#شؤون اقليمية

د. حسن أبو طالب: تركيا وحل حزب العمال.. حقبة جديدة: طموحات وعقبات

د. حسن أبو طالب 19-5-2025: تركيا وحل حزب العمال.. حقبة جديدة: طموحات وعقبات

استجابة لدعوة مؤسس حزب العمال الكردستانى وزعيمه التاريخى عبد الله اوجلان، 27 فبراير الماضى، بحل الحزب والتركيز على العمل السياسى وبناء مجتمع الإخاء والديمقراطية في الدولة التركية، قرر الحزب في مؤتمره العام الثانى عشر الذى عقد في موقعين منفصلين في منطقة جبل قنديل شمال العراق، والتي تُعرف بالمثلث الإيراني – العراقي- التركي، قرر حل هياكله التنظيمية وإلقاء السلاح والتحول إلى الأساليب السياسية، معتبراَ أن سنوات الكفاح المسلح طوال 37 عاما، منذ تأسيس الحزب 1978 وحتى الآن، لم تكن هباء، فقد أثمرت الاعتراف بوجود قضية كردية، وأنهت التهميش والإقصاء الذى استمر زمنا طويلا من الإبادة، التي تلت معاهدة لوزان 1923، حسب بيان الحزب.

تحولات تركية وإقليمية كبرى

قرار الحل يفسح المجال لعملية تحول كبرى في الدولة التركية، وفى دول مجاورة أهمها سوريا والعراق وإيران، وجميعها لديها أكراد ينتمون إليها فعليا، وكثير منهم يؤمن ويتطلع لدولة كردية خالصة تضم الجميع، واخرون يؤيدون الاعتراف بخصوصيتهم في إطار الدولة التي ينتمون إليها، ما يعكس تنوع توجهات الاكراد بشأن الكثير من القضايا التي تخص علاقاتهم مع سلطات الدول التي ينتمون إليها، ومع بعضهم البعض. كما تمتد التأثيرات إلى فروع حزب العمال الكردستان التركى والجمعيات الكردية عامة في عدد من البلدان الأوربية، التي ركزت على العمل السياسى والفكرى، بالرغم من أن العديد من الدول الأوربية تصنف حزب العمال الكردستانى باعتباره منظمة إرهابية، ولكنها تسمح بقدر من التعاطف مع القضية الكردية من منطلق ثقافى وإنسانى.

وبالرغم من حالة التفاؤل السياسى التي ظهرت في الداخل التركى، بعد قرار حل الحزب لنفسه، فثمة أصوات معارضة للعملية برمتها، أبرزها الحزب الجيد وحزب النصر، وهما حزبان قوميان صغيران، انطلاقا من قناعات قومية ترى الأكراد واندماجهم الكامل في الحياة السياسية التركية سوف يغير طبيعة تركيا نفسها، وسوف يطرح علي المجتمع مشكلات كبرى تتعلق بالهوية، لاسيما مبدأ الهوية القومية التركية الخالصة التي بنيت عليها السياسة التركية داخليا وخارجيا طوال المائة عام المنصرمة، منذ معاهدة لوزان 1923. وتمتد الاعتراضات إلى احتمال أن يتقارب حزب الشعوب والمساواة والديمقراطية إلى تحالف الشعب الحاكم، ما يُغير التوازن في البرلمان التركى، ويتيح فرصة للرئيس أردوغان لتعديل الدستور وقوانين الانتخابات، ما يسمح له بالترشح مرة أخرى.

طموحات ومشكلات

التحولات المنتظرة في الدولة التركية مليئة بالتحديات والطموحات، شعارها الرئيسى وفق الرؤية الرسمية “نحو تركيا بلا إرهاب”، وهو الطرح الذى دشنه أكتوبر 2024 دولت بهتشلي، رئيس حزب الحركة القومية التركية، الحليف الرئيسى لحزب العدالة والتنمية تحت مظلة تحالف الشعب، وترتب عليه اتصالات مع عبد الله اوجلان في محبسه، عبر حزب المساواة والديمقراطية الكردى والممثل في البرلمان التركى، قادت إلى دعوته بحل الحزب والتحول الى العمل السياسى.

الدعوة إلى “تركيا بلا إرهاب”، عبرت عن توجه يُعنى بالتعامل مع القضية الكردية من منظور سياسى وآليات تفاوضية، والتخلى عن الحصار والإقصاء. يقابلها دعوة أوجلان لبناء مجتمع الإخاء والديمقراطية. وجوهر الدعوتين يقوم على إنهاء العمل العسكرى وآلياته من كلا الطرفين؛ الدولة التركية وحزب العمال معا، والبدء بمقاربة جديدة قوامها إدماج الأكراد في مجمل العملية السياسية في الدولة التركية، بداية من الاعتراف بوجود قضية كردية، ومرورا بإفساح المجال العام أمام الأكراد للعمل السياسى بدون أى قيود وفقا لما يطمح إليه أوجلان وحزبه بعد حل نفسه، والاعتراف بثقافتهم الخاصة دون تجريم او إدانة، مع الالتزام بالدستور القائم، سواء تم تعديله أم بقى على ما هو عليه. والأمر على هذا النحو يحقق لتركيا، دولة ومجتمعا، من وجهة نظر الطرفين حالة من السلم الأهلى تدعمه الأنشطة الديمقراطية وفق القانون، دون أدنى تحدى للدولة ومؤسساتها.

الوصول إلى هذا النموذج، أي نموذج السلم الأهلى ودولة لكل مواطنيها، وإن أتفق على أهميته وضرورته، استباقا لما قد تحمله التطورات الجارية في الشرق الأوسط ككل من تغيرات غير مأمونة الجانب على المصالح التركية، وعلى أدوارها الإقليمية، فإنه يتطلب العديد من القرارات والتغييرات القانونية والسياسات اليومية والاستراتيجية معا. وهنا تتحمل المؤسسات التركية العبء الأكبر في إحداث هذا التحول المنشود، دون إغفال مسئولية كوادر حزب العمال الكردستانى في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه بشأن إنهاء العمل العسكرى، واتباع السبل السياسية لبلورة واقع كردى سلمى جديد في الدولة التركية.

سلاح الحزب وتعقيداته

من جانب آخر، لم يتضح بعد الآليات التي تم الاتفاق عليها بشأن كيفية حل الحزب لنفسه وهياكله التنظيمية وكيفية التعامل مع سلاحه، وما هي الآليات التي سوف تسمح للمؤسسات التركية التأكد بأن ما أعلنه الحزب جارى تنفيذه على الأرض. والمعروف أن سلاح الحزب منتشر في منطقة جبلية تمتد في ثلاث دول، منها سوريا والعرق وإيران ثم تركيا ذاتها، وفى كل منها تنظيم كردى مسلح، وله قدر من الخصوصية عن حزب العمال الكردستانى التركى، ما يجعل عملية تسليم السلاح أو التخلص منه عملية معقدة وتتطلب التعاون مع الدول الأخرى، وقبل ذلك أن يقبل التنظيم الكردى سواء في العراق أو سوريا أن يكون جزءاَ رئيسيا من هذه العملية المتشابكة.

وفى هذا السياق يُطرح أن يتم تسليم سلاح الحزب إلى الدول التي يعمل على أراضيها، وتحديدا كل من العراق وسوريا، ومن الناحية العملية يتوقف الأمر على قدر عال من التنسيق مع هاتين الدولتين وكوادر حزب العمال المنحل ذاتيا والسلطات التركية، ولم يتضح بعد الخطوات التي اتخذت أو نوقشت مع الحكومتين السورية والعراقية لتسلم سلاح الحزب. وثمة من يشير إلى أن جماعة مسلحة كردية تعمل في إيران ذات صلة وثيقة بحزب العمال الكردستانى، وهى متأثرة بأفكاره التاريخية المتعلقة بالقومية الكردية الشاملة، ومن غير الواضح كيف سيتم التعامل مع هذه الجماعة المعروفة باسم حزب “الحياة الحرة”، ومرة ثانية تبرز ضرورة التنسيق مع السلطات الإيرانية.

حذر رسمي وتعقيدات عملية

تركيا من جانبها وبالرغم من الترحيب الحذر وتفاؤل مؤسساتها الرسمية، فثمة شروط تراها أساسية لنجاح عملية بناء تركيا خالية من الإرهاب، فوزير الخارجية التركى هاكان فيدان، وصف قرار الحزب بكونه “مرحلة ومشجعه” ولكنه ربط الأمر بجملة من الإجراءات والمتابعات من قبل المؤسسات التركية للتأكد من قرار التخلي عن السلاح، وعدم وجود مجموعات غير منظورة قد تفسد العملية ككل. فتسليم السلاح وفقا لهاكان لا يكفى وحده، بل يجب تفكيك ما اسماه “البنية التحتية الاستخباراتية أو التجارية التي أسسها الحزب منذ نشأته، وبأسماء مختلفة وتنتشر في عدة دول، كشرط ضرورى لضمان إنهاء التهديد بشكل كامل”.

وبالقطع فإن الوصول الى درجة اليقين الكامل بتفكيك هذه المنظمات الفرعية وأيا كانت أسماؤها، سوف يتطلب مدى زمنياَ طويلاَ، ومباحثات مع قيادات الحزب المُنحل ذاتيا، وهى العملية التي يُقدر أن يلعب فيها عبد الله أوجلان دوراً مهماً ومؤثراً. وبالرغم من أن حزب المساواة والديمقراطية الكردى، يطالب بالإفراج عنه لتيسير عملية تفكيك بنية الحزب العسكرية وإعداده للتنافس السياسى السلمى، يبدو أوجلان نفسه ذو 76 عاما، لا يرغب في الخروج من محبسه، تحسبا لتعرضه لعملية انتقامية، أو هكذا تروج السلطات التركية، على أن تقوم بتحسين ظروف المحبس، كالسماح بمزيد من الزيارات العائلية، والتواصل مع كوادر الحزب، وتقديم الخدمات الطبية، والسماح بوقت كاف من التحرك في الأماكن المفتوحة، وتعيين ضابط لتسهيل الخدمات المقدمة له. وهى تسهيلات تراعى ظروفه الصحية، وما يمكن أن يقوم به لإتمام ما طالب بتحقيقه لتعزيز الاخوة التركية الكردية. وتبدو السلطات التركية حريصة على حياة أوجلان واستمرار تأثيره المعنوى على الأكراد بشكل عام، وليس فقط عناصر الحزب وقياداته.

كوادر الحزب.. إلى أين؟

في الوقت ذاته يثور حديث غامض حول مصير كوادر الحزب، لاسيما أصحاب المناصب القيادية، وهل سيتم العفو عنهم، أم سيتم نقلهم إلى بلد أخر غير أوربى، وما هي تلك البلدان التي سوف تقبل استضافتهم. ويمتد الجدل حول كيفية التعامل مع العناصر الشبابية في الحزب غير القيادية، وكيف سيُسمح لهم بالعودة إلى الداخل التركى، ومدى السماح لبعضهم للانخراط في الحياة السياسية التركية كمواطنين عاديين. وفى كل الأحوال كيف سيتم إعادة تأهيلهم ومن سيتولى هذه المسئولية؟ وجميعها إشكاليات سياسية مثار جدل عام، ولم تُحسم بعد.

إذا، فالتعامل مع أعضاء الحزب الكردى يشكل معضلة سياسية ومجتمعية كبرى، لاسيما لدى قطاع من الاتراك بما فيهم أكراد قُتل أبناؤهم أو تعرضوا لإصابات نتيجة المواجهات الأمنية التي حدثت في العقود الأربعة الماضية. كما أن حسم مصير المعتقلين من الأكراد بسبب اتهامهم بالمشاركة مع تنظيم إرهابى لم يعد موجودا، ورؤساء البلديات الأكراد الذين طُرودا من مناصبهم، يتطلب تعديلا تشريعيا، يُطالب به الأكراد بحيث يُسمح بالإفراج عنهم، ومن ثم إعطاء دفعة نحو المساواة بين كل المواطنين الاتراك.

واجمالا فإن الوصول إلى صيغ متوازنة للإشكاليات السياسية والقانونية والعملية المتعلقة بتفكيك الحزب وهياكله المختلفة، والسماح للغالبية من أعضاء الحزب بالعودة إلى داخل تركيا، والعيش بطريقة طبيعية، سوف يسهم في تغيير الواقع السياسى والمجتمعى التركى، والأمر بحاجة إلى مباحثات وأفكار غير تقليدية، وإعداد الرأي العام لمثل هذه التغييرات الكبرى المحتملة. ومن ثم فالطريق إلى تركيا خالية من الإرهاب، بحاجة إلى مزيد من الجهد والأفكار الخلاقة.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى