أقلام وأراء

د. سنية الحسيني تكتب – فلسطين والمحكمة الجنائية الدولية : التطلّع والتحديات

د. سنية الحسيني *- 11/2/2021

أصدرت المحكمة الجنائية الدولية، في الخامس من الشهر الجاري، قراراً يقضي بولايتها القضائية على الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام ١٩٦٧، الأمر الذي يمكن أن يسمح بفتح تحقيقات في تلك الجرائم، وهو حلم طالما راود الفلسطينيين بمحاسبة المحتل على جرائمه بحقهم. وبينما اعتبرت وزارة الخارجية الفلسطينية أنه يوم «تاريخي لمبدأ المساءلة»، واعتبره آخرون «انتصاراً للحق والعدالة والحرية وللقيم الأخلاقية في العالم»، نظر إليه بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل بأنه يضعف حق بلاده في «الدفاع عن نفسها»، مشدداً على أنها «ستحمي جنودها من المقاضاة». ولم تخفِ الولايات المتحدة قلقها من ممارسة اختصاص المحكمة على العسكريين الإسرائيليين. وتعكس تلك التصريحات واقع الحال الذي سيواجه النظرة المتفائلة للفلسطينيين، في ظل سياسة إسرائيل التي تصر على قلب الحقائق وإنكار واقع الاحتلال، ودعم الولايات المتحدة المطلق لها على أنها دولة فوق القانون.

وخاضت فلسطين في سبيل الوصول إلى هذا القرار معارك شرسة، إلا أن المعارك القادمة ستكون أشد شراسة، نظراً لما ستواجهه من عوائق سياسية وقانونية. ورغم عدم عضوية الولايات المتحدة وإسرائيل في نظام المحكمة، إلا أن تأثيرهما السياسي على الدول الأعضاء فيها سيقف حجر عثرة أمام تحريك الدعاوى الفلسطينية ضد إسرائيل، تماماً كما ستشكل نصوص ميثاق روما نفسها عائقاً لا يقل شراسة. فمنذ دخولها حيز النفاذ عام ٢٠٠٢، أثارت المحكمة الشكوك حول مصداقيتها والقلق من أن تكون صورة عن المحاكمات الخاصة المسيسة، والتي جاءت في عقود سابقة. وتتهم المحكمة اليوم بأنها أداة سياسية بثوب قانوني، لا تختلف كثيراً عن مجلس الأمن، الذي تحقق من خلاله القوى العظمى مصالحها على حساب دول العالم الثالث.

كانت فلسطين قد أحالت الوضع فيها إلى المدعى العام للمحكمة، في 22 أيار من العام ٢٠١٨، مطالبة بالتحقيق في عدد من جرائم الاحتلال على رأسها الاستيطان. وفي 20 كانون الأول من العام التالي، وبعد إجراء التحقيق التمهيدي الإلزامي، أعلنت فاتو بنسودا المدعي العام للمحكمة، أنه بعد استيفاء جميع المعايير القانونية بفتح التحقيق وانطلاقاً من قناعتها بأن هناك «أساساً معقولاً للاعتقاد بأن جرائم حرب ارتكبت أو ترتكب في تلك الأراضي بما فيها القدس الشرقية، اعتبرت أن الجيش الإسرائيلي والجماعات الفلسطينية المقاومة جناة محتملون، إلا أنها قررت التوجه إلى الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة، قبل البدء بإجراءات التحقيق، في سبيل التحقق من مدى انطباق اختصاص الولاية الجنائية الإقليمية للمحكمة على فلسطين. جاء ذلك على الرغم من أنه مجرد موافقة المحكمة الجنائية على طلب انضمام فلسطين إلى نظام روما الأساس يعد إقراراً بقانونية مكانتها كدولة.

هذه ليست المرة الأولى التي تتوجه فيها فلسطين لتحريك دعوة قضائية في المحكمة الجنائية ضد إسرائيل، إذ طرقت أبواب المحكمة عام ٢٠٠٩ لتحريك دعوة ضد إسرائيل لارتكابها جرائم حرب في غزة، ورفضت المحكمة الدعوة بعد ثلاث سنوات بحجة أن المركز القانوني لفلسطين كدولة غير واضح. وكان الفلسطينيون تقدموا للمحكمة لتحريك دعوة ضد إسرائيل قبل ذلك في العام ٢٠٠٣ بعد اجتياح قوات الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ورفض طلبهم أيضاً بحجة عدم امتلاك فلسطين المكانة التي تؤهلها لرفع دعوة ضد إسرائيل. جاءت تلك المواقف للمحكمة تجاه الفلسطينيين على الرغم من أنه يحق لثلاث جهات إحالة الدعاوى في إطارها، فبالإضافة إلى الدول الأعضاء في المحكمة، يحق للمدعي العام إحالة الدعوة، كما يحق لمجلس الأمن ذلك أيضاً.

سيواجه الفلسطينيون العديد من العوائق في تحريك الدعاوى ضد إسرائيل، فبالإضافة إلى الضغوط السياسية والمالية التي ستمارسها الولايات المتحدة وإسرائيل على الفلسطينيين، وكذلك على أعضاء المحكمة وكوادرها، ستقوم أيضاً بالتأثير على الدول الأعضاء في المحكمة، ناهيك عن العقبات القانونية الموجودة في نظام المحكمة، والتي ستستغلها إسرائيل لتشكل حجر عثرة أيضاً أمام تطلعات الفلسطينيين. وكان قد واجه الفلسطينيون ضغوطاً سياسية ومالية بعد قرارهم بالتوجه للمحكمة الجنائية الدولية لإحالة شكاوى ضد إسرائيل عام ٢٠١٨، قوبلت بإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وحجز إسرائيل لأموال المقاصة.

كما سيواجه الفلسطينيون ضغوط الولايات المتحدة وإسرائيل على الدول الأعضاء، سواء داخل المحكمة أثناء فترة إحالة الدعاوى ضد إسرائيل، أو حتى إن نجحت المحكمة في استصدار قرارات ضدها. وقد شهدت ساحات المحكمة جانباً من تلك الضغوط خلال العامين الماضيين، بعدما أحالت فلسطين عدداً من القضايا للمحكمة عام ٢٠١٨، وانتهت بقرار المدعية نهاية العام ٢٠١٩، بضرورة التأكد من مدى تحقق الولاية الإقليمية للمحكمة على دولة فلسطين، تحت وطأة التدخلات والضغوط التي مارستها الولايات المتحدة وإسرائيل على المحكمة.

وشهدت إفادات ست دول من أعضاء المحكمة بعدم ولاية المحكمة على الأراضي الفلسطينية، بهدف تعطيل فتح المحكمة تحقيقاً رسمياً في القضايا المحالة إليها. وبدأت الولايات المتحدة وإسرائيل بتوقيع اتفاقيات ثنائية مع الدول الأعضاء في المحكمة تقوم على أساس عدم تسليم مرتكبي الجرائم للمحكمة. كما أن مبدأ الحصانة يعتبر عائقاً آخر أمام تسليم المجرمين الدوليين، والذي يأتي من ضمن بنود تلك الاتفاقيات الثنائية، والتي تتعارض مع بنود نظام روما.

من أهم المعيقات القانونية التي قد يواجهها الفلسطينيون، أثناء نظر المحكمة في الدعاوى المرفوعة أمامها، دور مجلس الأمن حسب ما تنص عليه مقررات نظام روما، إذ تمنحه المادة ١٦ منها صلاحيات واسعة، تسمح له بإيقاف إجراءات التحقيق أو إرجاء النظر في الدعوى أو حتى تأجيل المحاكمة. كما يمكن لمجلس الأمن، وتحت بند تحقيق السلم والأمن الدوليين، استفراده بالنظر في جرائم العدوان.

رغم عدم توقيع إسرائيل على ميثاق روما، إلا أن الدول التي تقع الجرائم في أراضيها تخضع لاختصاص «الجنائية». ومن المتوقع أن ترفض إسرائيل التعاون مع المحكمة  في تحقيقاتها، كما رفضت قبل ذلك التعاون مع لجان التحقيق طوال سنوات احتلالها منذ العام ١٩٦٧ حتى اليوم. كما يمكن لإسرائيل أيضاً التذرع بالسيادة الوطنية ومبدأ التكامل في إجراء التحقيقات والمحاكمات لجنودها، لتقويض دور المحكمة في النظر في الدعاوى المرفوعة أمامها من قبل الفلسطينيين، مستندة إلى أن اختصاص المحكمة الدولية وحسب المادة ١٧ من نظامها الأساسي، والتي تعتبر اختصاصها تكميلياً، يأتي في حالة عدم نجاح الدول في محاكمة مرتكبي مثل تلك الجرائم فيها. وتقوم إسرائيل بالفعل بإجراء تحقيقات ومحاكمات صورية لجنودها المتورطين في جرائم ضد الفلسطينيين، في إطار سيادة القاعدة القانونية الأساسية في القانون الجنائي، والتي تؤكد على عدم جواز مساءلة الشخص عن ذات الفعل أكثر من مرة.

ليست هناك ثوابت في العلاقات الدولية والتحالفات السياسية، ويبقى الثابت الوحيد هو أن جرائم إسرائيل لا تسقط بالتقادم، الأمر الذي يؤكد أنه ستتم محاسبة إسرائيل على جرائمها بحق الفلسطينيين ولو بعد حين. وتبقى تلك الثغرات القانونية أيضاً في مصلحة الفلسطينيين، فعلى الرغم من عدم إمكانية إحالة الجرائم المرتكبة خلال حروب غزة إلى «الجنائية» من خلال دولة فلسطين، لأن النطاق الزمني للمحكمة يسري على الجرائم المرتكبة قبل تاريخ تصديق الدولة المشتكية على ميثاق المحكمة، إلا أنه من الممكن أيضاً للمحكمة النظر في حروب غزة من خلال الإحالة من قبل مجلس الأمن أو المدعي العام للمحكمة. ويمكن لفلسطين أيضاً أن تعدل تشريعاتها المحلية، لتتواءم مع المعاهدات الدولية التي انضمت إليها، مع الوضع في الاعتبار الحق المشروع للمقاومة في ظل وجود الاحتلال، الأمر الذي سيخرج رجال المقاومة الفلسطينية من نطاق عقوباتها، كما يمكن تنسيق أعمال المقاومة فلسطينياً لتراعي الاعتبارات القانونية الدولية. هذا بالإضافة إلى ضرورة تفعيل عمل اللجنة الوطنية العليا للمحكمة الجنائية والتي كانت برئاسة الراحل صائب عريقات، لتكون أكثر تخصصاً وتنوعاً.

د. سنية الحسيني  كاتبة وأكاديمية فلسطينية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى