أقلام وأراء

د. سنية الحسيني تكتب غزة تنتصر..!

د. سنية الحسيني *- 22/5/2021  

حركة “حماس” هي من بدأت المعركة هذه المرة مع الاحتلال الصهيوني من أجل مدينة القدس، التي لا يقدسها فقط مسلمي ومسيحي فلسطين، بل مسلمي ومسيحي العالم أجمع. شكل تحدي حركة “حماس” هذه المرة للاحتلال، وتكبيدها له خسائر فادحة، صدمة قاسية لمنظومة ردعه، لم يعتد عليها من قبل، حتى من قبل ألد أعدائه من دول أو تنظيمات. كسر تحدي “حماس” لإسرائيل بهذه القوة هذه المرة ومن أجل القدس جميع الحواجز المادية والمعنوية التي عملت إسرائيل على بنائها وتدعيمها بين الفلسطينيين على مدار ثمانية عقود، فالتحم الفلسطينيون في انتفاضتهم هذه المرة في أراضينا المحتلة عام ١٩٤٨، وفي الضفة الغربية، لدعم تحدي “حماس” وصمود قطاع غزة. حفز تحدي “حماس” للاحتلال عمل منظومة التكامل الفلسطيني الوطني، الذي طالما عمل الاحتلال على تشتيتها لاضعافها. يأتي ذلك كله في ظل أزمة إسرائيل الداخلية المتمثلة في عجزها عن تشكيل حكومة مستقرة خلال السنوات الأخيرة الماضية، تحظى بدعم من معظم الفئات السياسية المختلفة. تمكن الفلسطينيون بصمودهم ولحمتهم هذه المرة بقلب معادلة الصراع في فلسطين مع المحتل.

في مقال سابق كتبته عام  ٢٠١٧ كان بعنوان “الشرارة الأولى تبدأ من المسجد الأقصى”، ذكرت فيه أنه من المرجح أن يكون المسجد الأقصى الشرارة التي ستشعل النار في وجه المحتل، ففي كل مرة يقترب الاحتلال من استفزاز الفلسطينيين في القدس تنفجر فلسطين في وجه الاحتلال، فالقدس كانت الشرارة التي أشعلت الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام ٢٠٠٠. والعديد من أحداث المواجهة مع الاحتلال الصهيوني انطلقت من القدس، وكان ذلك أيضاً في الماضي خلال عهد الاحتلال والانتداب البريطاني، تماماً كما فجرت الثورة العارمة الأخيرة التي عمت جميع أنحاء فلسطين من نهرها لبحرها، بعد الأحداث الأخيرة في الشيخ جراح. تعكس القدس، بالإضافة إلى مكانتها الدينية والمعنوية للفلسطينيين، صورة للواقع الذي يسعى الاحتلال لتغيره بالقوة على مدار ثمانية عقود.

إن عمليات التهويد المبرمجة في المدينة المقدسة ومساعي الاحتلال لتوحيدها، لتغير واقعها بفرض معطيات جديدة، بنهب الأرض ونقل السكان وهدم البيوت وتغيير الأسماء وتبديل المعالم لنفي التاريخ وقلب الحقائق، بهدف تثبيت روايته الوهمية بالقوة، هي ذات الإجراءات التي مارسها من قبل في عكا ويافا، ويمارسها كذلك في الضفة الغربية.

إن مبادرة حركة “حماس” لخوض المعركة الأخيرة مع الكيان الصهيوني دفاعاً عن القدس وتحت عنوانها، استقطب دعم ومساندة جميع الفلسطينيين في جميع أرجاء الوطن المحتل، في مشهد غاب منذ سنوات طويلة.

لا يمكن القول أن مشهد الاتحاد والتكامل الوطني  الفلسطيني في جميع أرجاء فلسطين جاء بشكل مفاجئ، فتبجح الكيان الصهيوني في تعامله مع الفلسطينيين عموماً في القدس والضفة والغربية وحصار قطاع غزة وسياسات التمييز العنصرى في الأراضي المحتلة عام ١٩٤٨، وتصعيد المواجهة معهم، بالإضافة إلى فشل عملية السلام مع السلطة الفلسطينية،  كشف الوجه الحقيقي لطموحات هذا الكيان، فترجم يأس الفلسطينيين بما تشهده الأراضي الفلسطينية اليوم في كل بقعة فيها.

يدعم جميع الفلسطينيين اليوم جبهة غزة، لأنها الجبهة الفلسطينية الوحيدة المتبقية التي تعكس مفهوم القوة، ذلك المفهوم الذي لم تعرف إسرائيل مفهوماً غيره في تعاملها معهم أو حتى مع الدول العربية المتصارعة معها، ولأن مفهوم السلام الذي جاءت به إسرائيل عبر اتفاقيات أوسلو أثبت عدم فعاليته أو جدواه للفلسطينيين بعد مضي أكثر من ربع قرن. واعتبرت إسرائيل هجومها الحالي على غزة بمثابة حرب مقارنة بهجماتها الثلاث الماضية في ٢٠١٤ و٢٠١٢ و٢٠٠٩، والتي اعتبرتهم مجرد عمليات. شكل تطوير حركة “حماس” هذه المرة لقدراتها القتالية الهجومية تهديداً حقيقياً للكيان المحتل، لم تشكله أي قوة أخرى معادية لإسرائيل من قبل. وتشهد هجومات “حماس” والقوى المقاومة الأخرى الشريكة لها في قطاع غزة وما أحدثته من دمار للكيان وفي عقر داره على ذلك التطور. طورت حركة “حماس” قدراتها القتالية طوال سنوات الهدوء السابقة بعد حرب عام ٢٠١٤،  فزادت من تشييد وتأمين الانفاق، وطورت من دقة وقوة وفاعلية صواريخها الهجومية، خصوصاً بعد نجحها أيضاً في استخدام تقنيات خاصة للتقليل من أثر القبة الحديدية في ردع صواريخها. كما نجحت “حماس” في تطوير مستوى تنسيقها مع حركات المقاومة الأخرى في غزة خلال الحرب، خصوصاً حركة الجهاد، وبدا ذلك واضحاً خلال سير الأعمال القتالية.

شجعت إسرائيل الانقسام الفلسطيني، وقد تكون هي بالفعل من مهدت له، معتبرة أن استمراره يخدم مصالحها السياسية. ساهمت سيطرة حركة حماس على غزة في اضعاف مكانة وسلطة السلطة الفلسطينية عموماً بعد عام ٢٠٠٧، الأمر الذي أعطى لإسرائيل مبرراً لتعطيل مفاوضاتها مع الفلسطينيين، وتعطيل أي فرصة واقعية لحل الدولتين. في المقابل وضعت إسرائيل كل ثقلها للسيطرة على تطوير حركة “حماس” وفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى لقدراتها العسكرية في غزة، لابقائها ضعيفة بما يمكنها على القضاء عليها بسهولة وقت اللزوم. كما اخضعت إسرائيل قطاع غزة لحصار مشدد منذ حوالي عقد ونصف، لإدارة مستوى ضعفها المطلوب. وترجم تلك السياسات الإسرائيلية في سياسة الاغتيالات التي تنتهجها إسرائيل ضد قيادة المقاومة، وكذلك في شن حروبها الثلاث الماضية على قطاع غزة، والتي لجأ اليها الاحتلال وبادر بشنها بهدف تدمير أي قدرة عسكرية يتم بناؤها أو مراكمتها من قبل قوى المقاومة الفلسطينية في غزة. هذا بالإضافة إلى مساعيها لتثبيت سياسة ارهاب المدنيين في غزة، باستهدافهم وقتل الكثير منهم وتدمير ممتلكاتهم، لتنفيرهم من فكرة احتضان أي مظهر أو رمز من رموز المقاومة. هذه الحرب أثبت عدم نجاح إسرائيل في تقويض قوة المقاومة، تماماً كما فشلت في تنفير الشعب الفلسطيني عموماً وليس في قطاع غزة فقط من فكرة المقاومة، بعد أن التف الشعب الفلسطيني بأكمله دعما لغزة ومقاومتها.

نجحت غزة في إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، فبالاضافة إلى أنها وحدت الفلسطينيين في جميع أماكن تواجدهم تحت راية نصرة القدس ودعم لمقاومة غزة، وأعادت تذكير العالم بالقضية الفلسطينية، وجلبت الدعم والمساندة من جهات لم تكن القضية الفلسطينية ضمن أولوياتها، وضعت غزة معطيات جديدة في معادلة الصراع مع الاحتلال. وبات من الضروري الان استغلال ذلك التطور الذي احدثته نتائج الحرب فلسطينياً في معادلة السلام والتفاوض مع المحتل. إن ذلك يستوجب إعادة ترتيب البيت الفلسطيني من الداخل، فالمصالحة والوحدة هي الخطوة الضرورية التالية في طريق استعادة الحقوق.

* كاتبة وأكاديمية فلسطينية. 

 sania_hus@yahoo.com   

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى