أقلام وأراء

د. سنية الحسيني تكتب – الصندوق القومي اليهودي : لماذا يفصح عن سياسته الآن؟

د . سنية الحسيني *- 18/2/2021

بعد إعلان الصندوق القومي اليهودي في الرابع عشر من الشهر الجاري عن مشروع قرار يقضي بتوسيع نطاق عمله ليشمل الضفة الغربية المحتلة وتخصيص ما يزيد على مليار دولار لشراء أراض فيها، هدد محمد شتية رئيس الوزراء بمقاضاة الصندوق أمام المحكمة الجنائية الدولية. أدان شتية أيضاً مساعي الاحتلال لإقامة مستوطنة (E1) شرق مدينة القدس، مؤكداً أنها ستعزل المدينة عن الأغوار كما أنها ستفصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها. وكان الفلسطينيون قد رفعوا ثلاثة ملفات أمام المحكمة الجنائية الدولية على رأسها الاستيطان، بالإضافة إلى ملفي الأسرى والاعتداءات الإسرائيلية على غزة. لماذا افصح الصندوق عن سياسته في الضفة الغربية الآن، رغم قرار المحكمة بسريان ولايتها الإقليمية على الأراضي الفلسطينية، الأمر الذي قد يعرضه للمساءلة؟ وهل يكفي مواجهة سياسات إسرائيل الممنهجة والساعية لتقويض مستقبل كريم للفلسطينيين فوق أرضهم بانتظار قرارات المحاكم، التي وكما نعلم تستغرق سنوات؟ لقد نجحت إسرائيل وخلال أربع سنوات فقط، خلال عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، في مضاعفة مشاريع الاستيطان مرة ونصف، مقارنة بالسنوات الأربع التي سبقتها.

العديد من الجهات اليهودية داخل إسرائيل وخارجها عارضت مشروع ذلك القرار الذي أعلن عنه الصندوق القومي اليهودي، والذي يدخل حيز النفاذ بعد تصديق مجلس إدارته، حيث جرى تأجيل ذلك إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية في آذار المقبل. وتراوحت أسباب تلك المعارضة ما بين القلق من استفزاز الإدارة الأميركية الجديدة، التي نددت بالفعل بالقرار، واعتبرت خطوات إسرائيل أحادية الجانب، والممثلة بالضم والبناء في المستوطنات وهدم مساكن الفلسطينيين، مقوضة للجهود المبذولة من أجل تحقيق السلام، والقلق من خسارة شريحة واسعة من ممولي الصندوق، والذين يرفضون تمويل مشاريع إسرائيلية داخل حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٧.

ورغم ذلك، وعد أبراهام دوفدوفاني رئيس الصندوق بإجراء تعديلات على القرار تسمح بالتصديق عليه بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس إدارة الصندوق، وذلك بحصر شراء الأراضي في الضفة الغربية في مناطق الكتل الاستيطانية التي تحظى بإجماع إسرائيلي، وتحديداً حول “غوش عتصيون” و”القدس الكبرى” وجبال الخليل الجنوبية والأغوار، الأمر الذي يوحي بعدم نية الصندوق التراجع عن قراره رغم الانتقادات.

هناك حقيقتان تحكمان عمل الصندوق القومي اليهودي وتساعدان في تفسير السبب الذي دفعه باتخاذ قرار الإعلان عن توسيع مجال عمله في الضفة الغريبة، تتمثل الأولى في أن الصندوق يمثل ذراعاً من أذرع دولة الاحتلال في تنفيذ مخططاتها الاستيطانية ولكن بشكل غير رسمي، بينما تكمن الحقيقة الثانية في أن الصندوق يعمل في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٧ منذ احتلالها، لكن دون الإفصاح عن ذلك صراحة.

ويعتبر الصندوق جمعية خيرية مسجلة في بريطانيا والولايات المتحدة وكندا وإسرائيل، ويعمل في أكثر من خمسين دولة أخرى، وتعفى التبرعات المقدمة له من الضرائب على هذا الأساس. كما يعتبر الصندوق ركناً أساسياً من أركان المشروع الصهيوني في فلسطين، وأقيم بإيعاز من الحركة الصهيونية وبإصرار من تيودور هرتزل عام ١٩٠١، خلال المؤتمر الصهيوني الخامس. وتركز عمله على جمع الأموال والتبرعات من اليهود حول العالم، لشراء الأراضي الفلسطينية أثناء العهد العثماني والاستعمار البريطاني بعد ذلك لاقامة المستعمرات اليهودية. وواصل الصندوق عمله بعد النكبة عام ١٩٤٨ لمصادرة أراضي الفلسطينيين الذين طردوا من أرضهم، واستخدم قانون الغائبين الذي سن عام ١٩٥٠ لتشريع ذلك. وتظهر البيانات الرسمية أن الصندوق يحكم سيطرته على حوالي ١٣ بالمائة من أراضي العام ١٩٤٨، وأن هناك أكثر من مليونين ونصف مليون دونم تقع ضمن ملكيته. كما أن بصمته ظاهرة بوضوح على ما يزيد على ألف بلدة ومستوطنة في مختلف أنحاء تلك الأراضي، سواء من خلال شرائها أو تطويرها وتأهيلها، على حد وصف الصندوق نفسه.

في عام ١٩٥٣، سن الكنيست قانوناً يمنح الصندوق مكانة قانونية خاصة تمكنه من القيام بوظائف حكومية، لكن دون اعتباره جهة حكومية رسمية. وفي العام التالي، صادق الكنيست على تعديل يحدد نطاق نشاط الصندوق، وحصره بتلك المناطق التي تخضع لسيادة دولة إسرائيل. وفي عام ١٩٦١، وقعت الحكومة الإسرائيلية مع الصندوق على ميثاق ينظم العلاقة بينهما، ومنح من خلاله حق التمثيل بمندوبين عنه في مجالس مديرية أرضي إسرائيل الرسمية. وفي عام ٢٠٠٩، عندما أجرى الكنيست تعديلاً على قانون دائرة أراضي إسرائيل والتي باتت في التعديل سلطة أرض إسرائيل، أبقى على حق الصندوق في التمثيل في السلطة، وسمح بعملية تبادل بين أراضي الدولة والصندوق. وفي عام ٢٠١٤، وفي ظل ذروة خلاف الحكومة الإسرائيلية مع إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما حول الاستيطان، اتخذ الصندوق قراراً بالانفصال عن الدولة، وإنهاء تعاقده مع سلطة أراضي إسرائيل، وتحولت مكانته من شركة خاصة إلى شركة لمنفعة الجمهور.

وقدم الصندوق في ذلك العام، وبصفته القانونية الجديدة، ولأول مرة منذ تأسيسه، تقرير حول أنشطته وميزانياته وممتلكاته، إلى وزارة العدل، والتي تقرر بدورها ما يجوز نشره وما يبقى طي الكتمان. وفي مشروع القرار الذي تبناه الصندوق مؤخراً، تم التأكيد على أنه سيواصل مشروع التحريج في المناطق المفتوحة في الضفة الغربية لغرض الحفاظ على الأراضي بالتنسيق مع الإدارة المدنية. من الواضح أن علاقة الصندوق بالدولة علاقة جذرية، قائمة على التكامل والتعاون الكامل وتقسيم الادوار في اطار ملف الاستيطان، وهناك مرونة في إخراج شكل تلك العلاقة قانونياً، بما يتناسب مع طبيعة تلك الأدوار المتغيرة حسب الحاجة وتبدل الظروف.

أما الحقيقة الثانية التي تحكم عمل الصندوق فتتمثل في عدم انحصار عمله في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٤٨، كما الادعاء. وبدأت أول شواهد عمله في الضفة الغربية عندما قام بالاستيلاء على ما تبقى من القرى الفلسطينية “عمواس”، “يالو” و”بيت نوبا”، التي قام الجيش الإسرائيلي بتهجير سكانها وتدميرها بأوامر من اسحق رابين، رئيس أركان الجيش خلال حرب عام ١٩٦٧. كما يتضح نطاق عمله في مدينة القدس، حيث يبدأ بالاستيلاء على أراضي وبيوت في المدينة وضواحيها فور احتلالها، من خلال شركة “هيمينوتا” التابعة له، مستغلاً سريان قانون أملاك الغائبين. وتأسست شركة “هيمينوتا عام ١٩٣٨ كذراع للصندوق لشراء وإدارة الأراضي التي تحت سيطرته، وتقرر تغيير اسمها إلى كدما يهودا والسامرة في مشروع القرار الأخير الذي أعلن عنه الصندوق.

وبدأ تعاون وتنسيق وثيق بين الصندوق ومنظمة “إلعاد” أو جمعية مدينة داود منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، حيث تتولى تلك المنظمة المسؤولية المباشرة عن الاستيلاء على البيوت والعقارات الفلسطينية في أحياء القدس الشرقية. وتقوم بنشاطاتها معتمدة على ميزانية كبيرة من التبرعات وصلت ما بين عامي ٢٠٠٥ و ٢٠١٨ إلى أكثر من ٧٠٠ مليون شيكل. ويخول الصندوق المنظمة صلاحية خوض معارك قضائية في المحاكم الإسرائيلية لصالحه. ونشأت منظمة “إلعاد” عام ١٩٨٦ كجمعية غير ربحية بهدف تعزيز الوجود اليهودي في القدس الشرقية وضواحيها. وأكدت حركة “السلام الآن” إلى أن الصندوق سيطر على أكثر من ٦٥ ألف دونم في الضفة الغربية ما بين الأعوام ١٩٦٧ و٢٠١٩. وخلال السنوات الأربع الأخيرة، دفع الصندوق ما يقدر بـ ٨٨ مليون شيكل للاستيطان في الضفة الغربية، وتكفل باتخاذ الإجراءات القانونية لإجبار الفلسطينيين على إخلاء بيوتهم. من الواضح أن نطاق عمل الصندوق كان وما يزال في اطار أراضي الضفة الغربية بما فيها مدينة القدس، اذن لماذا يصرح الصندوق الان عن ذلك؟

تكمن أهمية توسيع دور الصندوق في عمليات الاستيطان في الضفة الغربية في حرية تحركه بشكل أكبر دون متابعة أو رقابة خارجية، وهي قضية مهمة وحساسة في ظل إدارة الرئيس جو بايدن المنتقدة لسياسة إسرائيل الاستيطانية في الضفة الغربية. كما أن الصندوق سيتحرر من الإجراءات البيروقراطية والمساءلة القانونية التي تخضع لها الحكومة الإسرائيلية، خصوصاً وأنه يستطيع الاستيلاء على الأراضي بطرق أخرى تتعدى المؤسسة القانونية، كما أن نقل ملكية الأراضي التابعة للصندوق إلى المستوطنين أسهل بكثير مقارنة بتلك الأراضي التابعة للدولة.

يبدو أن مشروع القرار الذي أقره الصندوق قد جاء لضمان تنفيذ سياسة الحكومة الإسرائيلية فيما يتعلق باستكمال مشاريعها الاستيطانية، لكن دون تحمل تبعاتها السياسية خصوصاً مع الإدارة الأميركية الجديدة، وذلك بوضع الصندوق في واجهة الاحداث القادمة.

*كاتبة وأكاديمية فلسطينية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى