف وباحث .

1

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى